ينسِب مشايعو نظام الأسد إلى أنفسهم انتصاراً علينا، نحن الذين اصطففنا مع ثورة الشعب السوري على نظام الاستبداد والفساد، الحاكم في دمشق، بدعوى أن الأخير حسم القصّة، وكسر المؤامرة عليه، الكونية كما كان يُخلع عليها، والتي “موّلتها” غير دولة خليجية كما كان هؤلاء يقولون. لا يحاججونا أصحاب هذا الكلام، ونلحظهم مزهُوين، وهم يطالعون الذي نكتبُه نحن، منذ أيام، في الذكرى الثالثة عشرة لنشوب تلك الثورة، من استعاداتٍ ومراجعاتٍ. نراهم مغتبطين بالذي صِرنا عليه، خائبين، كما يفترضون حالّنا، فيما النظام صار أقوى وأشدّ عودا، وأعادت عواصم عربية عديدة العلاقات معه، وأعادت عضويته في جامعة الدولة العربية، وصار بشّار الأسد يخطب في قمّةٍ في الرياض، ويقول الذي يريد أن يقوله. علينا، بحسب هؤلاء الناس، أن نرفع الراية البيضاء، ونشهر هزيمتَنا، فليس الذي حدث في سورية التي استعصت على الأجنبي وأدواته خراباً، وإنما فاتورة صعبة دفعها الجيش السوري الهُمام وقيادته المتماسكة من أجل الحفاظ على البلد وحمايته من أمثالنا، هكذا يُثرثرون.
أول القول هنا إن لهؤلاء الموهومين أن يخرّفوا كما يشاءون، وإننا، نحن الذين ناصرنا المنتفضين السوريين من أجل وطنٍ لهم، متحرّرٍ من نظام القتل والخنق والنهب، كنّا على حقّ، وما زلنا على هذه الحق، والذي صار لم يخصِم شيئا فينا من الذي كنّا فيه وباقين عليه، لأن هذا الذي صار استقواءُ نظام الطاغية على الشعب السوري بقوّة النيران لديه، بالروسي والإيراني وغيرهما، ليؤبّد حكم العائلة الفاسد هناك، وليًصادر من السوريين أشواقهم نحو الحرية والعدالة. أبداً، لم نكن على خطأ، ولو تفشّت أمراض الإرهاب في غير بقعةٍ من سورية التي تتناهشها ضباعٌ من غير لون، ولو ضرَبت قوى الثورة والمعارضة السورية في الداخل والخارج الأعطابُ التي نعرف والتي لا نعرف. لا يعني هذا كله أن علينا أن نسلّم بأننا كنّا في الضفّة الغلط. وليس يُقال هذا، من مدخل أنها معركةٌ وخسرناها، فلم يكن في بال السوريين الذين هتفت حناجرُهم بالثورة، ولا في بالنا نحن المعتصمين بنُصرتهم، أن المعركة مواجهةُ دم بدم، وإنما هي مساجلة فكرة بفكرة، خطُّ بخطّ، فالأفُق الذي نظر إليه الثوّار، وآلاف الشهداء الذين أزهق أرواحَهم نظام غاز السارين، أفقُ تحرّرٍ وعبورٍ إلى الديمقراطية التي يستحقّ كل شعب عربي أن ينعُم بأفيائها، وإلى حكمٍ يأخذ بالعدل والإنصات للشعب ويوفر لكل فردٍ المساواة والعيش الكريم. وعندما لجأ النظام في سورية منذ اليوم الأول للثورة، في دمشق وفي درعا، إلى الرصاص، ثم إلى الصواريخ والقذائف، فقَد كل أوراق توتٍ ادعى بها شرعيةً له، لم يكن يقيم عليها أصلا، وصار عليه أن يخجَل ويُغادر، ويسلّم الأمانة، وهي الحكم، إلى من يستحقّها من الشعب الذي احتمل ما لا يُحتمل، تحت وطأة قمعٍ وقهرٍ منذ عقود.
إذا أُريد فتح الملفّ من أوله، نقطة البدء هي هذه، وليست أن انتصارا أحرزَه بشّار الأسد الذي اصطنع انتخاباتٍ كاريكاتورية ليظل في قصر المهاجرين، وهو الذي أتَت الأقدار له بشرعية من حادثة سيرٍ قضى فيها شقيقٌ له، كان والدهما يرتّب له “ولاية العهد”. والخلاصة، بعد كل قولٍ وجدال، أننا باقون على قيم الربيع العربي التي ما ماتت أبداً، وإن رفعت قوى الثورة المضادّة بيارقها خفّاقة، وهي تنشطُ في إقامة علاقات التحالف المشينة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهي تؤازرُ نظماً انقلابيةً ضد إرادات الشعوب في غير بلد عربي، وهي تطوّق قوى اجتماعيةً وسياسيةً وثقافيةً ومدنيةً عريضةً في المجتمعات العربية بالحصار والتشنيع والاعتقالات والعُسف.
مرّة أخرى، وليست أخيرة، لم تنتصروا، ولم ننهزِم، معركة الشعب السوري طويلة، ومؤسف أنها تعمّدت بدمٍ غزير، غير أن هذا لن يعني، في أيّ يوم، لنا، أن هذا الشعب أخطأ. نصرَه الله وحماه.
المصدر: العربي الجديد