قراءة في رواية : ليلاف – الثلج الجاف

أحمد العربي

عن دار موزاييك للدراسات والنشر صدرت رواية ليلاف للكاتبة ابتسام تريسي.

ابتسام تريسي ايقونة روائيات الثورة السورية، كتبت العديد من الروايات منذ اكثر من عقد ومازالت تتحفنا بإبداعاتها المتميزة والمتنوعة، التي تطل على الواقع السوري من كثير من جوانبه وخاصة في مرحلة ما قبل الثورة وما بعدها، حيث تطل على حالة الثورة السورية بكل تحولاتها والتداخلات التي صاحبتها. هي عين الأدب على واقع ومآلات الثورة السورية، تقول كلمتها وتضع النقاط على الحروف في إصرار مؤمن، وعزيمة حامل القضية، لتنير واقع ما حصل… لعلنا نستشرف آفاق أفضل للقضية السورية عموما…

ليلاف – الثلج الجاف هي الرواية الأحدث لكاتبتنا ابتسام تريسي، اعترف أنى قرأتها مرتين حتى استطيع تتبع خيوطها ومعرفة تفاصيل ما تابعته في ثنايا العمل الأدبي. فهي تؤكد ومنذ فاتحة الرواية انها أقرب لشهادة عن حال الثورة السورية في الشمال السوري تقريبا. في سنواتها الأولى منذ عام ٢٠١١م حتى عام ٢٠١٨م…

تعتمد الرواية على أسلوب الفصول المتتابعة التي تنطق بأصوات شخصياتها المحورية، متابعة مسارات حياتهم منذ الثورة وما بعد. هذا التتبع ليس متسلسلا بالزمن بشكل مباشر، بل هو أقرب الى تقارير حالة ميدانية معاشة، تتحول الى ملفات يتم إرسالها الى شام إحدى الشخصيات المحورية لتحتفظ بها خوفا عليها من الضياع ولتتحول الى قصة اخرى للثورة على حقيقتها كما حصل. حيث الحرب الآن في بلدنا سوريا والقوى المتحكمة فيه وحتى في تقرير مستقبله. قائم على معرفة حقائق ما حصل في ثورتنا ولثورتنا حتى وصلت الى ما وصلت اليه…

سأحاول هنا في هذه القراءة أن أجمع خيوط الرواية واحاول بتركيز شديد ان اقرأ المحتوى وأوصل الرسالة، لذلك لن اعتمد على تعقب الرواية وفق تقنيتها الكتابية المعتمدة من المؤلفة، بل سأسرد وفق ما تبين لي واقع الحال والمآل…

في الأعوام السابقة للثورة تشكلت مجموعة من الأصدقاء في أجواء الجامعة في حلب ومن خلفيات مختلفة منتسبين للبنية المجتمعية السورية المتنوعة. السني والكردي …الخ . انهم تيم وليلاف وديجوار ونازلي وشام ومحمود… يتزايدون احيانا ويتغيرون بعض الأحيان…

حصلت الثورة السورية على إيقاع الربيع العربي الذي سبقها في تونس و مصر و ..الخ، وسرعان ما التقط الشباب السوري وخاصة الطلبة في الجامعات الشعلة وشارك الاصدقاء كلهم بتنوعهم في التظاهرات وطالبوا بالحرية واسقاط النظام وتحقيق الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية. لم يتقبل النظام الحراك الشعبي الذي انتشر في كل سوريا، واجه المتظاهرين بالعنف الوحشي مستخدما السلاح والشبيحة مما أدى مع الزمن وزيادة القمع وسقوط شهداء واعتقال الكثير من المتظاهرين، الى خفوت صوتها وتحولها إلى مظاهرات طيارة وليلية تواجه النظام في لعبة كر وفر…

كانت ردود أفعال الاصدقاء متنوعة تجاه تطور حال الثورة السورية الى العنف العاري والاعمى من النظام. فقد قرر محمود أن يلتحق بالمجموعات المسلحة التي تشكلت لتواجه عنف النظام وتحمي المتظاهرين. والتحق بمجموعة عبد القادر الصالح وأبو الفرات. أما ديجوار فقد آثر السلامة وقرر أن يستمر في دراسته الجامعية…

أما ليلاف وتيم فهما يحبان بعضهما وقد اعترفا لبعضهم بذلك. وخططوا لمستقبل يجمعهم كأسرة واحدة، لكن التغيرات التي صاحبت الثورة غيرت مسار حياتهما مجددا ولسنوات…

ليلاف الكردية ابنة عفرين ابوها صولار القائد العسكري لل ب ك ك من أتباع عبد الله أوجلان. أحد القادة الذين التحقوا به منذ ١٩٧٩م. عندما أنشأ حزب العمال الكردستاني في سوريا برعاية رأس النظام السوري الاسد الاب وحيث أمّن له الدعم المالي والسلاح وسمح له بتجنيد الكثير من الشباب الكرد المتحمس لبناء دولة كردية الممتدة كما أعلنوا وقتها على أراض في تركيا والعراق وإيران. وكان صوتهم خافتا حول امتدادهم في سوريا. فقد ركزوا في حملتهم العسكرية والدعائية على أن عدوهم الأول هو تركيا وهم بذلك تحولوا إلى سلاح استثمره النظام السوري ضد تركيا في لعبة المصالح. وقاموا بعمليات تخريبية في تركيا استهدفوا فيها أشخاص ومرافق ومصالح، مما صعّد الصراع…

لن أتوسع هنا في هذا الموضوع…

نعود إلى ليلاف وتيم. لقد رفض صولار والد ليلاف بالمطلق علاقة ابنته بتيم. فهي كردية وابنة قائد وهي مع النظام السوري وليست مع الثورة. لذلك اخذها الى مناطق معسكرات التدريب والتجنيد للشباب والصبايا الأكراد لكي تتلقى التوجيهات السياسية والعسكرية وتتحول الى قائد ميداني في ال ب ك ك وتكون وريثا لوالدها. ولكي تبعد تيم عن طريقها مطلقا. أخبر الامن السوري عنه، حيث اعتقلوه واودعوه معتقلات عدة ولفترة طويلة…

في مسار آخر سنتابع حياة محمود الذي التحق بالمجموعات المسلحة التي تواجدت بكثافة لتواجه عنف النظام وتعمل على إسقاطه…

تعرف محمود على عبد السلام الصحفي والمصور السوري الذي كان يعمل في إحدى وكالات الإعلام عند السلطة السورية. ومن خلال عبد السلام سنطلّ على واقع العمل الميداني العسكري في حقيقته…

التقى عبد السلام بمرشد عجيني الذي كان منتميا للمخابرات السورية وانشق عن النظام. والحقيقة أن هناك تواصل بين المخابرات الفرنسية ومرشد عجيني عبر جاسوسة فرنسية اسمها نور الشام. تورط عبد السلام بتصويرها مما جعله تحت رحمة هذه الشبكة. حيث تعرف عبد السلام على أحد القادة الميدانيين لإحدى المجموعات المسلحة “أبو البراء”. وكانوا جميعهم يعملون لصالح المخابرات الفرنسية. مهمة عبد السلام كانت أن يصور لهم ما يريدون ويرسل ما صوره الى ذلك الرأس الكبير القابع في باريس “ثري سوري من بنية النظام، انشق، له حصة ملكية في شركة لافارج المالكة لمعمل الاسمنت” ، كان المطلوب من عبد السلام تصوير معمل الاسمنت المملوك لشركة لافارج الفرنسية، وإرسال الصور إلى مشغليه عبر الايميل المعطى له. أما أبو البراء ومرشد عجيني فقد كانت مهمتهم أن يقوموا ببعض العمليات العسكرية التي تصور وترسل الى الداعم ليؤمنوا المال المطلوب لهم، وهذا ما حصل من خلال تصوير عبد السلام معارك تحرير تل حميس التي كانت بقيادة مرشد عجيني وابو البراء. لقد تبين لعبد السلام أن هذا التحرك كان بالتنسيق مع أحد ضباط الأمن السياسي السوري، وهذا يعني أن التحرك متوافق عليه بين النظام والمخابرات الفرنسية وأن المقاتلين يقومون بأدوار ويكون من بينهم قتلى وجرحى. هكذا حصل في معركة تل حميس التي سيطر بها مرشد وأبو البراء على صوامع الحبوب. حيث هرب القادة والمسؤولون وتركوا خلفهم مجموعة جنود. استسلموا دون مقاومة. فما كان من مرشد إلى أن قتلهم جميعا بدم بارد. عبد السلام شاهد على ذلك وعبر الكاميرا. عندها أدرك أنه لم يعد هناك مقاتلين يخدمون القضية السورية. لقد أصبح من بقي أدوات بيد القوى الدولية الفرنسيين أولا ثم الأمريكان. وقرر أن يوثق كل ما يراه ويعرفه ويرسله تباعا الى “شام” التي تسكن في بلدة باريشا السورية، شام الفتاة المنتمية للثورة والتي احبها عبد السلام. لتوثيق الواقع ونشر هذه الحقائق بعد ذلك سواء عاد أو قُتل حيث هو…

لقد كان مصير مرشد الحرق على يد قوات صولار ال ب ك ك انتقاما منه لكونه لم يسمح لأحد المقاتلين من إنقاذ عائلته في بلدة جسر الشغور في الثمانينات من حريق هم أشعلوه هناك حينما كان يخدم في أمن الدولة…

كما وثق عبد السلام قصف الكيماوي عام ٢٠١٤م في منطقة إدلب في مدينة تلمنس والرقة وجوارهما.

كما وثق لقاؤه بـ جاسوس فرنسي كبير يحمل اسم فكتور وتلقى منه توجيهات جديدة. لقد انتقل الفرنسيون والامريكان بعد ذلك الى توثيق كل شيء له علاقة بالمناطق المحررة، البنية المجتمعية والقوى المتحكمة والمعالم … كل شيء. فقد عمل في المعبر وهناك عرف كيف تحولت الثورة عند القادة إلى فرص استثمار. وأنه لا يخلو من بعض المسؤولين النظيفين. لكن سرعان ما يتم إبعادهم وتحول المعابر إلى موقع استثمار وتشبيح وسرقة عرق الناس وأموالهم…

يظهر من خلال ملفات عبد السلام أنه هناك تواصل ما بين الفرنسيين والأمريكان بعد ذلك مع الهيئة جماعة الجولاني وحتى مع تنظيم الدولة الاسلامية داعش خاصة في معمل الاسمنت الذي تملكه شركة لافارج الفرنسية …

لم يستطع عبد السلام أن ينجو بنفسه فقد حاول الحصول على معلومات جديدة من أحد العملاء، ولكن تم كشف أمره فتم اعتقاله وتصفيته…

تناولت الرواية أيضا بعض القادة الميدانيين للجماعات المسلحة، غير المتورطين مع الاستخبارات الدولية. نموذجهم عمار الشاب الذي انتمى للثورة والتحق بها. وكان واحد من عناصر مرشد عجيني وكيف اكتشف التنسيق بين النظام ومرشد في مهاجمة الصوامع والسيطرة عليها وحتى في التجهيز للسيطرة على حقول الرميلان للنفط…

عمار كان له حضور في المعارك التي خاضتها المجموعات المسلحة في الشمال السوري حيث تم إبعاد النظام وقوات ال ب ك ك والسيطرة على عفرين وجوارها… كما تحدثت عن مساعدة المجموعات المسلحة في السيطرة على منطقة كسب، ولكن تم الانسحاب منها بعد ذلك وكأن ذلك مقايضة ما حصلت بين الأتراك والنظام.؟!.

النموذج الآخر حمزة الذي كان أحد الشباب المعتقلين في سجن صيدنايا سابقا. وعندما حدثت الثورة شارك مع المجموعات المسلحة وحضر الكثير من المعارك. وعرف حقيقة الوضع وان الصراع مسيطر عليه وموجّه من القوى الدولية واستخباراتها فرنسا وأمريكا. بالتنسيق بشكل ما مع النظام. ولذلك أصبح بمضي السنين مستهدف من قبل الاستخبارات الدولية وتمت نجاته من الموت أكثر من مرة لكنهم وصلوا اليه اخيرا وصفّوه…

كما ألمحت الرواية بشكل عابر عن الدور الإيراني في سوريا. حيث قتل أحدهم أمام مزار شيعي يظهر من شكله انه ايراني؟!.

تبدأ الرواية بلقاء بين تيم وليلاف حبيبته وكذلك تنتهي بلقاء آخر بينهما في عام ٢٠١٨م.

ليلاف يرسلها والدها صولار إلى كفر جنة حيث مركز حزبهم ال ب ك ك وتم تدريبها لسنوات وعادت قائدا ميدانيا في المناطق التي سيطر عليها التنظيم وكان آخرها الرقة التي ساعد التحالف الدولي بالسلاح والطيران على طرد داعش منها وتم تسليمها لل ب ك ك واصبحت جزء من كيانهم الممتد من الشمال الشرقي السوري وشرق الفرات حتى الحدود مع العراق مسيطرين على مناطق النفط والإنتاج الزراعي الاهم لسوريا…

بينما اعتقل تيم بناء على وشاية صولار والد ليلاف ليبعده عنها بشكل نهائي وهكذا تم انتقال تيم بين المعتقلات السورية وعانى التعذيب واحس ان افقه مسدود. حتى وصل إلى أحد ضباط الأمن جمال الذي عامله بمودة غريبة على الأمن. ثم ليكتشف انه كان يحب والدة تيم ويتمنى أن يتزوجها منذ زمن بعيد. ولكن لم يحصل بقي وفيا لحبها. لذلك أنقذ تيم من المعتقل. وساعده على الخروج من سوريا إلى تركيا. وهناك التقى به مسؤول استخبارات وعرض عليه أن يكون جزءًا من دور تقوم به تركيا في القضية السورية. وهكذا أصبح يتردد بين تركيا وسوريا. بأوراق يظهر فيها بأنه مرسل من الامريكان. ويقوم في مهام الخدمة الاجتماعية.

وهكذا تلتقي أقدار تيم وليلاف، ليلتقي بها وهي قائد ميداني عند ال ب ك ك وهو يقوم بمهامه مرسلا من الامريكان. يعيدان سيرتهما الاولى، حب عميق ووعي مصاحب للتجربة، ليلاف التي أدركت ان ابوها صولار يتبع الامريكان ويخدم مصالحهم ويثق أنهم سيعطونه دولة كردية على جزء من سوريا. ولكن ليلاف وتيم مدركين ان الامريكان لا يوثق بهم وإن أي تغير في المصالح السياسية بين أمريكا وتركيا تعني أن يضحى بهم وسيكون ذلك على حساب مزيد من سفك دمائهم…

شخصيات الرواية الأساسية مصيرهم أصبح معروفا. شام سافرت إلى تركيا بعد حصولها على ملفات عبد السلام الذي لاقى مصيره المحتوم. وديجور قتل مع القناص الفرنسي “الداعشي” الذي كان يحتجزه دريئة يحتمي به…. الخ.

تنتهي الرواية حيث تتنقل ليلاف وتيم في الجبال هربا من مصير يراد لهم وسعيا لأن يبنوا حياة مختلفة بعيدة عن كل ما يحصل…

من الممكن ان يكون واقع ولعله حلم…

في التعقيب على الرواية اقول:

انني امام رواية أقف امامها مبهورا…

لقد دخلت روحها في ذاتي. وتفاعلت مع كل تفاصيلها. علمت رسالتها وما ارادت ان تصل اليه… لكن عندما اردت ان اقول ما علق في ذهني منها. اكتشفت ان الرواية تقول كل شيء بخصوص الواقع السوري. الثورة وما حصل من تداعيات عليها…

كيف تعيد التحدث عن كل شيء. وهنا يعني ذلك عن تفاصيل كثيرة. لا يغني عنها أي انجاز أو تركيز…

الثورة السورية المغتالة … نعم الرواية تتحدث عن كيف تم اغتيال الثورة. كيف تم إنشاء الجماعات المسلحة. ودعمها وتقديم المال والسلاح لها. بالتعاون بين المخابرات الدولية والنظام… نعم النظام. وكيف تم تبادل الأدوار. كيف تم خلق أرض خصبة لتوالد النصرة هيئة تحرير الشام وداعش وكيف هيمنوا على الصورة.؟. وكيف تحولت ثورتنا إلى ارهاب وجاء الغرب يحارب الارهاب متمثلا بداعش ويترك النظام يعيد هندسة حكمه لسوريا من جديد والى الآبد!

 كيف تم قتل المقاتلين النظيفين وتمت تصفيتهم بيد القوى الدولية المتحكمة. تماما كما قتل النظام أغلب الناشطين السلميين منذ التظاهرات الأولى في المعتقلات…

الاهم في كل ذلك أن الرواية هي أقرب الى وثيقة تتحدث عن واقع ووقائع ولها شهود معلومين وبعضهم غير معروف لنا وثقت الكاتبة اسماءهم في مطلع الرواية وختامها…

اخيرا: اننا امام رواية قالت كلمتها الحق مراكمة على روايات ابتسام تريسي السابقة وضمن باقة روايات الثورة السورية التي تضيء ما حدث في سوريا على فظاعته وتجعلنا نأمل بمستقبل أفضل:

سوريا متحررة ونظامها يحاسب دوليا وشعبها يرفل بالعيش الكريم تحت ظل الحرية والعدالة والديمقراطية…

11

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “ليلاف – الثلج الجاف” للروائية السورية “ابتسام تريسي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي لكاتب “احمد العربي” الرواية تطل على الواقع السوري من كثير من جوانبه وخاصة بمرحلة الثورة وما بعدها، حيث تطل على حالة الثورة السورية بكل تحولاتها والتداخلات التي صاحبتها ،الرواية أقرب للوثيقة تتحدث عن واقع ووقائع ولها شهود معلومين وغير معروفين .

زر الذهاب إلى الأعلى