تمثل شخصية أبي ماريا القحطاني حالة دراسية جاذبة للمهتمين بالجهاديين والحركات الجهادية لجهة قدرته، مقارنة بأقرانه أو أشباهه، ليس فقط بالبقاء على قيد الحياة وإنما بالاستمرارية والفاعلية التنظيمية لعقدين من الزمن رغم سجله الجهادي الحافل بالتغيرات والانقلابات.
نستعرض باختصار محطات القحطاني المختلفة، إذ عايش ميسر الجبوري حركات جهادية عدة في العراق وسوريا منذ عام 2003، وبرز اسمه تدريجيا بعد تأسيس دولة العراق الإسلامية عام 2006 لا سيما بعد الخلاف مع قيادتها وهربه إلى سوريا، وتأسيس خلايا نائمة وشبكات إسناد ودعم في شرقي سوريا مكنته من التقرب من الجولاني عند تأسيس النصرة.
وبشكل سريع، استطاع أن يحظى بمكانة داخل التنظيم الجديد ليسهم في انقلاب كبير عنوانه تمرد الفرع (النصرة) على الأصل (الدولة الإسلامية) ضمن مسار جهادي جديد يصوب بوصلته الجهادية العالمية وممثلها تنظيم القاعدة قبل أن ينقلب عليها مجددا بعد استنفاد الغايات الآنيّة من مبايعة الأمير السابق لتنظيم القاعدة أيمن الظواهري.
بعد ذلك ستدخل جبهة النصرة مسارا جديدا يسيطر عليه التيار الأكثر تشددا مع مشروع هدفه ابتلاع الفصائل الإسلامية والوطنية وتأسيس نوع من الإمارة الجغرافية، ليجد القحطاني نفسه مهمشا أمام سطوة التيار الأردني قبل أن يعود إلى الواجهة بعد نزوع هيئة تحرير الشام إلى إجراء تحولات سلوكية وتنظيمية في محاولة لإقناع القوى الإقليمية والدولية بشطبها من قائمة الإرهاب وقبولها طرفا معترَفا به. وهو ما حتّم على قيادات الهيئة ومنها القحطاني فتحَ قنوات تواصل خارجية انتهت به وزمرة كبيرة من رفاقه المؤثرين في سجون الهيئة السيئة الصيت، وبتهمة جديدة هي “العمالة”، فاتحة بذلك أزمة متدحرجة صار لها اسم “أزمة العملاء” وأطرف متقابلين هما “العملاء سابقا” و”الشرفاء حاليا” بعد تبرئتهم وإطلاق سراحهم على وقع أصوات الرصاص والأغاريد، وعلى وقع هتافات ومظاهرات شعبية تنادي لأول مرة بإسقاط الجولاني.
باختصار، حرص كل قائد تنظيم جهادي نشأ في سوريا أو في العراق خلال العقدين الماضيين على جذب القحطاني تمهيداً لاغتياله مادياً أو معنوياً، واستطاع القحطاني أن ينجوَ من جميع هذه المحاولات، وآخرها المحاولة الأكثر إحكاما وتخطيطا التي قام بها الجولاني في قضية العملاء. ليس هذا وحسب، بل إن دلالات الصورة التي خرج بها القحطاني من السجن مرتديا بزته العسكرية “الجهادية” واستعداد موكب ضخم من الحلفاء لاستقباله بالزمامير العالية يشي بمواجهة جديدة قادمة عنوانُها الصدام، فمن سيكون المنتصر فيها: الجولاني أم القحطاني؟
في أبحاث سابقة، حاججت بأن الحركات الجهادية المعاصرة وخاصة في مرحلة تأسيس المجموعة المغلقة “Exclusive Group” باتت تحتاج، وبالإضافة إلى القائد، إلى نوعين جديدين من الشخصيات وهما المختص بالعنف” Violence Specialist” و “Political Entrepreneur”. وقد بات الصنف الثاني بكل المعاني التي تتيحها ترجمة كلمة entrepreneur (رجل أعمال، متعهد، مقاول، مبادر .. إلخ) تشغل اهتمام كثير من الباحثين بالنظر إلى أن الأيديولوجية لم تعد تمثل السمة الرئيسية في توصيف وتحليل الحركات الجهادية الجديدة.
بكلمات أخرى، ولى زمن الجهاديين العقائديين مقابل صعود الجهاديين الطامحين أو النرجسيين “Narcissists” الذين ينظرون إلى الجهاد كأيديولوجيا يمكن تأطيرها وتغييرها في أي وقت للحصول على أكبر مكاسب ممكنة تختلف بين تحقيق الأحلام الشخصية بالثراء والمنصب وصولا إلى محاولة تغيير الكون واحتلال مانشيتات الصحف والوكالات الإعلامية. بتعبير آخر، لم تعد سمة “التغيير” أو “التحول” في التنظيمات الجهادية المعاصرة تشمل البراغماتية السلوكية وإعادة الهيكلة التنظيمية بل تتعداها إلى القيام بتحولات فكرية عادة ما يطلق عليه الجهاديون اسم “مراجعات” تجري أيضا بدوافع دينية بحيث تستحضر نصوصا، وتأويلات، وتفسيرات دينية ليس فقط لإضفاء هالة من القداسة عليها لتطاع من المستويات الدنيا والمتوسطة على مستوى التنظيم، بل وتجنّبا لتقديم اعتذار عن المرحلة السابقة أو تحمل مسؤولية عمومية ما، وهي مسألة تكاد تكون نادرة عند الجهاديين.
إذا، لم تكن “أزمة العملاء” الأخيرة قائمة في جوهرها على الخلاف على “العمالة” كقيمة، بل على احتكار “العمالة” كمفهوم وممارسة باتت الحركات الجهادية الجديدة تعرفها بالتواصل المباشر مع القوى الخارجية من دون الاعتماد على وسطاء أو أطراف ثالثة من خارج التنظيم كما دأبت عليه العادة درءا للاختراق والأهم لمنع الدول من التأثير على الديناميات التنظيمية الداخلية.
بكلمات استنتاجية، لم تعد هيئة تحرير الشام بعد الأزمة الأخيرة تنظيما منضبطا محكما عصيا على القوى الخارجية الراغبة في التأثير داخله، بل وصلت إلى مرحلة يوجد فيها أجنحة وشخصيات واضحة تتمايز عن قيادة التنظيم، شخصيات طامحة للدور والتأثير وأسست تواصلا وعلاقات دولية لخدمة ذلك بمعزل أو بتضاد مع القيادة. يعني ذلك أن هامش التأثير الدولي قد ازداد داخل الهيئة، وهو ما يضع مستقبلها أمام سيناريوهات مختلفة ترتبط بعوامل مختلفة نذكر منها سريعا؛ صلابة الجهاز الأمني والعسكري، والقدرة على تبادل وتوزيع امتيازات جديدة ضمن مسارات إدارة الأزمة داخليا، والعامل الخارجي وهو عادةً ما يكون الأهمّ في سياقات الثورة، والتمردات، والصراعات المسلحة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا