يُجري المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، مشاوراتٍ بشأن نقل اجتماعات اللجنة الدستورية من جنيف إلى الرياض، بعد رفض موسكو دعوته إلى عقد الجولة التاسعة في سويسرا، باعتبارها “غير محايدة” حيال الحرب الروسيّة على أوكرانيا، واعتراضها على عقدها في العاصمة الكينية نيروبي، واعتراض واشنطن على بغداد بحسب مقترح روسي. الرياض هي خيار يتوافق عليه كلّ من النظام والمعارضة، وكذلك روسيا والولايات المتّحدة والأمم المتّحدة، بناءً على النهج الذي اتّبعته السياسة الخارجية السعودية في السنة الأخيرة، والقائم على التهدئة مع كلّ الأطراف. نقل اجتماعات اللجنة الدستورية إلى الرياض يعني تولّيها دوراً أكبرَ في الملفّ السوري، الأمر الذي لم تحسمه السعودية، فسورية ليست ضمن أولوياتها.
تميل الاستراتيجية السعودية في السنة الأخيرة إلى البحث عن استقرار المنطقة، لأنّه يخدم تحقيق خطط ولي العهد محمد بن سلمان في إصلاح الاقتصاد ورؤية 2030، فقد غيّرت سياساتها العدائية تجاه الحوثيين في اليمن وإيران ومليشياتها في المنطقة، والتي لم تكن ناجحة بسبب مراهنتها على استمرار الدعم الأميركي، الأمر الذي لم يكن عند توقعات الرياض. دفعها هذا إلى سياسات وسطية، فقبلت بتقارب تاريخي مع طهران برعاية الصين، وتلت ذلك مصالحة مع النظام السوري في إبريل/ نيسان 2023، وإعادة مقعد سورية إلى جامعة الدول العربية في مايو/ أيار2023، وفتح السفارة السورية في الرياض في ديسمبر/ كانون الأول 2023، ونقلت في يناير/ كانون الثاني الماضي مهمات تولي شؤون الحج والعمرة إلى النظام السوري، بعد عقدٍ من إيكالها إلى المعارضة، مقابل إغلاقه سفارة الحوثيين في دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لكن الرياض لم تعين سفيراً لها في دمشق في دلالة على أنها لم تذهب بعيداً في إعادة العلاقات مع نظام الأسد، والتي ظلت نتائجها محدودة. والسعودية كانت داعمة للمعارضة السورية، وهي التي شكّلت هيئة التفاوض في اجتماع “الرياض 1” في أواخر 2015، وكانت متمسّكة بدعم المعارضة وإعادة هيكلة الهيئة وفق مصالحها في اجتماع “الرياض 2” في نهاية 2017، ثم علّقت دعمها في 2021؛ لكن العلاقات لا تزال قوية بين الطرفين، فضلاً عن أن السعودية ما زالت تقدم الدعم الإنساني إلى مناطق المعارضة في الشمال، ويقيم فيها أفراد من قيادات المعارضة السورية.
ستستغلّ دمشق هذه الخطوة في الترويج الإعلامي لتطبيع عربيّ واسع معها، ولن تغيّر سياسات المماطلة وتمرير الوقت في اللجنة الدستورية. في حقيقة الأمر لا يبدو أنّ حكومة النظام تراهن على تطبيع عميق مع الدول التي أعادت علاقاتها معها، فهي عاجزة عن القيام بمشاريع تتعلق بتطوير البنية التحتية اللازمة لتشجيع الاستثمارات الخليجية، وهناك سياسة “تطفيش” للكوادر والخبرات، وهي لازمة لعمليات الاستثمار؛ ما يريده النظام، سياسياً، بقاءه في السلطة عبر علاقات مع دول خليجية طبعت أو تريد التطبيع مع إسرائيل، اعتقاداً منه بقدرة الأخيرة على دعم بقائه، واقتصادياً يكتفي بالحفاظ على حركة تصدير المواد الغذائية، بشكل أساسيّ إلى دول الخليج، التي انتعشت منذ افتتاح معبر نصيب – جابر في 2018، متنفّساً تجاريّاً رئيساً له. وروسيا مهتمة باستئناف اللقاءات التي تعني نجاحها في حرف مسار الحلّ السياسي وفق القرارات الدولية إلى اجتماعات بين النظام والمعارضة للتوافق على دستور مشترك، إضافة إلى اهتمامها بتحسين العلاقات مع السعودية، وبقائها بعيدة عن المحور الغربي المعادي لموسكو في حربها على أوكرانيا. وهيئة التفاوض السورية هي التي اقترحت الرياض بديلة عن جنيف، بعد رفض النظام وروسيا للأخيرة منذ 2022. حتى إيران لن تعرقل هذه النقلة، طالما أنّ العلاقة مع السعودية في تحسّن، وإن كان محدوداً، وطالما أنّ السعودية ملتزمة بالحياد تجاه الحوثيين واستهدافهم حركة الملاحة في البحر الأحمر، ولم تشارك في الضربات التي تقودها واشنطن ضد تلك الجماعات.
بالتأكيد، لا تتوقع السعودية تقدماً في المفاوضات على الدستور، بسبب رفض النظام السوري تقديم التنازلات، وهي خبرت بنفسها عجزه، وعدم رغبته، في تلبية المطالب الأمنية المتعلقة بالحد من تجارة الكبتاغون، والذي يجد سوقاً رائجة له في السعودية وعبر الأردن، وتركت مهمّة ضبط الحدود السورية للجيش الأردني الذي تتوسّع عملياته إلى داخل الأراضي السورية، ويشتبك مراراً مع مروّجي المخدرات، الذين يعملون وفق أجندات إيرانية. كما أنّ حزب الله والمليشيات الإيرانية، وبدرجة أقلّ روسيا، قادرون على التوغل في الجنوب أكثر من النظام، الذي يفقد سيطرته على المنطقة باستمرار، مع الضعف الكبير لقدراته العسكرية. وبالمثل، لا تأمل الرياض بخطواتٍ من النظام على صعيد ملّف عودة اللاجئين، لعجزه عن استقبالهم لأنّهم سيشكلون عبئاً اقتصادياً إضافياً لا يقوى على احتماله. يضاف إلى ما سبق تأكيد الإدارة الأميركية مراراً على استمرار العقوبات، ومشروع قانون منع التطبيع مع الأسد وتوسيع الكونغرس عقوبات قيصر وترسيخها بحيث لا تتمكن الإدارات الأميركية اللاحقة من إلغائها، وهذا يدفع السعودية إلى قناعة إضافية بأنّ طريق إعادة تأهيل النظام السوري مسدودة، ما يقلّل حماستها تجاه الملفّ السوري. لكن الرياض، على المدى البعيد، مهتمة باستثمارات مستقبلية في سورية إذا حصل توافق دولي على ملف إعادة الإعمار، وبالتالي قد تختار احتضان المسألة السورية وإن ظل الملفّ مجمداً في المدى القريب.
أخيراً، تُشكّل الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزّة سبباً إضافياً لتروّي السعودية في العمل على تنشيط الملفّ السوري عبر استضافة اجتماعات اللجنة الدستورية، لأنّ الحرب أعاقت مخطّطات المملكة في سياستها الخارجية، ومن ضمنها ملفّ التطبيع مع إسرائيل، وهي الآن في حالة انتظار انتهاء الحرب، لأنّ مآلات الحرب ترتبط مباشرة بإيران ومليشياتها، وبالتالي فإنّ التوافق الهشّ بين الرياض وطهران عرضة للانهيار، الأمر الذي سينعكس مباشرة على تراجع المملكة عن سياسة التطبيع مع نظام الأسد.
المصدر: العربي الجديد
المملكة العربية السعودية ضمن منهجيتها بالسنوات الأخيرة للتهدئة بالمنقة العربية وفتح أبواب الصلح والسلام، هل نقل الملف السوري اليها من خلال اجتماعات اللجنة الدستورية ستعيد فتح الملف وتحقيق التهدئة من خلال “وثيقة الطائف” المشابهة لما تم بلبنان؟ هل الظرف الدولي وحرب غزة ستؤجله؟ أم ستسرع به ؟.