قراءة في رواية: الأفغاني سماوات قلقة

أحمد العربي

هوشنك اوسي روائي كردي سوري متميز، قرأت له رواية وطأة اليقين… وكتبت عنها، كما قرأت له رواية حفلة أوهام مفتوحة. يعيش منذ سنوات بعيدة في بلجيكا. لكن هاجس اصوله السورية والكردية والاسلامية وانه ابن لهذا العصر تسيطر على كتاباته الروائية…

روايته الأفغاني سماوات قلقة إطلالة جديدة على عوالم متنوعة بعضها معاصر وبعضها يغوص في عمق التاريخ ليعيد طرح اشكالياته بصفتها مازالت معاشة بذات الحضور والحدة كما حصلت في الماضي…

هوشنك أوسي يقول كلمته في موضوعات معاشة يتداخل فيها العقائدي مع السياسي مع مصالح الأنظمة الاستبدادية ومصالح النظام العالمي المتصارع في بلادنا وعلى حساب وجودنا… كل ذلك يطرحه هوسنك في سياق روائي مبدع وممتع، انه ناجح في سبك الحكاية وجعلها القطار الذي يسير بنا في عوالمه الروائية عابرا للبلدان والأزمان والعقائد يجعلنا نتلمس الكثير من حقائق حياتنا، في بعضها يعلمنا ما لم نكن نعلم.

ليست مهمة هوشنك أن يكتب عن التاريخ او الخيال او فلسفة الدين، كلها أدوات لتوصيل رسالته الأهم في كتاباته الروائية انه “التنوير” عبر المعرفة بحقائق الأمور، كما ارى بعين الناقد…

في رواية الأفغاني سنوات قلقة لهوشنك اوسي ندخل عالمه عبر مشكلة معاشة بشكل قاسي ومتواتر وكثيف، انها الهجرة من بلدان المشرق إلى الغرب. لنسمه الهروب والبحث عن الخلاص…

يتم جمع المهاجرين الواصلين الى جزيرة خيوس اليونانية في مجمع أشبه بسجن حيث يتم دراسة ملفات لجوئهم ومن ثم يتم قرار ترحيلهم الى بلادهم مجدد او اعطائهم فرصة الانتقال الى بلد اوروبي ما…

المجمع يتسع لما يزيد عن المئة لكنه يحوي ضعف استيعابه. خاصة بعد مجيء مجموعة جزائرية جديدة.

يتواجد الراوي الذي هو كردي سوري ويتعرف على أغلب المتواجدين معه . كان الأفغاني  الأكثر تميزا فيهم ، حيث المعرفة والاتزان والنضج والقدرة على الخوض عميقا في اي موضوع يتحدث عنه. لم يستمر وجود الأفغاني كثيرا في المجمّع ، لقد اختفى، وبعد فترة اكتشفت الشرطة أنه مقتول وممثل به ومعلق في كنيسة مجاورة للمجمّع.

بعد مضي سنوات على انتقال صاحبنا الروي الى بلجيكا وعمله الصحفي عاد الى الجزيرة لمتابعة التحقيقات حول الأفغاني. حصل على التحقيقات وبدأ يدونها كما رواها الشهود الذين التقوا بالأفغاني داخل المجمع…

اول الإفادات كانت لأحد الشباب المصريين الذي تواجد مع الأفغاني في المجمع وأخبر عن ما علمه حول الأفغاني وقال انه مصري الأصل وتحدث عن بلده و أصوله العائلية والاجتماعية وأنه عاصر ما عاشته مصر في العقود الأخيرة حرب ١٩٧٣ والصلح مع اسرائيل ومقتل السادات… الخ . وأنه مر بأطوار مختلفة في حياته تارة شيوعي وبعد اعتقاله أصبح إسلامي وبعد خروجه من المعتقل التحق بالجهاد في أفغانستان وتعرف هناك على عبد الله عزام الداعية الإسلامي الفلسطيني وكذلك على اسامة بن لادن، وبعد الحرب الامريكية على افغانستان واكتشاف النتائج الكارثية لكل ذلك، عاد الأفغاني الى مصر وعمل بوابا في عمارة، لكنه استمر مخلصا لمتابعته المعرفية والقراءة. وكيف احب الاستاذة الجامعية سراب وأنها لم تتفاعل معه. كتب لها رسالته الأخيرة وخرج مهاجرا إلى أوروبا عبر جزيرة خيوس اليونانية ووجد مقتولا في الكنيسة…

أما افادة الفلسطيني عن الأفغاني فهي تفيد أنه فلسطيني من أصول كردية و يعود بجذوره الى مدينة الخليل في فلسطين، وان عائلته هربت من فلسطين بعد حرب “إسرائيل” ضد العرب واستقروا في لبنان. وأنه كان قريبا من المنظمات الفدائية الفلسطينية ومن ابو عمار شخصيا. تحدث عن واقع حال القضية الفلسطينية وكيف تم التلاعب بها والتنكيل بالفلسطينين عبر عقود. وما حصل مع ابو عمار والعمل الفدائي بدء من مجازر الأردن وبعد ذلك في لبنان وخروج ابو عمار ومن معه الى تونس وبعد ذلك عودتهم الى فلسطين بعد اتفاق السلام مع إسرائيل وكيفية أداء السلطة الفلسطينية التي أصابها مرض السلطة والبطش بالمخالف وتحدث عن اغتيال ناجي العلي ومشاركته بذلك، لأنه أراد أن يفصح عن حقيقة اغتياله قرر الهروب لاوربا، لكنه قُتل في جزيرة خيوس اليونانية..

أما افادة المهاجر الافغاني فيقول فيها أن الأفغاني هو فعلا أفغاني و تحدث عن بلده وظروفه العائلية والمجتمعية، وتحدث عن حال أفغانستان في العقود الأخيرة. وكيف سيطر عليها الروس وعن التدخل الأمريكي وتغلغل الجهاديين هناك والحروب التي حصلت، وكيف اكتشف أن أفغانستان كانت مسرح صراع وقتل وكان الأفغانيون أول الضحايا. لذلك قرر أن يغادر افغانستان وان ينجوا بنفسه من مقتلة لا نهاية لها، غادر الى جزيرة خيوس اليونانية ليصل إلى أوروبا ووجد مقتولا هناك…

أما افادة التونسي فهو يؤكد أن على الاصول التونسية للأفغاني، ويتحدث عن تونس في العقود الأخيرة منذ أيام بورقيبة وما بعدها وما مرت بها تونس من صراع بين السلطة والتيار الإسلامي وكيف غادر الأفغاني للمشاركة في الجهاد العالمي وعندما تكشفت له حقيقة الاستخدام الغربي لهم عاد لتونس لكن السلطة لم تتقبله وأمثاله. لذلك قرر الذهاب لأوروبا ، ذهب الى جزيرة خيوس اليونانية ووجد مقتولا هناك.

أما افادة الجزائري فهي تؤكد أن أصول الأفغاني هي من يهود الجزائر ويتحدث عن واقع الجزائر في العقود الأخيرة، والصراع بين النظام والجماعات الاسلامية وان ذلك الشاب وجد الحل الامثل له ان يهرب الى اوروبا. وصل إلى جزيرة خيوس ووجد مقتولا هناك.

أما افادة الإيراني فقد أكد على اصول الافغاني الايرانية وتحدث عن ايران في العقود الاخيرة منذ ما قبل الثورة الايرانية والتحالف بين الإسلاميين والشيوعيين وحصول الصراع بينهم. واستحواذ آيات الله على السلطة و تنكيلهم بالمختلفين سياسيا، وكيف وجد الحل ان يهاجر لأوروبا، وصل الى جزيرة خيوس ووجد مقتولا هناك…

أما افادة الكردي السوري فهو يقول ان الأفغاني هو كردي سوري يروي واقع الأكراد في العقود الاخيرة، في سوريا والعراق وتركيا وإيران، وصراعات الاخوة الاعداء وكيفية استخدامهم من قبل هذه الدول وتحولهم لمجرد أدوات تخدم مصالحها، ولو من خلال مشاركتهم بقتل اهلهم الأكراد الآخرين. لذلك قرر ان يغادر الى اوروبا. وصل إلى جزيرة خيوس ووجد مقتولا هناك…

وهكذا وبعد مضي سنوات على تدوين هذه التحقيقات من قبل صاحبنا الصحافي حصل متغير جديد فقد احترقت الكنيسة التي وجد بها جثة الأفغاني كما احترقت شجرة كبيرة بجوارها، ظهر تحت تلك الشجرة صندوق أسود مدفون، وصل ليد الشرطة ومنه للمحقق الذي أعاد التواصل مع الصحافي صاحبنا واطلعه على الأوراق وتبين انها قصة الأفغاني مكتوبة من قبله، ويتحدث فيها عن نفسه بأنه من نسل الخوارج الذين قاتلوا علي بن ابي طالب في معركة النهروان…

كان غلاما حدثا وقتها وأن الله وهبه معجزة الخلود وأنه لا يموت، وهو أحد أبناء صحابة رسول الله ص وأنه بعد وفاة الرسول ص وانتقال الخلافة لأبي بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بكل ما حصل معهم من متغيرات ومقتل عثمان بن عفان. وانتقال الخلافة إلى علي بن أبي طالب، وخروج معاوية بن أبي سفيان سفيان عن طاعة علي بدعوى مطالبته علي بالقصاص من قتلة عثمان وهم من جند علي، وكيف رفض علي تنفيذ مطلب معاوية بن أبي سفيان ما قبل مبايعته على أنه الخليفة. وحصلت صراعات ومواجهات بين صحابة رسول الله. حيث حارب علي عائشة زوجة رسول الله ومعها طلحة والزبير في معركة الجمل وهزمهم، وحصلت معركة صفين بين علي ومعاوية. ورفع أصحاب معاوية القرآن مطالبين بتحكيمه في الخلاف بينهما، وكيف أدى ذلك الى بلبلة في صفوف أنصار علي حيث قبل علي بالتحكيم الذي لعب به عمرو بن العاص لعبته في مواجهة ابو موسى الاشعري حيث أسقطوا بيعة علي ومعاوية وأعاد عمرو بن العاص بيعة معاوية وانفض التحكيم وعاد الصراع بين علي ومعاوية مجددا. لكن بعد ان انشق مجموعة القراء من أصحاب علي وكان رأيهم تخطيء علي ومعاوية والخروج عليهم. وسموا من وقتها الخوارج، وان المطلوب هو اعادة أمر حكم المسلمين للمسلمين أنفسهم مجددا. وان يتم تقرير خليفة لهم غير علي ومعاوية…

كان لخروج هؤلاء عن اتباع علي وإسقاط بيعته من ذمتهم تأثيره الكبير على علي وجيشه. فقرر أن يتخلص من هؤلاء الخوارج قبل عودته الى حربه مع معاوية مجددا. فذهب اليهم بجيشه وقاتلهم حيث كانوا متواجدين في النهروان و تم ابادتهم تقريبا…

كان صاحبنا الأفغاني مازال فتى صغيرا وقد تم انقاذه من الموت مقتولا في تلك المعركة التي مات بها والده ومن معه من القراء صحابة رسول الله وعلي بن أبي طالب…

صاحبنا ذلك يدعي أنه مخلدا في الارض وانه عندما كان في جزيرة خيوس اليونانية كان يبلغ من العمر ١٣٦٥سنة ميلادية. وأنه عاش هذا العمر المديد بعد مقتل أغلب الخوارج، وأنه عاصر ما حصل بعد ذلك وكيف عاد أحد هؤلاء الخوارج وقتلوا غيلة علي بن ابي طالب، وصفي الحكم لمعاوية ولعقبه من بعده، وكيف استمر هذا الحكم حوالي المئة سنة، ثم عاد العباسيون من نسل العباس عم رسول الله واستطاعوا أن يأخذوا الحكم للدولة الإسلامية وقتلوا الأمويين جميعا. باستثناء أحدهم هرب الى الأندلس وأسس فيها حكما امويا استمر طويلا…

استمر الحكم العباسي لمئات السنين وبعد ذلك جاء حكم الفاطميين والمماليك واستمر ذلك لمئات السنين أيضا. وتبعثرت أطراف الدولة الإسلامية …

كان صاحبنا الأفغاني قد دخل في عمق بلاد فارس تنوعت أعماله التجارية، ورّاقا يعمل في تدوين الكتب وبيع الاقمشة وغير ذلك. لقد اطّلع عبر مئات السنين على حقائق الأمور فيما حصل في التاريخ الإسلامي واكتشف أن الفرق الاسلامية قد دونت حوادث التاريخ بعد حدوثها بمئات السنين وحتى كتب الفقه والحديث سواء عند الشيعة والسنة وغيرهم، وكان التدوين منحازا لكل طرف من هؤلاء لتبرير حالة الخلاف والصراع…

وصل الأفغاني في عمق بلاد فارس إلى أصفهان و طوس و نيسابور وغيرهم وعاش هناك وعاد بعد ذلك كان ميسور الحال يمتلك الكثير من الجواري والعبيد، مشكلته انه عقيم غير قادر على الإنجاب، مرّ بحالات حب كثيرة، لم يستطع أن يتوجها بالزواج يعلم مسبقا أنه لن ينجح لأنه لن ينجب من خلاله لذلك لم يتزوج استعاض عن ذلك باقتناء الكثير من الجواري الذين عوضوا له عن حاجته الجسدية.

ينهي الأفغاني التدوين وهو في جزيرة خيوس عام ٢٠٠٩م ويرى أن عمره طال، يهزأ من الموت، ويعدنا باستمرار تدوينه…

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

بداية أعبر عن سعادتي واغتباطي باطلاعي على روايات المبدع هوشنك اوسي، اجد نفسي انني امام نهر متدفق بالحياة والمعلومات والعبر والرسالات المبثوثة في ثنايا رواياته، دون أي تأثير سلبي على البنية الادبية الفنية والتوصيل في هذه الروايات…

نعم هوشنك اوسي منتمي الى زمانه والعصر، وهو في ذات الوقت منتمي الى العمق التاريخي للمشرق؛ عرب وكرد و… الخ. .

 في هذه الرواية أراد أن يوصل لنا رسالة مهمة وهي أن العقائد جميعها جاءت يوما تحمل رسالة إنسانية لقيم العدالة والكرامة الانسانية، ولكن عندما تتعاون السلطات الحاكمة المستبدة التي تدعي حملها لهذه العقائد مع رجالات الدين وتحول العقائد الى أدوات تبرر الصراع وتزيده وتحوله الى مفهوم ديني تعبدي يدفع البشر للصراع حتى النهاية. خدمة للسلطان الجائر وكهنوت الفرق والملل والنحل…

عندما توحد الظلم الاجتماعي والسياسي في مصر وتونس وأفغانستان وفلسطين و… الخ فصنعت هذه الطاقة الرافضة للظلم وصانعيه وقاتلوا انظمتهم ومجتمعهم والدنيا كلها…

وأراد بالعودة الى عمق التاريخ منذ الصراع بين علي ومعاوية أن يدين السلطة السياسية عندما تستخدم الدين وتفسيره لما يخدم مصالحها وتحوله الى اداة صراع كما حصل ذلك الوقت منذ أيام علي ومعاوية إلى اليوم…

لقد تولدت الفرق الاسلامية من خلفيات صراعية ونتيجة القمع وتحت تأثير القراءة اليقينية للأفكار والانتماء لها في واقع مظلومية ولدت جماعات وفرق لديها استعدادات للصراع دفاعا عن هذه العقائد وعملا لتطبيقها في الأرض..

 هذه الفرق الخارجية ظهرت منذ ايام صراع علي ومعاوية واستمرت للآن باشكال مختلفة وضمن كل الانتماءات العقائدية دينية وغيره. وكانت الوقود للصراعات وخدمة الذين يستغلونها من انظمة محلية وعالمية. لقد حدث ذلك في كل عصور التاريخ…

رسالة هوشنك اوسي أن يحرر العقائد من التعصب والتطرف وأن لا تحكم حياة الناس، وأن تعود العقائد لتكون رسالة تنوير وخير وعدالة وانسانية كما ظهرت في بدايتها على يد دعاتها…

من الخوارج حتى القاعدة وداعش وغيرهم المشكلة بالانظمة المستبدة و الدعاة المتطرفين والمظلومية الاجتماعية والسياسية…

كما اراد هوشنك أوسي أن يؤكد على ضرورة جعل العقائد الدينية حيادية في شؤون السياسة وأن لا تتورط في أوحال السياسة وحبائلها..

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية: الأفغاني سماوات قلقة” للروائي السوري الكردي “هوشنك اوسي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب أحمد العربي” الرواية تتحدث عن الهجرة من بلدان المشرق إلى الغرب. ليسمه الهروب والبحث عن الخلاص، بداية من جزيرة خيوس اليونانية ودراسة ملفات لجوئهم ليتم قرار ترحيلهم الى بلادهم مجدد او اعطائهم فرصة الانتقال الى بلد اوروبي.

زر الذهاب إلى الأعلى