هوشنك اوسي روائي وشاعر كردي سوري مهاجر الى بلجيكا ومستقر فيها. منتمي للثورة السورية، قرأت له ثلاث روايات سابقة وطأة اليقين والافغاني سنوات قلقة وكتبت عنهما، كما قرأت رواية حفلة أوهام مفتوحة وفي كل رواية جديدة يأخذنا هوشنك اوسي الى عوالم جديدة يتداخل فيها السرد الفني المدروس والمتقن لعمله الروائي مع الغوص عميقا في التاريخ والواقع والعصر وإشكالات الذات: الكردية والسورية والعالمية، غوص عميق في ذات الإنسان بصفته إنسانا وعوالمه الداخلية والمجتمعية وما عاش ويعيش واحتمال أن يعيش، عوالم وأكوان في الذات الفردية والاجتماعية يتم استحضارها وكتابتها…
هكذا يفاجئنا هوشنك أوسي في كتابته الروائية انه نهر دائم الجريان ماء الرواية جديد ونقي ومستمر التدفق…
كأنّني لم اكن، روايته التي بين يديّنا تعتمد السرد بلغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها هوزان.
هوزان فنان كردي سوري يسكن في حي اليهود في دمشق وهو فنان رسم تشكيلي، له شهرته وله معارضه الفنية المتتالية التي يعرض فيها لوحاته الفنية في صالات دمشق ويتنقل لعرضها في كثير من مدن أوروبا والعالم. رسم وعرض الكثير من اللوحات وباع اغلبها وجنى المال اضافة للشهرة، بحيث أصبح ميسور الحال…
هوزان يستعد لمعرضه الجديد بإنجاز اللوحة الاخيرة من لوحات المعرض المحدد مكانه وزمانه…
وقت ذلك في عام ٢٠١١م ، حيث مضى عدة أشهر على بداية الثورة السورية، حيث بدأت المظاهرات المطالبة باسترداد الكرامة الانسانية المهدورة والحرية والعدالة والديمقراطية، وحيث قرر النظام مواجهة هذه الثورة بالعنف العاري المتدرج، اعتقال المتظاهرين واطلاق النار عليهم، يصاب ويستشهد ويعتقل البعض ويهرب الباقون حيث يعيدون الكرة مرة اخرى…
هوزان منشغل بلوحاته وانجازها، منفصل عن الحدث خارج بيته الذي يسكنه ومرسمه وعمله الدؤوب…
يستعيد هوزان حياته وحياة والده شالاو الذي احضرهم الى دمشق قبل سنوات بعيدة.
شالاو من أكراد العراق من قرية حاجي عمران القريبة من اربيل، والده شيخ وإمام مسجد القرية، يتبع الطريقة القادرية الصوفية، التي أصابتها تحولات الى النقشبندية بعد ذلك.
الملا مصطفى البارزاني كان يمثل القائد المجتمعي الملتفّة حوله القوى المجتمعية عشائر ووجهاء وله وجود حزبي، يتبعه قوة عسكرية “البشمركة”…
حصلت متغيرات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان هناك تغيرات نوعية في خرائط تشكيل الدول وولادة البعض وزوال البعض في ذلك الوقت، وتقاسم السيطرة على العالم بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي وبين الغرب بقيادة أمريكا.
وهكذا وجد الاكراد ان لهم الحق أن يخلقوا دولتهم القومية في الحيز الجغرافي المتواجدين فيه في إيران والعراق وتركيا وسوريا، لذلك سرعان ما أعلن القاضي محمد إعلان جمهورية مهاباد الكردية في كردستان إيران، وتم تجميع البيشمركة تحت قيادة الملّا مصطفى البرزاني للتوجه الى مهاباد لدعم الدولة الكردية الوليدة حديثا، دولة واعدة لعموم الأكراد في كل مناطق تواجدهم.
تحدث شالاو لابنه هوزان عن خروجهم مع الملا مصطفى البارزاني وعددهم ٥٠٠ مقاتل، وكيف انتقلوا في الجبال والوديان و بظروف قاسية. وكيف علموا بسقوط الدولة الوليدة على يد الدولة الإيرانية المدعومة من أمريكا والغرب وقتها. وكيف قرر الملا الانسحاب مع الروس و بمشورتهم الى الاتحاد السوفييتي وكيف انتهت معركتهم مع الأعداء قبل البدء بها…
استقر شالاو في طشقند وكيف اضطّر أن يتعلم لغة أهل البلاد للتواصل معهم، وكيف بدأ يفهم الدنيا وماذا يحدث فيها، وان يتقن مهنة النجارة يعمل بها، وكيف تعرف على الفتاة التي ستصبح زوجته. فهي ابنة شاعر روسي اعدمه ستالين لكونه كان على علاقة مع تروتسكي المعارض لستالين ايضا. لقد عايش عن قرب واقع القمع والبطش والتنكيل والقتل والنفي الى سبيريا والى جزر يترك فيها المعارضين يأكلون بعضهم ليستمروا بالعيش…
بدأ يفهم أن القضية الكردية صارت ورقة تستخدمها القوى العظمى روسيا وأمريكا في الصراع بينها وبدماء الاكراد انفسهم، وان علاقته مع قضيته الكردية لم تعد جذرية وحديّة كما كانت فقد دخلت الى عالمه أولويات جديدة، أسرته الجديدة خاصة أنه قد رزق بطفلة سماها مريم. وان الحياة طشقند وعمله وتعليمه وتوسع اطلاعه جعله يغادر قضيته الكردية ليعيش حياته الجديدة بكل تنوعها وايجابياتها بالنسبة له…
لكن سرعان ما حصل متغير أعاد تحريك القضية الكردية فقد حصل انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق ١٩٥٨م أي بعد اثنى عشر سنة من تغريبة الملا ومقاتليه في دول الاتحاد السوفييتي، وكان على توافق مع روسيا وتم دعم الانقلاب وتأييده من الملا مصطفى البارزاني وتم دعوة البيشمركة للتجمع مجدد للعودة الى العراق والتجهيز للمتغيرات الجديدة، حيث يتأملون بخلق كيان كردي في العراق.
عادت جذوة القضية الكردية الى شالاو وهكذا اقنع زوجته وحماته وطفلتهما مع طفلتهم الثانية التي ولدت في عرض البحر في رحلة العودة الى العراق. عادوا يحملون املا والبعض عاد مرغما لأنه ترك وراءه عائلته التي شكلها ولم تحضر معه. أحدهم انتحر برمي نفسه من السفينة في عرض البحر. وصلوا إلى البصرة جنوب العراق. ومن هناك توجه وعائلته الى اربيل وقريته حاجي عمران وعندما وصل وجد بيتهم مقفل. علم من المختار أن والده توفي وأن والدته أصيبت بالعمى وأنها تعيش في بيت صغير معتمدة على أعطيات الناس لها. كان ثمن مغادرته من أجل قضية لم ينجح في تحقيقها غاليا جدا موت أبيه حسرة عليه، وزواج اخواته، ومغادرة اخوته الاخرين دون اي اهتمام بأهله وعمى امه وفاقتها.
استقبلته امه بحب وحنان واهتمام، أخبرته بكل ما حصل. عاد معها إلى بيتهم بعد إصلاحه بسبب الهجر لسنوات. لكن امه توفيت بعد فترة وجيزة. وقبل وفاتها اعطته امانة أشبه بكنز من المال سيكون العون له في قابل الأيام من شراء بيت وتأمين ظروف حياة العائلة…
لم تدم الهدنة والتوافق بين ملا مصطفى البارزاني وعبد الكريم قاسم طويلا سرعان ما اختلفوا وادى هذا بعد ذلك الى حرب بين البشمركة بقيادة الملا وعبد الكريم قاسم الذي انقلب عليه بعد ذلك عبد السلام عارف لتستمر الحرب بين البشمركة والنظام العراقي سنوات طويلة حتى انتهت الثورة عام ١٩٧٥م حيث حصلت توافقات دولية في الجزائر أوقفت الحرب بين العراق وايران والزم الأكراد بإيقاف نزاعهم المسلح مع النظام العراقي. وبعد ذلك توفي الملا مصطفى البارزاني نفسه عام ١٩٧٩م…
لقد كان لتاريخ الصراع المستمر بين الأكراد والنظام العراقي وما وعيه شالاو وان لا أفق للصراع وأن الأكراد وقضيتهم تستخدمها الأطراف الدولية لخدمة مصالحهم والضحايا هم الأكراد. لذلك قرر الابتعاد عن الحرب وعن رفاقه اولا بأول. حيث توجه الى دمشق بعد وفاة امه وسكنه مؤقتا في ركن الدين، ومن ثم شرائه بيت في حارة اليهود كان صاحبه يهودي قد أسلم، في هذا البيت اكتشف دهليز يصل إلى كتب تراثية متنوعة تعود لعصور قديمة متنوعة ومهمة جدا.
عاد الى مهنة النجارة والتجارة وانجب اولادا آخرين منهم هوزان صاحبنا الذي اخبرنا بما حصل مع ابيه…
انتهت حياة شالاو في انفجار حصل في دمشق عام ١٩٨١م حيث كان يتواجد مكان التفجير بالصدفة، وكان الصراع بين النظام والإخوان المسلمين قد اعتمد العنف من الطرفين وكان له ضحايا كثيرين…