
قبل أسبوع فقط، لم أظن أني سأضطر لكتابة السطور التالية، لتفنيد سردية قدّمها أكاديمي أميركي على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي، مفادها أن الثورة السورية وما تلاها من صراع دامٍ، كانت مجرد نتيجة عَرَضية لبرنامج مخابراتي سرّي أميركي، تم تصميمه تلبية لرغبة إسرائيلية.
إذ يومها، استمعت لبضع دقائق من إجابة البروفسور في جامعة كولومبيا بنيويورك، جيفري ساكس، على سؤال الإعلامي، وضاح خنفر، رئيس منتدى الشرق، حول الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في سوريا. لم أستطع متابعة الاستماع لكلام ساكس. إذ شعرت أني أستمع لخالد العبود، أو شريف شحادة، أو حتى ناصر قنديل. لذا لم أعبأ بمتابعة بقية المداخلة، وانصرفت عنها. لأُفاجأ بعد يوم، بانتشار واسع النطاق لكلام الرجل، عبر السوشيال ميديا وبعض وسائل الإعلام، مع ترويج لمضمونه، مع عناوين برّاقة من قبيل “14 دقيقة من الحقائق حول سوريا والشرق الأوسط”. وهكذا، وبقدرة قادر، تحولت سردية غير مترابطة متخمة بالمغالطات، إلى “حقائق”!
ووفق تلك السردية، صدر أمر من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، بإسقاط نظام بشار الأسد، تلبية لرغبة إسرائيل. وهي رغبة، حسب جيفري ساكس، تعود لأكثر من 25 عاماً. وتستند إلى فكرة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتشكيل الشرق الأوسط على صورة إسرائيل، وإسقاط كل حكومة تعارضها. وحدّد ساكس موعد صدور أمر أوباما، في ربيع 2011، أي تاريخ اندلاع الثورة ضد النظام. وبناء على هذا القرار، نظّمت وكالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إي”، برنامجاً سرياً لتدريب متمردين، خصوصاً من الجهاديين. بما في ذلك الذين تولوا السلطة مؤخراً. حمل البرنامج اسم Timber Sycamore (تيمبر سيكامور). وهو ما أدى إلى حرب طويلة وفوضى تسببت في قتل 600 ألف إنسان، وفق ساكس، الذي نفى أن تكون هذه الخسائر البشرية والمادية الهائلة في سوريا، نتيجة قمع نظام بشار الأسد. وقد خلصت هذه الحرب التي دامت 14 عاماً، إلى النتيجة التي أرادتها الـ “سي آي إي” في 2011، وهو أن تتولى تلك الجماعة الجهادية السلطة في سوريا، بعد أن تم تسليحها من قبل الولايات المتحدة، وفق إدعاءات ساكس. والذي أرجع الحرب في سوريا، إلى استراتيجية تغيير الأنظمة التي تبنتها الولايات المتحدة منذ عهد جورج بوش الابن، بعيد أحداث 11 أيلول 2001. ليخلص إلى أن الولايات المتحدة كانت الفاعل الرئيس في سوريا، طوال تلك السنوات، وحتى اليوم.
يعتبر جيفري ساكس أحد الأكاديميين الأميركيين البارزين في مجال الاقتصاد ودراسات التنمية المستدامة. وقد عمل نحو عقد ونصف كمستشار خاص للأمين العام للأمم المتحدة في هذا التخصص. وهو يحمل درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد. لكن خارج حقل الاقتصاد والتنمية المستدامة، لا يمكن الوقوع على معالجات بحثية معمّقة للرجل. خاصةً في حقل سياسات المناطق. وهو ما يظهر جلياً في مواقفه وتصريحاته المثيرة للجدل، حيال نفي قمع المسلمين الإيغور في الصين، وتأييده الانسحاب الأميركي من سوريا. يُعرف عنه أنه متعاطف مع القضية الفلسطينية، ومن المنددين بالانحياز الأميركي لإسرائيل. لكن طروحاته بخصوص سوريا تؤشر إلى ضحالة كبيرة.
ثالث المغالطات الكبرى التي تستند إليها ادعاءات ساكس، فهي رغبة الحكومة الإسرائيلية عام 2011، في إسقاط نظام الأسد. وهي معلومة تخالف عشرات التسريبات والمواد الموثّقة المنقولة عن مسؤولي الحكومات الإسرائيلية المتتالية منذ الـ 2011، والتي تقول عكس ما يدعيه ساكس
وتستند ادعاءات ساكس في الشأن السوري، إلى جملة ركائز متخمة بالمغالطات، كما أشرنا. أولى تلك الركائز، برنامج Timber Sycamore. وأولى تلك المغالطات، التي تؤكد ضحالة اطلاع ومتابعة الرجل للشأن السوري، هو أن البرنامج المشار إليه، والذي نظمته المخابرات الأميركية بالتنسيق مع مخابرات دول إقليمية (السعودية، قطر، تركيا، الأردن..)، لتدريب المعارضة السورية المعتدلة، في حربها المسلحة ضد نظام الأسد، بدأ في نهاية العام 2012. أي بعد نحو سنة ونصف من اندلاع الثورة في ربيع 2011، وبعد أن انتقل الحراك الثوري إلى مرحلة “العسكرة”، كنتيجة لعنف النظام المفرط. هذه المغالطة وحدها كفيلة بنسف إدعاءات ساكس. لكن في تفاصيل البرنامج المشار إليه، ذاته، هناك مغالطة رئيسة، تنسف ادعاءات ساكس، أيضاً. وهي أن مخاوف مسؤولي إدارة أوباما، من استفادة الجهاديين في سوريا، من برنامج تسليح وتدريب المقاتلين السوريين، كان أحد أسباب انكفاء واشنطن التدريجي عن دعم المعارضة المسلحة ضد الأسد، وتركيزها على محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، وصولاً إلى إقفال البرنامج برمته عام 2017، بقرار من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
أما ثالث المغالطات الكبرى التي تستند إليها ادعاءات ساكس، فهي رغبة الحكومة الإسرائيلية عام 2011، في إسقاط نظام الأسد. وهي معلومة تخالف عشرات التسريبات والمواد الموثّقة المنقولة عن مسؤولي الحكومات الإسرائيلية المتتالية منذ الـ 2011، والتي تقول عكس ما يدعيه ساكس. كمثال، نحيل إلى تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، عام 2013، ترجمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يناقش ما نقلته صحيفة “التايمز” البريطانية، في أيار 2013 عن مصادر استخبارية إسرائيلية، ومفاده أن “بقاء نظام الأسد حتى لو كان ضعيفاً أفضل بالنسبة لإسرائيل وللمنطقة”، وأضافت الصحيفة نقلاً عن المصادر نفسها “الشيطان الذي نعرفه أفضل من الوضع البديل المحتمل عنه، والذي سيؤدي إلى تدهور سوريا إلى حالة من الفوضى، وتحولها إلى موطئ قدم للمتطرفين من العالم العربي”. ويشير التقرير إلى أن تعبير “الشيطان الذي نعرفه” سبق واستخدمه رئيس الحكومة أرييل شارون عام 2005، عندما شرح للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش سبب معارضته الإطاحة بنظام الأسد، وذلك خشية وصول الإسلاميين إلى السلطة في دمشق. وهو ما ينسف نظرية ساكس عن رغبة إسرائيل القديمة بإسقاط نظام الأسد التي تعود لـ 25 سنة قبل الـ 2011. تقرير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أشار إلى المفاوضات الجدّية التي أجراها نظام الأسد مع حكومة بنيامين نتنياهو بين عامي 2010 و2011، بوساطة تركية. وهي المفاوضات التي وصلت إلى مراحل متقدمة، لولا اندلاع أحداث الثورة في آذار 2011، والتي دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى وقف المحادثات، واتخاذ وضع المترقب، لمتابعة التطورات في المشهد السوري.
ومن الغريب، أن ساكس، في أثناء عرضه لسرديته غير المترابطة، لم يشرح لنا، لماذا أرادت واشنطن وتل أبيب إيصال الجهاديين إلى السلطة في دمشق! أيُعقل أن تل أبيب راهنت على أن هؤلاء الجهاديين سيوفرون بيئة أكثر أمناً من تلك التي وفّرها نظام الأسد منذ العام 1973، قرب هضبة الجولان المحتلة! الجواب جلّي في الاستنفار العسكري الإسرائيلي غير المسبوق منذ سقوط نظام الأسد، بغية تدمير كل ما يمكن أن يشكّل ركيزة قوة عسكرية للسلطة الجديدة في دمشق.
اللافت في سردية ساكس، حذفه للشعب الثائر في سوريا، كليةً، من المعادلة التي حكمت المشهد خلال السنوات الفائتة. ونفيه المطلق لأثر جرائم النظام البائد في تفاقم الكارثة وتعقيدها. وإصراره على إرجاع كل ما حدث للإرادة الأميركية – الإسرائيلية. تلك الإرادة التي تغيّر كل ما تريد، وقتما تريد، وكيفما تريد، في منطقتنا. أتكون هذه الرسالة، هي “المؤامرة” المقصود الإيحاء بها لعقول أبناء منطقتنا، بعد أشهر من انتصار الثورة؟ نترك هذا السؤال برسم من قدّم لهذا الرجل، ومن روّج لسرديته التي تبخس من قدرات السوريين وبقية شعوب المنطقة، على التغيير.
المصدر: تلفزيون سوريا