في الثلاثين من شهر آذار ذكرى وفاة رجل من أمتي تفوق على نفسه فجاهد واجتهد فأنتج نتاجا فكريا باهرا وتجربة نضالية متميزة. الدكتور عصمت سيف الدولة مفكر عظيم في أعلى مستويات العطاء الفكري المتوقد الذي يتفوق على أغلب القامات الفكرية التي نقرأ عنها لأنها تلقى اهتماما من جهات ذات مصلحة في إبرازها والتسلح بفكرها وتسويقه. على خلاف ما يشهده كل مفكر عربي قومي وحدوي وإن كان عملاقا في فكره وإبداعه. وهذا حال عصمت سيف الدولة وأقرانه من نديم البيطار ومطاع الصفدي وعبد الله الريماوي وغيرهم كثير..
1 – استكمالا لتلك الحرب العالمية الشاملة التي يشنها النظام العالمي الحاكم بقواعده الغربية الاستعمارية والصهيو-أمريكية على الوجود العربي وهويته الثقافية الحضارية وقيمه الإيمانية الأخلاقية، فقد فرضت تلك القوى مجتمعة ومعها أدواتها المحلية الرسمية والنخبوية؛ حصارا بالغ الدقة على كل ما هو عروبي أو بمعنى أدق كل ما هو قومي عربي وحدوي. فكيف إذا كان مفكرا عظيما بوزن وعمق وأصالة وثورية ودقة الدكتور عصمت سيف الدولة؟؟!!!
أستاذنا بل أستاذ الأجيال العربية المتعددة في البناء الفكري القومي المبني على نظرية متكاملة في الثورة وشروط التغيير ومواصفات الثوريين الذين يتصدون للتغيير وبناء المستقبل العربي المتحرر الموحد المتقدم..
عصمت سيف الدولة منظر الفكر القومي الوحدوي التقدمي الإنساني الديمقراطي الحر وأحد أبرز معالمه التي شكلت دفعا عظيما لكل الشباب العربي الذي تصدى لمواجهة واقع التجزئة والتخلف وصولا إلى مستقبل التقدم المنشود. وقد بلغ غنى تجربة عصمت سيف الدولة فكريا ونضاليا بحيث لم يعد بإمكان أي عربي حر متطلع للتغيير وبناء المستقبل على أسس ديمقراطية سليمة؛ أن يتجاوزها أو يتغافل عنها حتى ولو لم يكن من أتباعه حركيا أو متبنيه فكريا. فكان ولا يزال أحد أهم أعمدة النضال العربي بأبعاده الفكرية والتنظيمية..
2- حينما كان ساطع الحصري رائدا في الدفاع عن الهوية القومية لم تكن التجربة الناصرية قد دخلت حيز الواقع الفعلي في مصر والعموم العربي. فكانت كتابات الحصري على أهميتها في المرحلة التي عاشت فيها ، تستطرد في شرح عوامل اجتماع العرب في أمة واحدة وتوصيف مقوماتها وأهمية كل واحدة منها ، زادا للمؤمنين بوجود أمة عربية ذات مصير واحد ؛ المدافعين عن شخصيتها التاريخية ؛ فلم تتطرق إلى أسس عقائدية للقومية العربية تصلح برنامجا للفكر القومي في حركته النضالية سعيا لتوحيد الأمة على أسس منهجية متكاملة..
وحينما تفجرت حركة القومية العربية زخما نضاليا وثوريا ميدانيا بقيادة جمال عبد الناصر ; انتقلت الحركة القومية من مجال الشرح النظري والتوصيف الإجمالي؛ لتدخل في ميدان العمل النضالي التطبيقي الذي يتصدى للواقع المجزأ المتخلف الخاضع للنفوذ الأجنبي بغية تغييره وبناء قاعدة اقتصادية وسياسية وثقافية تؤهله لتغيير الواقع وبناء المستقبل العربي الأفضل. وهكذا وجدت القيادة الناصرية نفسها في مواجهة واقع عربي بالغ التعقيد تتشابك فيه جملة عوامل معيقة للتقدم ومكبلة لكل أسباب التغيير وكل محاولة فيه. واقع يعيش تراكمات خمسمئة سنة من التراجع والتدهور والخضوع للنفوذ الأجنبي وحروبه الدائمة لمنع العرب من التحرر والوحدة والتقدم. فكان منهج جمال عبد الناصر يقوم على التجربة والخطأ انطلاقا من الواقع وصولا إلى البناء الفكري ثم العودة إلى الواقع لتطبيق الدروس والقواعد الفكرية المستخلصة من التجربة..
فما كان من عصمت سيف الدولة وهو ابن التجربة الناصرية ومعايشا لكل مراحلها وما تواجهه من عثرات كما لكل محاولات اختراقها أو عرقلتها أو تدميرها؛ إلا أن تصدى لتلك المهمة الشاقة في تأسيس منهج نظري متكامل للتغيير يحمي الثورة ويضمن نجاحها ويوفر عليها الجهود التي يمكن أن تضيع في غياب المنهج الثوري؛ فكان كتابه الرائع المتكامل: ” نظرية الثورة العربية ” دليلا ثوريا يغطي كافة جوانب العمل النضالي الذي يحتاجه تغيير الواقع العربي..
وكان الجانب التنظيمي أبرز تلك الجوانب دقة وتفصيلا وصدقا أيضا..
3 – ولما تصدى الماركسيون العرب للتجربة الناصرية ، فتسللوا الى داخلها محاولين الاستيلاء عليها وقيادتها بعد إعطائها مضمونا ماركسيا لا سيما في المجال الاقتصادي ؛ مستغلين الهامش الواسع الذي منحتهم إياه التجربة ذاتها ؛ تصدى عصمت سيف الدولة مرة أخرى لتلك المحاولات الماركسية وما فيها من مناورات التفافية ؛ فكان كتابه الرائع : ” أسس الاشتراكية العربية ” تأصيلا موضوعيا عميقا للفكر القومي العربي وللتجربة الناصرية في مضمونها الاجتماعي والإنساني المتميز عن الفكر الماركسي ؛ بما ضمنه إياه من قيم أخلاقية واجتماعية ومفاهيم للعدالة والتضامن والبناء الاقتصادي كصيغة متكاملة لاشتراكية عربية متميزة ومتمايزة عن أي مفهوم آخر للاشتراكية ..فنشب صراع إيديولوجي وحركي طويل بين اليسار المتغطي بما أسماه الاشتراكية العلمية وبين الاشتراكية العربية كما أرسى مضمونها ودعائمها مفكرنا العظيم عصمت سيف الدولة ..وهو ما أثمر تبنيا تاما لأسس الاشتراكية العربية من قبل التجربة الناصرية ذاتها في التطبيق وفي المنهج الفكري ذاته..
4 – كان الأساس المنهجي لكل إبداعات سيف الدولة الفكرية؛ منهجه في الجدل الاجتماعي المنبثق من ” جدل الإنسان ” كما فصله وأرسى دعائمه ومراحله المتعددة وانطلق منه للتأسيس لكل نظرياته في فهم الواقع أولا ثم في متطلبات تغييره على أسس واضحة ليس فيها مجال للخطأ أو لنواقص منهج التجربة والخطأ..
جدل الإنسان ينطلق من عقل الإنسان الحر إسقاطا على الواقع ثم عودة إلى فكره إعمالا لإرادته الإنسانية في رسم ملامح ومقومات التغيير وأهدافه المتكاملة. ذلك المنهج الذي يعطي للإنسان الدور الأول والأساس في قيادة عمليات التغيير في كافة ميادينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فوق الاعتبارات المادية وقيودها كما بعيدا عن المثالية وشروطها التخيلية. إن جدل الإنسان كما أرساه سيف الدولة كان ذروة الفعالية الاجتماعية لقيادة الإنسان كل سعي للتغيير بما يجعله هدف كل تغيير وصاحب المصلحة الحقيقية فيه وبالتالي المسؤول الأول عنه وعلى فهمه وإعمال إرادته بشكل علمي موضوعي يتوقف مدى نجاحه في تحقيق ما يريد..
فكان منهج جدل الإنسان علامة تميز فكر سيف الدولة القومي وافتراقه عن كل فكر سبقه في القومية أو الاشتراكية أو الجدلية المادية منها والمثالية. وإن لم يكن هو أول من استخدم تعبير جدل الإنسان..
وهكذا وجدنا فكرنا القومي وقد تمايز وتفوق في كل أطروحاته عن كل فكر سبقه في مجال مماثل. ولعل أبرز سماته اعتبار الأخلاق مضمونا أساسيا في كل دعوة فكرية أو نظرية ثورية. لا بل أهم منطلقات البحث في أية رؤية لبناء سياسي أو اقتصادي أو تنظيمي. وعلى هذا الأساس كان اختياره للعناصر المؤهلة للتصدي لبناء التنظيم القومي كأداة للثورة العربية لتغيير الواقع؛ بشرط أول هو التزامها الأخلاقي..
5 – هذه الدقة الموضوعية والالتزام المنهجي الصارم لعصمت سيف الدولة؛ وضعته في موقع الابتعاد أو بالأحرى الامتناع عن الانخراط النضالي في التجربة الناصرية رغم أنه من أبنائها وأبرز من جاهد لتأصيلها فكريا وتزويدها بالمنهج العلمي الذي يحميها ويوفر جهودها ويقي عثراتها. ولعل هذا الامتناع كان ثغرة في تجربة سيف الدولة النضالية رغم انسجامه التام مع منهجه الفكري ومقوماته النظرية. فقد تعامل سيف الدولة مع كل دولة إقليمية على أنها عقبة في طريق العمل القومي باعتبارها ناتج النظام الذي جزأ الأمة الواحدة ولا تستطيع تجاوز ذاتها لتبني الدولة القومية التي تحتاج إلى تنظيم قومي مبرأ من آثار الإقليمية.. وعليه فقد امتنع سيف الدولة من العمل الحركي مع التجربة الناصرية يوم أن كان جمال عبد الناصر على رأس حركة النضال العربي المتفجر في كل ساحة وميدان. امتنع تمسكا بنظريته المنهجية متجاهلا الضرورات العملية التي كانت تقتضي من القيادة الثورية القائمة الانطلاق من مؤسسات الدولة الإقليمية ومقوماتها لتوظيفها في عمليات التصدي لتغيير الواقع..
وكما أن جمال عبدالناصر قادته طهارته الفكرية والأخلاقية والإنسانية إلى فكرته المثالية المترفعة عن الواقع واعتبار الإجماع الشعبي العربي هو الطريق إلى الوحدة العربية ؛ فإن سيف الدولة قادته طهارته الفكرية والأخلاقية والإنسانية إلى فكرته المثالية المترفعة عن الواقع والامتناع عن الانخراط النضالي في التجربة الناصرية باعتبار الدولة المصرية مؤسسة إقليمية لا يقبل التعامل معها..
وكان هذا الامتناع ثغرة نضالية كبيرة أفقدت القيادة الناصرية زخما فكريا عظيما وطاقة نضالية وتنظيمية كبيرة وهو الأمر الذي ستكون له تداعيات سلبية على حركة الشباب العربي ونضاله وأشكاله التنظيمية لا تزال بعض آثارها تطل برأسها من حين لآخر بما حملته من تباينات حركية قسمت المناضلين القوميين الى معسكرين فأفقدتهما معا كثيرا من الاندفاع الحركي الإيجابي واستنزفت بعضا مهما من جهود كلا المعسكرين..
ولعل سيف الدولة نفسه أدرك بعد غياب جمال عبد الناصر وانحراف مصر عن نهج الناصرية، خطأ ذلك الامتناع في الوقت الذي كان فتحي الديب مسؤول الشؤون العربية في رئاسة الجمهورية الناصرية هو الذي اتصل مرتين بسيف الدولة طالبا منه التعاون في تنظيم صفوف الشباب العربي بناء على توجيه من الرئيس جمال شخصيا وهو الذي قرأ كتب سيف الدولة وأعجب بها..
ولقد روى لي الدكتور عصمت – رحمة الله عليه – في مكتبه بالقاهرة مرتين تفاصيل تواصل فتحي الديب معه بتوجيه من ناصر. روى ذلك وعليه مشاعر الندم بادية واضحة. فلعله أدرك متأخرا خطأ ذلك الامتناع..
6 – كانت التجربة التنظيمية والنضالية لعصمت سيف الدولة أحد جوانب شخصيته المتميزة الفذة وأحد أبرز الدلالات على ما يتمتع به من أمانة وصدق وإخلاص والتزام أخلاقي تام مع كل ما كان يؤمن به وينادي به ويحض الشباب العربي على الانخراط فيه. كان نداء جمال عبد الناصر للشباب العربي لبناء حركته العربية الواحدة على أرضه وبين جماهيره؛ دافعا ثوريا لسيف الدولة لتأصيل النداء ووضع أسس منهجية علمية لتحقيقه فكانت نظريته المتكاملة في بناء التنظيم القومي وكان بيان طارق نداء سيف الدولة المكمل لنداء جمال عبد الناصر لبناء الحركة العربية الواحدة..
ولم يكتف سيف الدولة بتأطير ندائه التنظيمي نظريا بل انخرط ميدانيا في تنفيذه واستكشاف القيادات والعناصر المؤهلة له وتحصينها بالالتزام الأخلاقي والوضوح الفكري. فكان بحق مفكرا عظيما ورائدا من رواد النضال الميداني عرفته كل ساحة عربية خطيبا مفوها وداعية للوحدة وتنظيم الطاقات وتوحيدها تحصينا لتضحيات الأمة وتمكينا لها على الاستمرار والنجاح والإنجاز..
7 – وحينما تعدى نظام السادات وأبواقه المشبوهة الحاقدة على التجربة الناصرية لتشويهها تبريرا للانحراف عنها وخيانة مبادئها وخطها الثوري الحر باتهام جمال عبدالناصر بالدكتاتورية كان سيف الدولة أبرز من انبرى للدفاع عن ناصر وتجربته فكان كتابه ” هل كان عبدالناصر ديكتاتورا ” أعمق وأشمل تقييم موضوعي للتجربة أنصفها و رد تلك التهمة الباطلة بالدكتاتورية. مبينا انحياز جمال عبد الناصر الدائم للفئات الشعبية الفقيرة والمحرومة والعاملة وهو الجوهر الحقيقي للديمقراطية ببعديها المتكاملين: السياسي والاجتماعي..
ورغم أنه لا يعتبر نفسه ” ناصريا ” إلا أنه كان أهم مرجع لكل القيادات الناصرية الشابة التي تصدت لانحراف السادات عن الناصرية واتخاذه مسلكا يناقضها تماما ؛ يستشيرونه في كل أمر فكري وتنظيمي وسياسي ؛ ويلجؤون إليه في أمورهم حتى الشخصية منها فكان المحرض الأول لهم للانصهار في تنظيم سياسي واحد ؛ والمرشد والموجه والحكم أيضا يحكم بينهم بالموقف السليم والتصرف الموضوعي فكان كتابه ” عن الناصريين وإليهم ” بمثابة دليل عملاني وتنظيمي لهم جميعا وهم الذين تعددت محاولاتهم وافترقت تجاربهم التنظيمية ؛ والناصح الصادق الأمين الحريص على نجاحهم وتفوقهم النضالي ..وهو ما لم يتمكنوا من تحقيقه فتراجعوا واستمر تفككهم فباتوا لا يشركون في نضالهم اليومي إلا نسبة ضئيلة من الشباب المصري والعربي مما أفقد النضال العربي طاقات عظيمة يملكها الشباب العربي المؤمن المتحرر والذي لم تستطع كل الإطارات التنظيمية القائمة أن تستوعب آماله وتعبر عن تطلعاته فتقود حركته النضالية بما يجعل منه قوة مؤثرة فاعلة ..
في ذات الوقت الذي تصدى فيه لانحراف نظام السادات في كل ميادين العمل ووصلت ذروة مقاومته الفكرية والحركية أيضا عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد الخيانة فكان كتابه الرائع ” هذه المعاهدة ” أبرز ما كتب في تفنيد بطلان كامب ديفيد وبيان خطورته على مجمل المصالح المصرية ومستقبل مصر كدولة ذات سيادة..
وما تبنيه لتنظيم ” ثورة مصر ” ودفاعه القانوني المستميت عن قيادات التنظيم واعتبار ما قاموا به من أعمال فدائية ضد الوجود الصهيوني على أرض مصر؛ حقا مشروعا وعملا وطنيا حتى أصدر كتابه الذي حوى كل مطالعاته ومرافعاته للدفاع عنهم وعن كل عمل وطني ضد معاهدة كامب ديفيد المذلة والخيانية..
8 – وحينما ظهرت على سطح الدعوات الفكرية تلك المحاولات المرفوضة لطعن العروبة باسم الإسلام أو للتخلي عن الإسلام باسم العروبة تصدى مفكرنا العظيم لتلك الحرب على الإسلام والعروبة معا فكان كتابه الرائع: ” عن العروبة والإسلام ” أشمل وأدق دراسة في ذلك الترابط التاريخي والاندماج الإنساني والأخلاقي بين الإسلام كدين وقيم وحضارة وبين العروبة كهوية حضارية تجمع شخصية الأمة ومقوماتها. الأمر الذي وضع سيف الدولة في مواجهة مع كل دعوة تتخفى بالدين للتنصل من أي التزام عربي قومي ؛ كما في مواجهة كل دعوة عَلمانية تنكر ذلك الموقع المميز للإسلام في صلب تكوين الشخصية القومية للأمة وللإنسان معا ؛ تحت ستار الحداثة ..
9 – ولعل تنبؤ عصمت سيف الدولة المبكر جدا لمسار حركة المقاومة الفلسطينية المؤدي بها إلى الاصطدام القريب بحائط مسدود يمنعها من تحقيق أي إنجاز تحرري ويفقدها ما قدمته من تضحيات ويمنع عنها في مستقبل قريب صفتها الثورية ويعرقل اندفاعها الثوري لتقع في براثن التقوقع الإقليمي الضيق، بسبب منهجها السياسي الخاطئ غير المدرك للأبعاد القومية التحررية لقضية فلسطين وارتباطها العضوي بقضايا الامة العربية التحررية والوحدوية. ورغم تحذيراته المباشرة والمتكررة للقيادة الفلسطينية في سبعينات القرن العشرين؛ إلا أنها لم تغير شيئا ولم تحاول بما بدا وكأنه لا تريد التغيير لتبقى في نهجها الإقليمي الخاطئ. فكان كتابه التحليلي الرائع: ” التقدم على الطريق المسدود ” بمثابة إنذار مسبق لقيادة الثورة الفلسطينية وحتمية وصولها الى الحائط المسدود إذا لم تبادر فتتغير وتغير نهجها السياسي وأساليب عملها.. وكان ما حذر منه فكانت اتفاقية أوسلو المشؤومة التي تشكل انتكاسة خطيرة لمسيرة المقاومة الشعبية الفلسطينية وما مواقف السلطة الفلسطينية الحالية إلا خير تأكيد على ذلك وهي وليدة أوسلو المذلة والذليلة..
10 – وحينما سجل الاندفاع الأمريكي ذروته الهجومية إعلاميا وثقافيا بالحديث المفرط عن الديمقراطية وحقوق الإنسان واتخاذها غطاء لتبرير تدخلات خبيثة وشريرة في شؤون كل دول العالم وإثارة الفتن والحروب والقلاقل ؛ أصدر كتابه القانوني والحقوقي الرائع : ” الاستبداد الديمقراطي ” مشرحا فيه زيف الديمقراطية الغربية وافتقادها للمفهوم الحقيقي للديمقراطية الشعبية لا بل واتخاذها ستارا لاستبداد ناعم خفي ماكر يسلب الشعوب حقوقها ويستخدمها لتمرير مصالحه وإبقاء امتيازاته ..فكان دعوة واضحة وموضوعية لتأسيس ديمقراطية شعبية حقيقية بعيدة عن تزييف النظام الرأسمالي وخديعة استطلاعات الرأي وتداول السلطة عبر الانتخابات المعلبة..
لا يستطيع أي كتاب الإحاطة بهذا المفكر العظيم والمناضل الثائر الفذ الصادق الحر الأمين الذي تتوافق وتتطابق كل طروحاته الفكرية مع كل سلوكياته الشخصية والمهنية والنضالية. فكان نموذجا في الصدق النضالي والأمانة العملانية والاستقامة الشخصية. شديد الاعتداد بالنفس وعزتها والكرامة وإبائها وفي ذات الوقت شديد التواضع والبساطة والمودة حد الأخوة الحقيقية فكان مكتبه في شارع قصر النيل بالقاهرة مكتبا لكل عربي حر يقصده متى شاء دون موعد ودون تكلف وكلفة.. وكان يلقى الرحابة والترحيب من الدكتور عصمت شخصيا حتى كأس الشاي كان يعدها بنفسه ويقدمها لضيوفه بيديه..
وحينما أراد أن يكتب مذكراته الشخصية كتب سيرة أهل قريته وناسها ونمط حياتهم وبساطة عيشتهم وتطلعاتهم وطبيعة روابطهم. كتب عن بلده وما صنعته في سلوكه وعنفوانه وكبريائه. تحدث عن والده ولم يتحدث عن نفسه تأكيد على عمق انصهاره بشخصية مجتمعه وقيم أمته وأصالتها..
عصمت سيف الدولة نموذج للثائر المتميز متكامل الأبعاد الحاضر معنا في كل عمل نضالي وكل قيمة ثورية وكل هدف تحرري نسعى إليه. وأيضا في كل سلوك شخصي نسلكه ونحن نتصدى للدفاع عن وجودنا القومي وقيمنا الحضارية والإيمانية..
في عالم التفاهة الذي تستميت العولمة الرأسمالية المتوحشة في تعميم مظاهره وسلوكياته؛ لا مكان لكل من يفكر ويناضل ويسعى ويلتزم قيم الحرية الإنسانية والأصالة الفكرية. فكيف يكون فيه مكان لمفكرنا العظيم عصمت سيف الدولة وهو الذي عانى من إهمال وتهميش النظام الرسمي الإقليمي العربي، لأنه كان قوميا وحدويا ومناضلا حرا وثائرا عظيما..
لكنه ورغما عن كل نفوذ هؤلاء وأولئك من عرب وأعاجم؛ باق في كل نفس أبية وكل شاب عربي حر وفي كل سعي نضالي عربي يقاوم هذه الحرب العالمية الشاملة التي تستهدف العروبة والإسلام.. تستهدف الوجود العربي بما فيه من قيم حضارية وأصالة كما تستهدف الإسلام دينا وقيما إنسانية وحضارة تاريخية.. باق معنا وفينا فالف رحمة على روحه الطيبة الصادقة الحرة الثائرة.
بالذكرى الـ 28 لرحيل المفكر القومي العروبي الدكتور عصمت سيف الدولة، قراءة موضوعية دقيقة لمواقفه وإنجازاته الفكرية والفلسفية والنضالية، جدل الإنسان كمنهج فكري ونظرية الثورة العربية كمشروع نهضوي قومي عربي، بيان طارق وحركة انصار الطليعة كمشروع حامل لهذا الزخم الفكري ودفاعه عن تنظيم ” ثورة مصر ” وعن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ضد متهميه بالديكتاتورية، الله يرحمه ويغفر له ويجعل مثواه الفردوس الأعلى.