في اليوم التالي لانفجار مرفأ بيروت الرهيب الذي أعاد للذاكرة مشاهد مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين اللتين دمرهما الأميركيون بأول قنبلتين ذريتين صنعتهما، في الساعات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية عام 1945، صدرت صحيفة وول ستريت جورنال الاميركية يوم 5 آب / أوغسطس الجاري، وعلى صدر صفحتها الأولى تقرير عن خطوات المملكة العربية السعودية الحثيثة باتجاه انتاج وحيازة الأسلحة النووية والباليستية المصنفة في عداد أسلحة الدمار الشامل. وتضمن التقرير معلومات مهمة عن مصنع سعودي في منطقة العلا الواقعة في أقصى غرب المملكة لمعالجة اليورانيوم الخام، تمهيدا لإنتاج الكعكة الصفراء. وتكمن أهمية هذه بكونها ضرورية لإنتاج سادس فلوريد اليورانيوم الذي يغذي تخصيب اليورانيوم وفقاً لتصميم أجهزة الطرد المركزي للاستخدام في محطة لتوليد الكهرباء أو لصنع سلاح نووي.
بعد ثلاثة أيام من تقرير الصحيفة المرموقة، كتب سايمون هندرسون مدير برنامج الخليج في معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى مقالا، قال فيه إن مشاهد الدمار المخيف التي خلفها انفجار بيروت ربما تتكرر بصورة أكبر في منطقة الخليج العربي، حيث يحتمل أن تقع حرب سعودية – ايرانية مباشرة، هي الأولى في التاريخ، تستعمل الاسلحة النووية فيها من الطرفين.
وسواء صحت هذه النبوءة المخيفة، أو لم تصح فإن ما لا ريب فيه هو أن سباقا نوويا فعليا بين دول المنطقة قد انطلق، وقطع نصف الطريق، ولن يمضي وقتل طويل حتى تكون (استراتيجية إخلاء الشرق الاوسط من أسلحة الدمار الشامل) التي تبنتها الجامعة العربية منذ تسعينيات القرن العشرين قد أصبحت ذكرى منسية. بل ويتحول احتكار اسرائيل للقوة النووية في الشرق الأوسط خرافة، مثل خرافة (اسرائيل التي لا تقهر) وحل محلها كابوس مرعب، لأنها محاطة بدول نووية.
ومما لا ريب فيه أن السعي للحصول على الطاقة النووية وتوفير تقنيات انتاجها أصبحت حقيقة ملموسة، لدول كبيرة وصغيرة، لم يكن أحد يتخيل سابقا أن تفكر مجرد تفكير في دخول هذا السباق المكلف والخطير، كالإمارات العربية، والأردن، والسلطة الفلسطينية (إذ قالت صحيفة معاريف إن السلطة الفلسطينية وقعت رسميا اتفاقا مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحت عنوان البرنامج النووي الفلسطيني!). ومن القوى المرشحة لان يكون لها برنامج نووي، دولة الخلافة الداعشية، أو تنظيم القاعدة. ناهيكم عن دول متوسطة ذات امكانات كبيرة نسبيا كالسعودية والجزائر ومصر وتركيا، وطبعا قبل الجميع: إيران التي تمتلك برنامجا متطورا ومتقدما تعترف به إيران ذاتها، يشغل تفكير اسرائيل، والدول الغربية، والعربية.
وإذا كان البرنامج الايراني النووي معروف على نطاق واسع، وصدرت مئات الأبحاث والكتب عنه، ويحكمه اتفاق دولي صادق مجلس الأمن الدولي عليه عام 2015، فإن البرنامج السعودي ما زال غير معروف بشكل كامل ومحاطا بالالتباس، وهناك أسئلة كثيرة حوله، عن المستوى الذي وصله، وأين يوجد، وما هي الدول التي تقدم المساعدة الفنية والتقنية للسعوديين؟
والأهم من الجانب الفني والتقني هو الجانب السياسي، فما هي السياسة والفلسفة والرؤية التي تحكم البرنامج النووي السعودي؟ ومتى أو في أي حال ستستعمل السعودية سلاحها النووي؟ إيران أم اسرائيل؟
في زيارته السابقة الى لندن وواشنطن مارس 2018 قال محمد بن سلمان ولي العهد السعودي لبرنامج 60 دقيقة في محطة سي بي إس الأميركية (المملكة لا تريد ولا تحب حيازة السلاح النووي حتما، أما إذا انتجته إيران فسنبدأ فورا في انتاجه). ويبدو أن هذا القول هو ما يحكم برنامج الرياض النووي، ويستمد مشروعيته ومبرره أمام المجتمع الدولي. لأن السعودية منذ 2015 دخلت صداما شديدا مع إدارة أوباما على خلفية موافقتها على البرنامج الايراني بشرط موافقة طهران على فترة تجميد لا تزيد على خمسة عشر عاما، فضلا عن أن أوباما غض النظر عن توسعها الاقليمي في البلدان العربية.
منذ ذلك الوقت أعلنت الرياض رفضها للاتفاق وحذرت الغرب رسميا: إذا أنتجت ايران سلاحا نوويا سنبدأ فورا في انتاجه، وعلقت هيلاري كلينتون على هذا الاعلان في حينه (لا يمكننا أن نلوم السعوديين). ودعمت الرياض دونالد ترامب منذ أن ترشح للرئاسة، بسبب معارضته الحازمة للتوجهات الايرانية، وخاصة البرنامج النووي والتوسع الاقليمي، وبعد أن فاز في انتخابات 2016 حصلت السعودية منه على موافقة أميركية لشراء 16 مفاعل نووي من أحدث الأنواع في العالم، وجرى بحث الصفقة في زيارة ولي العهد الى واشنطن عام 2018. وعلقت صحيفة هآرتس الاسرائيلية في ذلك الوقت على الزيارة بقولها (إن إحدى القضايا التي تهم إسرائيل بشكل خاص، هي محاولة السعودية امتلاك أسلحة نووية لمواجهة إيران التي تسعى لتطوير قنبلة ذرية) وأضافت (يأتي ذلك بعد إشارة الجمعية النووية العالمية الى أن السعودية تخطط لبناء 16 مُفاعلاً للطاقة النووية خلال 25 عامًا، وتبحث عن خبرات أجنبية للمساعدة في بنائها).
وأفادت القناة العاشرة الإسرائيلية في تقرير نشرته مؤخراً، أن هذه القضية أحدثت توترًا بين إسرائيل والولايات المتحدة، بعد أن طلب رئيس الوزراء نتنياهو من ترامب أثناء زيارته (2017) إلى واشنطن، ألا يساعد المملكة على تعزيز قدراتها النووية.
والمعروف منذ عدة عقود أن السعودية بدأت خطوات عملية لإقامة بنية تحتية لمشروع نووي قادر على مواجهة التحدي الايراني، وأي خطر مشابه، وذلك منذ 1990 وعلى إثر الغزو العراقي للكويت. وقيل حينها إن العراقيين خططوا لتطوير غزوهم الى السعودية. وكانت البداية بالتعاون مع باكستان والصين وكوريا الجنوبية، حيث اشترت من الأولى قنبلتين نوويتين، وتعاقدت مع الثانية على انشاء مصنع لإنتاج الصواريخ الباليستية، واشترت من الثالثة أربعة مفاعلات نووية في التسعينيات. وأنشأت (مدينة الملك عبد الله للطاقة النووية) التي أنتجت اليورانيوم محليا، وقامت بتدريب الكوادر واجراء الابحاث. وفي زيارة ابن سلمان الى موسكو عام 2016 وقع اتفاقية معها لتشغيل المفاعلات والاشراف عليها.
وفي التقرير الذي نشرته وول ستريت يوم 5 أغسطس الجاري كشفت عن انشاء محطة لتخصيب اليورانيوم، ولكن المسؤولين السعوديين رفضوا الاعتراف بوجودها، بينما أكد مسؤولون أميركيون وجودها وأعربوا عن قلقهم، واعتبروا رفض السعوديين الاعتراف به دليلا على طبيعته غير السلمية.
أما هندرسون فكشف أن السعودية تعتمد على الصين بشكل وثيق لتطوير برنامجها النووي وصناعة الصواريخ الباليستية مثلها مثل إيران، وباكستان من قبل. ويقول إن باكستان في 1979 فشلت في تخصيب اليورانيوم، فزودتها الصين بكمية جاهزة من ترسانتها كافية لإنتاج قنبلتين. ويقول: إن الصين قد تكرر نفس السابقة دعما للسعودية في سعيها لحيازة السلاح نووي في نفس اليوم الذي تعلن إيران انتاجه!
بناء على ذلك يعتقد هندرسون وآخرون في الولايات المتحدة أن الحرب النووية الايرانية – العربية قادمة إذا ما واصلت طهران سياسة التهديد والتوسع وتصدير الثورة، واستراتيجية السيطرة على الخليج برا وبحرا، تعبيرا عن أوهام قومية وتاريخية عفا عليها الزمن تعود الى الحقبة الصفوية في القرن 16، وما قبله.
ولكن أيا من هؤلاء الباحثين يتجنبون الخوض في احتمال لا ينبغي تجاهل حدوثه مستقبلا أبدا، مهما كان مستبعدا في ظل الظروف الحالية وتوجهات دول وأنظمة المنطقة، هو احتمال أن تستخدم بعض دول المنطقة هذا السلاح ضد اسرائيل، خصوصا أن اسرائيل لم تتوقف عن سياستها العدوانية والاستفزازية تجاه كافة دول المنطقة العربية وغير العربية. وعلى الأخص أن اسرائيل كانت وما زالت وستبقى العدو الأول لجميع أمم المنطقة عربا وفرسا وتركا، والقضية الفلسطينية كانت وما زالت وستبقى قضية تستأثر بإجماع كافة شعوب ودول المنطقة، وأي حرب مع اسرائيل مهما بلغت تكاليفها تظل في نظر شعوب المنطقة العرب وغير العرب مشروعة وأخلاقية.. ومرغوبة.
وأرجح الظن أن قادة اسرائيل واستراتيجييها يحسبون حساب هذا الاحتمال في نظرتهم للمستقبل واحتمالاته ويعلمون أن حربا نووية عربية أو ايرانية – اسرائيلية ممكنة، ولا يمكن إلا توقعها والتخطيط لمواجهتها، بدليل أن اسرائيل قالت قبل سنوات إن الاقمار الاصطناعية التقطت صورا في جوف الصحراء السعودية لمخازن تحت الارض فيها صواريخ باليستية، بعضها موجه نحو إيران، وبعضها موجه نحو اسرائيل! فهل يتحقق هذا الاحتمال …؟
المصدر: الشراع