قراءة في رواية: أولاد الناس. ٣ من ٣

أحمد العربي

ريم بسيوني روائية مصرية متميزة، لها العديد من الروايات، روايتها أولاد الناس حصلت على جائزة نجيب محفوظ عن عام ٢٠٢٠م، وهي رواية طويلة ٧٥٨ص من القياس المتوسط

تبدأ الرواية من زيارة ياسمين لوالدها الدكتور صلاح في مصر، وهي القادمة من إيطاليا حيث تعيش مع والدتها، والدها د. صلاح المهتم و المنشغل بالتاريخ المصري. أعطاها والدها أوراق رواية كتبها لنشرها بعد حين. الفتاة غير مقتنعة بذلك، تهمل الرواية لسنوات، تترك الرواية لابنتها جوزفين التي ستنشرها بعد ذلك.

في الجزء الثالث للرواية، ننتقل حوالي القرنين من الزمان بالنسبة للحدث الروائي، إلى عام ١٥٠٧م، حيث بداية دخول العثمانيين إلى مصر وسقوط دولة المماليك.

السرد يتم على شكل شهادات يقدمها ثلاثة أشخاص بتسلسل يرصد تطور الحدث ويطل عليه من زوايا مختلفة. هند إبنة المؤرخ المشهور أبو البركات ابن إياس الذي وثّق في كتاباته تلك المرحلة بالتفصيل. كذلك سلار الأمير المملوكي. والثالث الترجمان مصطفى باشا العثماني.

يبدأ الحدث في هذا الجزء من لحظة دخول العثمانيين الى القاهرة، هازمين المماليك، وهم يتجولون في انحائها يستولون على كل شيء، في حالة جمع لغنائم الحرب. في هذه الفوضى كانت هند وأخاها الصغير في السوق، وجدت نفسها وقد قبض عليهما بعض الجنود الاتراك، حاولت التفاهم معهم وأن والدها من اغنياء القاهرة واعيانها وأنه يعطيهم ما يريدون وأن يذهبوا معها اليه، لكنهم لم يفهموا لغتها. كان في السوق أحد الفلاحين في عربته، شاهد ما حصل مع هند وأخيها، دفع للجنود المال وأخذ هند وأخاها منهم. اصحبها وأخيها إلى منزله، كان قليل الكلام، علمت أن اسمه حسام الدين، وأنه يعمل في الزراعة مع أخيه الأكبر. أخبرته من تكون وأن يأخذها وأخيها الى والدها، فيرد له ماله ويكافئه. لم يستجب لذلك، أخبرها أن العثمانيين يعيثون في القاهرة خرابا وأن والدها نفسه ليس في مأمن. وأنها هي وأخاها أصبحا من عبيده فقد اشتراهما بماله. رفضت هند هذا الواقع وقالت لا يحق له استرقاق حرّة، ولن تقبل أن يعاملها على هذا الأساس. حاول ان يعاشرها جنسيا طالما أنه يملكها، رفضت، لكنه أجبرها على ذلك. اصيبت بخيبة، فجعت بما حصل معها لكن لم تستطع فعل شيء اتجاهه، كانت تواجهه برفضها وتتمنى لو تقتله او يموت، لكن واقع حالها أنه يحصل على ما يريد دوما وهي تعيش واقعها مقهورة. أما حسام الدين فلم يكن فلاحا بحقيقته، بل أحد أمراء المماليك واسمه سلار، من الذين تخفوا بين المصريين، خوفا من بطش العثمانيين، كان أحد القادة الكبار عند السلطان المملوكي طومان، الذي اختفى هو أيضا، وكان قد وطّد نفسه على أن يقاوم العثمانيين مع مع تبقى من المماليك الذين لم يقبلوا بالهزيمة. شاهد هند وأخاها واشتراهم من العثمانيين لكي لا تكون ضحية اغتصاب جماعي من الجنود وقد تموت، يعتبر ان هند عبدة عنده وله عليها حق الجماع والخدمة وأن لا ترفض له أمرا. كان يستاء من نزعة الحرية عند هند ومواجهته كل الوقت وعدم قبولها بالأمر الواقع الذي حصل معها. قرر سلار ان يتواصل مع السلطان المتواري وبعض القادة الآخرين وما تبقى من الجنود وأن يشنّوا هجمات على الجنود العثمانيين بشكل مفاجئ. وهذا ما حصل. كان العثمانيون بقيادة السلطان العثماني سليم شاه، قد تمددوا الى خارج الأناضول حيث تأسست دولتهم، فتح بلاد الشام التي كانت تابعة لسلطة المماليك، وتوجه بعدها الى مصر فاتحا. كان تعداد جنوده ما يزيد عن ١٥٠ ألف جندي، وكانوا مدججين بالسلاح الناري والمدافع التي لم يكن للمماليك معرفة بها ولم تكن بحوزتهم، لذلك خاضوا معركة خاسرة وانهزموا وسقط حكم المماليك في مصر بعد أن استمر لقرون. لكن المماليك لم يستسلموا، لقد كانوا يؤمنون انهم ابناء مصر ولو أنهم جاؤوا منذ طفولتهم من بلاد بعيدة، لكن مصر بلادهم يعيشون بين أهلها ويتكلمون لغتها و يتعايشون مع شعبها، حصلت زواجات مختلطة وأنجبت جيلا اسمي اولاد الناس وأصبحوا بمضي السنين مصريين. بالمختصر نظموا مجموعات مقاومة وبدؤوا يهاجمون العثمانيين في كل حي وشارع ، فجأة يقتلون ويجرحون العديد منهم ويختفون بسرعة كما ظهروا.

 لم يكن السلطان سليم يرضى بذلك، يدرك أن المماليك متجذرين في الواقع المصري، لذلك قرر الاعتماد على البصاصين (المخبرين) لمعرفة من يقود هؤلاء ليصل إليه ويقتله. واستمال أمراءهم و وعدهم أن يعطيهم اقطاعيات ويسلمهم الحكم على أن يكون الولاء له. نجح في اجتذاب البعض، وعرف أن السلطان المملوكي طومان المهزوم يقود التمرد مع بعض الأمراء والجنود المماليك وأنهم يجتمعون في أحد مساجد القاهرة وأن هناك إمام يدعمهم. هاجم المسجد وقتل الامام واستطاع القبض على طومان السلطان المهزوم بعد ذلك. اعدمه ووضع رأسه في باب الزويلة، وبعث أحد الأمراء المماليك ممن تعاون معه ليستميل الأخرين. لكن الأمراء سلار وإينال والعادلي رفضوا ذلك و تعاهدوا على قتل السلطان سليم. حاولوا، وصلوا إليه لكنهم فشلوا. قتل سلار اينال بسهمه خوفا من القبض عليه وأن يعذبوه ويكشف سرهم، هرب سلار والعادلي. يأس العادلي بعد ذلك وقرر ان يعمل مع العثمانيين، أما سلار فلم يكن ليرضى بالهزيمة مطلقا. في الهجوم على السلطان سليم أصيب سلار بطلق ناري بقدمه والتهبت وقطعها من الكاحل. لم ييأس عاد يبحث عن هند وقرر ان يبدأ حياة جديدة.

أما هند فلم تكن لتقبل حياتها كعبدة يغتصبها سلار كل الوقت، زرع في نفسها الكره والحقد عليه، تمنت لو تقتله او يموت، عرفت من يكون، شاهدت جبروته وقوته، قتل أحد الجواسيس عليه بدم بارد. ومع الوقت والعشرة اصبحت تتقبل داخل نفسها حضوره وتشتاق له وتخاف عليه عندما يغيب في غاراته على العثمانيين. وعندما أصبح مطاردا، قرر إعادتها مع أخيها لوالدها وأعادها. افتقدت له، اخبرت اباها انها اختطفت من امير مملوكي، لم تخبره بحقيقة ما فعل معها. جاء من خطبها من والدها، لكن هند كانت متعلقة بسلار وتتمنى عودته. جاء اليها بعد وقت، ودعها وقال لها أن لا تفكر به، وأن تتزوج وتعيش حياتها. لكنها لم تيأس وبقيت تنتظر. وبعد أن قبضوا على السلطان طومان واعدموه، وحاول سلار مع الامراء الآخرين قتل السلطان سليم العثماني وقتل صديقه وأصيب هو واستسلم صديقه الآخر للعثمانيين وعمل معهم، اكتشف ان لا أمل له ولا حل. عاد الى هند وطلبها زوجة من والدها وتزوجها وأنجبت منه طفلا. عاش معها في اقطاعيته التي كانت في حوزته منذ كان أميرا. بقي مسكونا بهاجس المقاومة وأن العثمانيين مغتصبين وأن بعض المماليك خانوا وان المصريين ضحايا هذا الحكم الجديد. لكن ليس باليد حيلة.

أما الترجمان مصطفى العثماني فقد أرّخ للحملة العثمانية على بلاد الشام ومصر من وجهة نظر السلطان سليم والعثمانيين. كان يرى أن السلطان سليم قائد حربي كبير، كما أنه سياسي محنك. لا يستعصي عليه شيء، يعتمد على قوة جيشه وعديده الكبير وسلاحه المتطور ليدخل البلاد و يدحر الأعداء. كان يعتمد على اختراق صفوف الأعداء، تواصل مع أمراء المماليك واستمال بعضهم، الامير خاير بيك خان سلطانه طومان، وعجّل بهزيمة المماليك وأُعطي ولاية مصر وأصبح يحكم باسم السلطان سليم العثماني، وعندما زادت المقاومة في القاهرة اعتمد على البصاصين وعلم رؤوس المقاومة قتل البعض واستمال البعض واستكان البعض. حصل ذلك بعد تدمير أغلب احياء القاهرة، بحيث دفع الجميع للاستكانة والتسليم. هدأت القاهرة وأصبحت مصر تابعة للعثمانيين، استخدم السلطان سليم بقايا المماليك وأمرائهم حكّاما جددا تابعين له. بسقوط مصر أصبح سليم شاه ملكا متوجا على مكة والمدينة، واسمى نفسه: خادم الحرمين الشريفين. شاهد التطور العمراني في مصر وخاصة مسجد السلطان حسن ، أخذ بعض من محتوياته الى بلاده واصطحب معه أغلب الصناعية في كل الحرف وقرر ان يبني المساجد المماثلة واكبر منها. عاد بعد ذلك الى بلاده وعاش ثلاث سنوات وتوفي بمرض لم يعرف ما هو. استلم ابنه سليمان السلطنة العثمانية بعده. هكذا انتهت سلطة المماليك في مصر الى الأبد. عاش سلار مع هند وولده ملتاعا مما حصل مستسلما ولا يدري ماذا يفعل.

كانت هند تروي لوالدها ابو المكارم ابن اياس المؤرخ المعروف في ذلك الوقت يدون كل شيء، وكذلك سلار يروي لعمه والد هند ويدون، وكذلك المترجم العثماني مصطفى. وبهذا الشكل عاد التاريخ حيا وحاضرا كما استرجعته جوزفين حفيدة الدكتور صلاح لتدوّن روايتها بجزئها الثالث والاخير.

هنا تنتهي الرواية.

وفي تحليلها نقول:

٠ نحن أمام رواية طويلة ممتعة، تغوص عميقا في التاريخ، تستحضره للمعرفة والعبرة والفائدة. هذا النمط من الكتابة عُرف من قبل. ومن أهم من كتب مستحضرا التاريخ الروائي أمين معلوف.

٠ الرواية تغوص في الشخصية الانسانية بكل عمقها، فلم تكن تقف عند الحدث العام، بل تتبع واقع الحياة الفردية لأشخاص الرواية ويكون الحدث العام تحصيل حاصل. وبذلك يحضر الإنسان بواقعه وعواطفه وظروفه الاجتماعية. المملوكي المختطف وحياة القتال والحرب، القسوة، حياة الجواري والعبيد، السلاطين وكيف يعيشون، أبناء الناس والعامة، رجال الدين بصنفيهم رجال السلطان، ورجال قول الحق ولو دفع الثمن حياته. القضاة من باع نفسه ومن مثل العدل ولو مات دون ذلك.

٠ تحضر المرأة في الرواية بكل تنوعها المجتمعي. ندخل الى خفايا ذاتها، الحب، الغيرة، العنفوان، الإصرار، التميز، صناعة حياة فاعلة ومؤثرة. هي الزوجة والعشيقة والقائد الضمني في حياة كل الرجال.

أخيرا الرواية على طولها كانت شيقة وممتعة تمتلك جماع النفس، تجعلنا نعيش الماضي كأنه الآن، ننتصر لبعض الشخصيات ونعادي البعض، ننخرط مع ناسها فيما يعيشون. نخرج منها بحصيلة معرفية كبيرة…الخ

٥/٦/٢٠٢٠.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى