يرى المفكر والأكاديمي التونسي أبو يعرب المرزوقي أن غالبية المثقفين العرب “أبعد الناس عن المقاومة” معتبرا أنهم “لو كانوا حقا يؤمنون بالمقاومة التي تحقق تحرير الأوطان وتحرر الإنسان لما كانوا أكثر المحاربين للربيع وأكثر المدافعين عن التبعية الحضارية”.
واعتبر المرزوقي -الحاصل على إجازة الفلسفة من جامعة السوربون ودكتوراه الفلسفة العربية واليونانية 1991- أن “النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل. وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية”.
وعمل المرزوقي أستاذا للفلسفة العربية واليونانية بالجامعة التونسية، وكان عضو المجلس العلمي للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون-بيت الحكمة، الذي تولَّى إدارة قسم الترجمة فيه، وتحدث للجزيرة نت عن دلالات عملية طوفان الأقصى الثقافية والإستراتيجية، فإلى الحوار:
- ما دلالات عملية طوفان الأقصى في ظل التحولات الجارية عربيا ودوليا؟
الجواب عن هذا السؤال حول دلالة عملية “طوفان الأقصى” قد يتعلق بالدلالة الحاصلة بعد الطوفان، فتكون ثمرته ودلالته على فاعليته العالمية، أو قبله فيكون من ثمراته نتائج الانفعال بها.
ففي الحالة الأولى الدلالة متعلقة بفعل في التحولات الجارية عربيا ودوليا. وفي الحالة الثانية تكون الدلالة متعلقة بانفعال بالتحولات فيه. فتكون العملية فاقدة للأبعاد المرجوة منه، لأنها في أقصى الحالات لن تتجاوز إضافة محمية عربية إلى الـ22 التي تتألف منها الجامعة العربية.
وهذا هو المعنى الثاني الذي يسعى إليه كل من يريد أن يحجم مفعول الطوفان لينهي مفعول الزلزال الذي نتج عن فاعليته والنصرين اللذين يراد إخفاؤهما بكل الوسائل التي تفسر خذلان العرب لغزة ولفلسطين وسعيهم المتسارع لقتل القضية واستكمال التطبيع، بل القضاء على كل أمل في تحرير الأوطان منعا لتحرر الإنسان في بلاد العرب من الماء إلى الماء.
في الحالة الأولى، أي إذا كان فعلا يستحق الوصف بكونه طوفان الأقصى تكون الدلالة تحرير الـ22 دولة من منزلة المحميات الخاضع نصف منها إلى إسرائيل والغرب حاميها وخاصة زعيمته أي أميركا ونصف منها إلى إيران والشرق حاميها وخاصة زعيمته أي روسيا.
أما في الحالة الثانية فالدلالة الأقصى، أي إذا كان انفعالا فهو لا يستحق الوصف بكونه طوفان الأقصى، بل هو فرصة لإضافة محمية عربية أخرى إلى التي تتألف منها الجامعة العربية، فتكون مثلها منزوعة السلاح وتابعة مثلها إما للشرق أو للغرب، ولن تقوم بعدها للعرب قائمة. فتكون الأنظمة التي تعمل جاهدة مع إسرائيل وأميركا لتصفية القضية وإنهاء مقاومة حماس قد أنهت القضية، وثبتت تبعيتها لإسرائيل وحماتها ولإيران وحماتها.
إعلان
والأخطر في هذه الحالة هو استكمال ما يسعى إليه الغرب من بناء الحلف بين الهند وإسرائيل للإحاطة بالعرب ومنعهم من التنمية المادية والعلمية شرطي السيادة وما يسعى إليه الشرق وإيران للإحاطة بالعرب للغاية نفسها، فيكون العرب ومعهم كل المسلمين قد أخرجوا مرة ثانية من التاريخ كما حصل في حروب الاسترداد عندما أحاط الغرب -وقد كان القطب الوحيد- بجغرافية الإسلام تفتيتا وبتاريخه تشقيقا وبحضارته تشويها وبنخبه مسخا، ومن ثم بجعله أشبه بالهنود الحمر ينتظر غيرهم ليحدد مصيرهم، فيفنيهم بالتدريج مرتعا لسلطانه على العالم، وجل ثرواته وممراته كلها تمر بأرض الإسلام.
- هل تمثل هذه العملية نقطة تحول من جمود وتراجع إلى مرحلة نمو طبيعي للشعب الفلسطيني خاصة والعالمي عامة؟
ما القصد بالمقابلة بين الجمود والتراجع والنمو الطبيعي؟ وما علة الوصل بين حدوثه واجتماعه عند الشعب الفلسطيني خاصة والعالمي عامة؟ ذلك أن جل المتحالفين ضد حماس والناكرين لشرعية الطوفان يرون ما حصل دالا على الجمود والتراجع بدليل وصف حماس بـ”الإرهاب وداعش الثانية”.
وهو توصيف هدفه تعليل الخذلان العربي الرسمي ومحاولة إقناع الشعوب بأن تقبل هذا الموقف الرسمي، فيكون القصد الجمع بين محاولة القضاء على ثورة تحرر المواطن في الربيع ومحاولة تحرير الوطن في فلسطين. لذلك فالهم الرئيس للأنظمة العربية هو انتظار حسم إسرائيل بأسرع ما يمكن حتى يرتاحوا من تحرير ثورة تحرير الأوطان في فلسطين بعد أن ظنوا أنهم قد ارتاحوا من تحرير المواطنين في الربيع.
في الحقيقة ما يرعب الأنظمة العربية بصنفيها التي تستعبدها إسرائيل وأميركا، والتي تستعبدها إيران وروسيا هو بعدا النصر في معركة طوفان الأقصى -وهي معركة وليست حربا- ويمكن اعتبارها رابعة المعارك المتقطعة في غزة والمتواصلة في الضفة بأساليب مختلفة:
طوفان الأقصى بيّن هشاشة قوة إسرائيل بدليل لجوئها من اليوم الثاني إلى المدد الأميركي والغربي.
البعد الأول إنهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر وإنهاء أسطورة حلف الممانعة الذي تقوده المليشيات التي لا تقهر في آن. فطوفان الأقصى بيّن هشاشة قوة إسرائيل بدليل لجوئها من اليوم الثاني إلى المدد الأميركي والغربي. وطوفان الأقصى بيّن أكاذيب عنتريات إيران ومليشياتها، إذ أكدت أنها أوهى من إسرائيل بدليل هزيمتها السباقة في سوريا، ولجوئها إلى بوتين الذي حماها بتمويل عربي.
فما حققه الطوفان عسكريا، في يوم واحد عرّى التبعيتين العربيتين لمستعبديهم من الغرب والشرق وهو مخيف للأنظمة، لأنه قد يشجع الشعوب لاستئناف ثورة التحرر بعد تبين هشاشة حماة من يسعون لإفشاله فيجمع تحرير الأوطان وتحرر الإنسان، ويعود العرب والمسلمون لدورهم في التاريخ العالمي.
.
لكن البعد الثاني، رغم كونه ليس عسكريا أهم من البعد الأول: إنه إسقاط السرديتين الإسرائيلية والإيرانية. فلا أحد اليوم في الغرب -إذا ما استثنينا الرسميين سياسيين ونخبا- ما زال يصدق سرديات إسرائيل والتظاهر بكون إسرائيل رمز الحضارة والتقدم والديمقراطية محاصرة بشعوب بدائية تهددها بهولوكوست ثان بعد أن نجاهم الغرب من الأول، في حين أنه هو مصدر كل الهولوكوست التي مر بها اليهود بعد السبي البابلي والحماية الفارسية والتشتيت الروماني إلى الكاثوليكي فالروسي فالهتلري.
وبهذا المعنى فالطوفان حرر شباب الغرب، ونخبه الحرة من الابتزاز الصهيوني بصنفيه اليهودي والمسيحي في الولايات المتحدة خاصة وهي سر قوتهم. ذلك هو المغنم الأكبر لفاعلية الطوفان: إنه تسونامي خلقي بطيء الأثر، لكنه أكثر من زلزال كوني سيغير وجه الأرض كلها.
أما المغنم الثاني، فإنه قد حرر السذج من توهم إيران أنها تسعى لتحرير فلسطين بشعارات فيلق القدس الذي يستعمل هذا الشعار للتغطية على الخطة التي يحققها بالتدريج بأيد عربية مكنته من احتلال العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويستعد لاحتلال الخليج كله وخاصة مكة والمدينة، حتى تحقق شروط استرداد إمبراطورية فارس: وقد أعلنوا عن ذلك لما قال كبارهم ها نحن قد استرددنا 4 عواصم عربية من أرض فارس.
لذلك، فكل مليشيات إيران العربية تستعد لتحقيق هذا الهدف بحيث إنها منذ حرب العراق وإيران إلى الآن لم تنل منهم إسرائيل إلا الوعيد بالرد في الوقت المناسب والزمان المناسب؛ لأنهم متفرغون لاحتلال الهلال واليمن والإحاطة بالهدف الأساسي أي الخليج والمعالم المقدسة، حتى تصبح إيران متحكمة في أقدس أقداس الإسلام والعبث به كما تعبث بتاريخه انتقاما لآل بيت كسرى، وليس لآل بيت الرسول.
- أعرب بعض المفكرين والمثقفين وعلماء الدين العرب عن استعدادهم للمشاركة في طوفان الأقصى وقتال الاحتلال الإسرائيلي، هل يشير ذلك إلى تفضيلهم لخيار المقاومة العسكرية وفقدان الأمل في المشاريع الفكرية والسياسية القائمة بالعالم العربي؟
لا تكلمني على ما يقول المثقفون. فغالبيتهم الساحقة أبعد الناس عن المقاومة لا العسكرية ولا الفكرية، وإنما هم “عياشة”. لذلك فلا أريد أن أعلق على هذه الكذبة. ولو كانوا حقا يؤمنون بالمقاومة التي تحقق تحرير الأوطان، وتحرر الإنسان لما كانوا أكثر المحاربين للربيع وأكثر المدافعين عن التبعية الحضارية وخاصة في المغرب العربي، فالمسيطر منهم على الساحة هم أحباب الأنظمة وعملاؤها وعملاء الاستعمار الفرنسي خاصة، لأنهم يستمدون منه الشهرة والنجومية.
- أظهر طوفان الأقصى تحيز علماء ومثقفين غربين كبار ضد حق الشعب الفلسطيني في العيش في وطنه ومقاومة الاحتلال، رغم أنهم كانوا يدافعون عن ضرورة تمتع جميع الشعوب بحقوق الإنسان، كيف تقرؤون ذلك؟
هذا حكم لا يطابق الواقع. فقلة من العلماء والمثقفين الغربيين وقفوا هذا الموقف. في الحقيقة غالبية العلماء والمثقفين الغربيين كانوا أقرب إلى العدل والتاريخ، ولولاهم لما حصل التغير الكيفي في الرأي العام الغربي إلى حد جعل 70% من شباب الغرب يساند فلسطين ويعري السرديات الغربية والصهيونية ضد فلسطين. وهذا بين في الحركات الطلابية والجامعية.
- كيف تنظر إلى إصرار الدول الغربية على إنقاذ ومساعدة الاحتلال الإسرائيلي، رغم الرفض الشعبي الغربي المتواصل للحرب على غزة؟
لذلك علاقة بأمرين، الأول هو أن النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل. وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية. ومن ثم فالدولة العميقة التي تتحكم في النخبة السياسية الغربية من جنس التي تتحكم في النخبة السياسية العربية.
والثاني وهو تابع للتاريخ المديد، تغير الرأي العام الشعبي مؤثر، ولكن على المدى الطويل لما يصبح النجاح السياسي في الانتخابات مرتهنا بثمرة هذا التغير. والمعلوم أن ذلك بطيء، ولهذه العلة فقد نصحت الفلسطينيين بأن يساعدوا في تنمية تأثير هذا التغير بدبلوماسية شديدة التيسير في مطالبهم. من ذلك أن كثرة الكلام على فلسطين من النهر إلى البحر ليس إلا خدمة لسردية إسرائيل فضلا عن كونه مستحيل التحقيق حاليا. في حين المطالبة بتطبيق القانون الدولي والرضا بالتقسيم، وليس بما بعد 67، كاف لتحقيق هذا المطلب دون حاجة لذكره.
فالإسرائيليون لن يقبلوا به فيكونوا محجوجين، لأنهم يقطعون الغمس الذي يجلسون عليه، فيساعدون في إسقاط كل سردياتهم، ويتبين للعالم أن الإرهابي هو المحتل والعنصري الذي لا يريد التعايش من الفلسطينيين.
وإذن، فالقبول بالتقسيم طعم دبلوماسي، لأن إسرائيل لا تستطيع الرد عليه ردا مقنعا، ووضعه هدفا لعدم خسران الرأي العام الدولي بمواقف متشددة لا حاجة إليها، لأن وضعها يعني تأييد السردية الإسرائيلية بأن الفلسطينيين يريدون رمي اليهود في البحر بالعقلية نفسها التي كانت من شعارات صوت العرب، وقد رأينا أنه كان قولا بلا فعل والمستفيد منه هو سرديات إسرائيل وليس الحقوق الفلسطينية.
- ما التأثيرات القريبة والبعيدة المدى لطوفان الأقصى على ميادين الحياة بالعالم العربي عامة، وعلى مجال العلم والفكر خاصة؟، وقبل طوفان الأقصى، كان العالم العربي محاصرا بتحولات في مفاهيم الكثير من القيم، هل اتضحت الرؤية للجميع عربيا وعالميا؟
هذان السؤالان من توقع الممكن بمجرد التخمين. فالمستقبل من الغيب، ولا أريد أن أرجم بالغيب، وكل ما ليس من الغيب فيهما -أي طبيعة الإستراتيجية الإسرائيلية والإيرانية وحماتهما والإستراتيجية الفلسطينية والشعوب العربية- ليس عندي بخصوصها ما يكفي من المعطيات حتى أقضي في الأمر قضاء له سند يؤيده التحليل العقلي الرصين. ثم إني لا أستطيع الحكم جزافا على حرب معاركها الكثيرة لم تحصل بعد وكأنها قد حسمت لصالح أحد الطرفين حتى في فلسطين ناهيك عنها في العالم.
المصدر: الجزيرة
قراءة موضوعية ثاقبة للمفكر أبو يعرب المرزوقي لوضع النخبة المثقغة والموقف من طوفان الأقصى والكيان الصhيوني، حوار متقدم وصريح، اثبت طوفان الأقصى هشاشة دويلة اSرائيل والدور الوظيفي لها، وكذلك الموقف المنافق للأنظمة الغربية وأمريكا وأيضاً أنظمة عربية وإسلامية، وإنطلاق للشباب الحر بالغرب والعالم.