تفاعلت على نحو واسع قضية شحنة المخدرات التي صادرتها السلطات الايطالية في أحد موانئها الجنوبية الأسبوع المقبل، قادمة من سوريا باتجاه سويسرا، بعد نشر وسائل إعلام محلية وغربية تفاصيل إضافية تعزز من فرضية وقوف النظام خلف هذه الشحنة التي اعتُبرت الأكبر من نوعها في العالم.
وعثرت سلطات مكافحة التهريب الإيطالية على 84 مليون قرص من مادة ال”كبتاغون” المخدرة، ضمن 3 سفن حاويات رست في ميناء مدينة “ساليرنو” جنوب إيطاليا، حيث قدرت قيمة الشحنة المهربة بحوالي مليار دولار.
واتهمت روما تنظيم “داعش” بالوقوف خلف هذه العملية الأمر الذي أثار استغراباً كبيراً، حيث استبعد الكثيرون أن يكون التنظيم قادراً على انتاج وتعبئة وشحن هذه الكمية الضخمة من المواد المخدرة، بالنظر إلى موقفه الضعيف على الأرض بعد خسارته آخر معاقله في سوريا العام الماضي، بينما رأى آخرون أنه حتى في أوج قوة “داعش” وسيطرتها على مدن وحواضر كبيرة في سوريا والعراق، لم يكن بامكان التنظيم انجاز مثل هذه العملية.
وبعد نشر السلطات الايطالية تسجيلاً مصوراً يظهر عملية الكشف عن أقراص الكبتاغون التي كانت مخبأة بعناية في لفائف ضخمة من الورق المقوى والمغلف من مادة الفلوت، بارتفاع مترين وقطر 1.40 سم، نشر موقع “عكس السير” السوري المعارض تقريراً، رجح فيه أن تكون هذه اللفافات الورقية قد تم انتاجها في معمل أُنشىء حديثاً في مدينة حلب.
واعتمد التقرير على صور وفيديوهات كان قد نشرها فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة حلب، تظهر افتتاح المعمل الذي قال الشهابي في حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي قبل فترة غير بعيدة، إنه يعود للصناعي عبد اللطيف حميدة، وموقعه في المنطقة الصناعية بالشيخ نجار، شرق مدينة حلب.
وبعد يومين، نشرت مجلة “در شبيغل” الألمانية تقريراً كرّرت فيه ما نشره الموقع السوري، ورجّحت هي الأخرى أن تكون المواد المخدرة قد تمت تخبئتها في المعمل المذكور، باعتباره الوحيد في سوريا الذي ينتج هذا النوع من الورق. ورأت أن المصنع قد تم إنشاؤه من أجل هذه الغاية تحديداً، وهي إخفاء المخدرات في لفائف الورق التي ينتجها، والتي يُستبعد أن يكون انتاجها بهدف البيع أصلاً، خاصة وأن سعر طن الورق المصنع في هذا المعمل يباع ب470 يورو في السوق المحلية، وهو أعلى من سعر البضاعة المستوردة نفسها بفارق واضح، الأمر الذي يرجح فرضية عدم اعتماد هذا المعمل على الصناعة المعلن عنها، إضافة إلى الكلفة المرتفعة لإنشاء مثل هذا المصنع في الوقت الحالي في سوريا، والتي تتجاوز 15 مليون دولار، وهو رقم لا تشجع ظروف البلاد الأمنية ولا استهلاكها من مادة ورق الفلوت أي مستثمر على المغامرة بتوظيف مبلغ ضخم كهذا في انتاجها.
إلا أن 15 عشر مليون دولار لا يبدو رقماً كبيراً بالمقارنة مع العائدات الضخمة المنتظرة من شحنات المخدرات التي كان المعمل سيؤمن طريقة مبتكرة وشبه مضمونة في إخفائها على سلطات الموانئ الأوربية، حيث وجهة الشحنة، بينما لا يحتاج الأمر إلى عناء في ما يتعلق بإخراجها من الموانئ السورية، التي لا يمكن للقائمين عليها اعتراض أو تفتيش مثل هذه الشحنة التي تعود بالطبع لرجالات كبار في النظام.
وإذا كان المتهم الأول والرئيس في هذه العملية هو سامر كمال الأسد، ابن عم رئيس النظام بشار الأسد، والذي يمتلك عدداً من معامل الانتاج، كما أنه شريك بالإكراه في كل معامل الانتاج ومع جميع تجار هذه المواد، فإن اسم عبد اللطيف حميدة، مالك معمل الورق، حسبما هو مسجل رسمياً، يتم تداوله للمرة الأولى اعلامياً.
وعندما تذكر عائلة حميدة في حلب، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن اسم ضابط الأمن الشهير الراحل، العميد عمر حميدة، رئيس فرع أمن الدولة في حلب منذ نهاية السبعينيات حتى بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، والذي شكّل مع العميد مصطفى التاجر، رئيس فرع الأمن العسكري ثنائي الرعب في المدينة على مدار عقود ثلاثة.
قبل تسلم العميد الراحل منصبه، ومنحه صلاحيات واسعة من قبل الرئيس حافظ الأسد في ذلك الوقت، بسبب الخدمات التي قدمها للنظام، وخاصة في محاربة الإخوان المسلمين، كانت عائلة حميدة في حلب مجرد أسرة صغيرة وغير معروفة خارج حي باب النيرب الذي تقطنه، لكن هذا الحال تغير بعد ذلك.
أصبح للعائلة وزنها المعتبر مع العميد عمر، ودخل العديد من أبنائها سوق التهريب بما في ذلك تجارة المخدرات، وحتى بعد إحالته للتقاعد منتصف التسعينيات، ظل أبناؤها يتمتعون بنفوذ وحظوة إلى درجة أن آل حميدة تمكنوا من مواجهة عشيرة آل بري الكبيرة والنافذة في حلب، وأجبروها على عقد صلح مرضٍ للطرفين بعد خلاف ذهب ضحيته شخص من كل طرف عام 2000.
لكن عبد اللطيف حميدة، الرجل الذي يقترب من عامه الخمسين اليوم، ليس من أقرباء العميد الراحل المباشرين، ومع ذلك، فإنه مثل معظم أبناء العائلة، استفاد من موقع ونفوذ قريبه رجل الأمن، فأسّس عدداً من المشاريع الصغيرة التي درّت عليه بعض الثروة، كما استفاد من مهنة عائلة زوجته، آل الباذنجكي، الذين يعملون في صناعة الورق، من أجل الدخول في هذا السوق وتحقيق أرباح جيدة.
إلا أن كل ما سبق لم يسمح للصناعي عبداللطيف حميدة بدخول عالم الكبار في سوريا، أو حتى في حلب على الأقل، هذا العالم الذي لا يكفي المال وحده للعبور إليه، بل يتطلب التحالف أيضاً مع السلطة.
ويبدو أن الحظ الجيد، أو ربما السيء، قد حالف حميدة أخيراً، مع اعتماد كبار مصنعي وتجار المخدرات السوريين المرتبطين بالنظام طريقة اخفاء منتجاتهم في لفائف الورق المقوّى، وعليه فقد وجدوا ضالتهم لدى هذا الصناعي الصغير لكن الموثوق، ليقدموا له الإمكانات المادية المطلوبة لإنشاء معمل متطور لن يثير الشك طالما أن صاحبه متخصص في صناعة الورق أصلاً، وكان من الضروري الترويج بكثافة لافتتاح المعمل من أجل إبعاد أي شبهة.
هذا هو السيناريو الأكثر منطقية في ما يتعلق بشحنة أقراص الكبتاغون الأخيرة التي تم تصديرها عبر الموانئ السورية إلى أوربا، والتي على الرغم من أن السلطات الايطالية تقول إنه تم الكشف عنها بعد الشك بشحنة الورق واللجوء لفحصها قي معامل متخصصة، إلا أن البعض يشكك في هذه الرواية ولا يستبعد فرضية الوشاية.
فرضية تعتمد بالطبع على التنافس بين مراكز الثقل داخل النظام، التي بات أصحابها أكثر قابلية للصراع والمغامرة، بدليل تعدد شحنات الحشيش والمخدرات التي تمت مصادرتها في العديد من البلدان مؤخراً وجميعها كان مصدرها سوريا.
المصدر: المدن