يبدو أن إيران فقدت قدراتها الردعية بعد هجومها أخيراً بمسيّرات على إسرائيل. والردع هذا يقتضي التهديد بالفعل العنيف بغية تحقيق أهداف سياسية. إذا ما نفذ الفعل العنيف يفقد غايته الردعية، وإذا نفذ ولم يحقق أهدافه فذلك مؤشّر خطير على ضعف تلك القدرات أساساً. فكيف تسلسلت الأحداث؟
مرّت أيام عدة، وطهران تهدّد بالرد، على استهداف القيادي في فيلق القدس، محمد رضا زاهدي، وقيادات أخرى الحرس الثوري الإيراني، في القنصلية الإيرانية في دمشق، وبموقف سوريالي تشكّل يوماً بعد يوم منذ إعلان طهران بأنها ستردّ، أطلقت في 13 إبريل/ نيسان 2024 عشرات المسيّرات نحو إسرائيل، دافعةً دول الجوار إلى إغلاق أجوائها أمام الطائرات. أفشلت الضربات الإيرانية التي أخذت عدّة ساعات لتصل إلى إسرائيل، ورغم غرابة الموقف وتناقضه مع أبجديات المباغتة والانتقام والحرب، فإن معظم الطائرات الإيرانية أفشلت في الجو، بنسبة 99% وفقاً للإعلان الإسرائيلي، من أصل ثلاثمائة مسيّرة. ورغم ذلك، أعلنت إيران أن الهجمات “حقّقت أهدافها”!
ودفعت تلك النتائج إلى زيادة التندّر والسخرية، من الهجمات، وفي الإشارة إلى نسب النجاح في الهجمات، قال أحد المراقبين الأصدقاء، مازحاً إلى أن سكّان مرج الحمام، إحدى ضواحي عمّان، سيذكرون، دوماً، أن المسيّرة التي سقطت عندهم “تاريخية”، وتندر آخرون، على وسائل التواصل الاجتماعي، بعرض مسيّرة عالقة بين أسلاك الكهرباء في الكوت جنوبي العراق.
لكن، بعيداً عن التندّر والسخرية المريرة، فإن الهجمات الإيرانية، ورغم ما تدّعيه طهران لها سياقاتها الواجب فهمها. فالرسائل توالت من كل الأطراف، رغم جهد المؤيدين لإيران في بحثهم عن تفسيرات تؤكد التفسير الإيراني الرسمي. أطراف دولية، بدءاً من الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا، قالت إنها شاركت في إحباط الهجمات، وكأنها رسالة، بثمن قليل، إلى إيران، عن استعداد تلك الدول للدفاع عن إسرائيل، ورفضها تحرّكات طهران العسكرية، وذلك رغم أن بريطانيا وفرنسا، تدافعان عن فكرة إبقاء قنوات الحوارـ أوروبياً وأميركياً، مفتوحة مع إيران، على سبيل المثال، لكنها تضع خطوطاً حمراء هنا بالواقع العملي، بشكل يعيد وزن القدرات الردعية لإيران.
رغم أن إسرائيل وجّهت ضربات عدة إلى إيران، وإلى حرسها الثوري، عدّة مرات، سواء في دمشق، أو حتى في الداخل الإيراني، اغتيال العالم النووي فخري زادة عام 2021، لم تستطع إيران أن ترد رداً مؤثراً، ولعل المثال الأكثير تعبيراً هو استهداف الولايات المتحدة الأميركية لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بالقرب من مطار بغداد، وحينها جاء الرد الإيراني، رغم فداحة الخسارة وعظم الاستهداف، مرتبكاً، لا بل استهدف طائرة ركاب مدنية أوكرانية آنذاك.
منذ ذلك الحين، كان لدى الإيرانيين إدراك استراتيجي أساسياً، يقوم على الاعتماد على حلفائها ووكلائها، في مناطق مختلفة. وهؤلاء يتنوّعون بحسب الأدوار وطبيعة العلاقة، تمويلاً أم إدارةً أم تحالفاً ومن ثم، لا يمكن وضع حزب الله وحركة حماس في خانة واحدة، ولا حتى الجهاد الإسلامي مع “حماس”، ولا الفصائل العراقية مع الحوثي، فلكل علاقة خاصة، وإن كانت تشترك بـ “القرب من طهران”، ولها أنماطها المختلفة، لكنها بالمجمل، ورقة أساسية تعتمد عليها إيران لتفادي حرب إقليمية واسعة، وعبر دعمها تبقي خطابها الإيديولوجي في الداخل حيّاً وحيوياً، في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة.
والآن، بعد الفشل في هذه الهجمات، سيتزايد الاعتماد على تلك المجموعات المسلحة، من إيران، ويترافق مع تصعيد مع دول حليفة للولايات المتحدة، والأردن في مقدمة المرشحين، فقد أشار وزير الخارجية الإيراني، عبد الأمير عبد اللهيان، إلى أن دولته حذّرت أي دولٍ تعترض “هجماتها التي تعبر عن حق الدفاع عن النفس”، بأن “القواعد الأميركية فيها ستستهدف”. وبالنظر إلى السوابق فإن استهدافات الفصائل العراقية الموالية للمثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسورية، يتوقّع أن يتزايد وفق رغبة طهران في التصعيد أو التهدئة، وهو أقلّ كلفة من حرب إقليمية، أو تقليدية، وكذلك الأمر يشي باستمرار “قواعد الاشتباك” في الجنوب اللبناني من حزب الله، وهجمات أنصار الله الحوثي في البحر الأحمر التي تشهد احتواءً دولياً متزايداً.
ضعف القدرات الاستراتيجية الإيرانية، خصوصاً في معايير الحرب التقليدية، كما تكشف بعد الهجمات الأخيرة، ستدفع نحو تعزيز الجهد اللاتقليدي، وهذا بالضرورة، يعني تعزيز العمليات الاستخبارية، وهذا جانب، غير مطروق بما يكفي في الأوساط الإعلامية والبحثية، وإيران، نشطة، فيه، فعلى سبيل المثال عمليات اغتيال المعارضين الإيرانيين، في الخارج منذ 2017، فاقت عدداً تلك التي نفذت في عقد التسعينيات التي شهدت صعوداً لمثل تلك العمليات.
على ما سبق، فإن ردّ إيران، أو هجماتها، في سياقات التوازنات الدولية، التي تنطلق من أساس المصلحة الوطنية ابتداءً، وليس لدواعٍ إيديولوجية، وهنا الحديث عن حرب غزة، ونصرة أهلها، كما توقع كثيرون عند بداية الأزمة بعد 7 أكتوبر ، وإن كان أهل غزة في حاجة إلى النصرة، تحت أي مسمى. ومن ثم، سيحتاج السلوك الإيراني أخيراً، على عدم فعاليته، إلى جهد دعائي في الداخل لديه، ولدى المتشكّكين في سياستها، لكن هذا أيضاً يضعف دعاية إسرائيلية مكرّرة، وتحديداً من رئيس الوزراء نتنياهو، الذي ظل يكرّر وعلى منصّات الأمم المتحدة، وفي لقاءاته الإعلامية، ومنذ عقد تقريباً، عن التهديد الإيراني الذي كان يعتبره الأكبر لإسرائيل وأمنها، وهذا، ومن ثم، قد يعيد هذا بعضاً من الثقة التي فقدها إسرائيليون كثيرون في أمنهم بعد 7 أكتوبر. ولعله يساعد في التوصل إلى حل ما في غزّة المنكوبة، وهذا لا يعني أن الحروب أو الصراعات بالوكالة ستتراجع في المنطقة، لا بل ستتزايد لا محالة.
المصدر: العربي الجديد
هل فقدت إيران قدراتها الردعية بعد هجومها أخيراً بمسيّرات صواريخ على الكيان الصhيوني. لأن الردع يقتضي التهديد بالفعل العنيف بغية تحقيق أهداف سياسية، وإن عدم تحقيق أهدافه فذلك مؤشّر خطير ، من هنا نتساءل، ما هي أهداف الرد ؟ وهل تحققت؟ إن كان الرد على قصف مبنى القنصلية بدمشق لحفظ ماء الوجه ، أم للردع ، فكلاهما لم يتحققا لهزالة المسرحية.