يبحث كاتب هذه الورقة عن كیفية تعامل طالبان مع إسرائيل وخاصة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب على غزة، ويحاول الإجابة عن السؤال: هل سيكون لصعود طالبان تأثیر مباشر علی دعم القضية الفلسطينية؟ تفترض هذه الورقة أن صعود طالبان ونفوذها في أفغانستان سيكون له تأثیر علی القضية. وسيكون لدعم طالبان للمقاومة تأثیر قوي على المدى القريب سیجعل الأمن الإسرائيلي أمام تحدیات جدیة وخطرة.
كانت أفغانستان خلال القرنين الماضيين محط أطماع القوی العظمی وقد اختلفت الدوافع والأسباب. وفي المئة عام الأخیرة، عاش الشعب الأفغاني فترات طويلة من الحروب والصراعات الداخلیة أو الصراع مع المحتلین تتخللها فترات أقل من الاستقرار واستتباب الأمن. لقد كانت الدول العظمی الثلاث (بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة الأميركية) خلال القرنين الماضيين، وهي في أوج قوتها تنظر نظرة احتقار إلی أفغانستان وإلی الشعب الأفغاني وبهذه النظرة دخلت إلی تلك المنطقة الجبلیة، لكن سرعان ما وقعت في المستنقع على مدى سنوات طویلة؛ فاضطرت إلى الفرار من هناك دون أن تستطيع حفظ ماء وجهها.
في 27 دیسمبر/كانون الأول 1979، غزت القوات السوفيتية أفغانستان، بأمر من ليونيد بريجينیف، الذی كان رئیسًا لمجلس السوفيت الأعلی آنذاك. استمرت الحرب الاستنزافية والفاشلة نحو عقد من الزمن وأُجبر الروس علی الانسحاب، بفعل ضغوطات متعددة، في 15 فبراير/شباط 1989. كانت الحجج لشن الحرب واهیة وسخیفة ودون تحقيق أي إنجاز يذكر(1).
أسهمت مشاركة المتطوعين العرب في فترة الجهاد المسلح ضد الاتحاد السوفيتي، بتوجیه ودعم من الدول الغربیة، في زيادة قوتهم وقدرتهم ومن ثم انقلبوا على الولايات المتحدة وبدؤوا في شن عملیات ضدها انطلاقًا من أفغانستان(2) التي أصبحت توصف بـ”موطن الإرهاب”. وأصبح لكل حركة حضور رمزي أو فعلي هناك(3). أدی الفعل الرمزي لحركة القاعدة في الهجوم علی برج التجارة العالمي، في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، إلی توفير جمیع الذرائع للهجوم الأميركي واحتلال أفغانستان. وبعد عقدين من المقاومة لحقت الهزیمة بالولايات المتحدة وحلفائها وتم إنهاء الاحتلال مع خروج مذل لهؤلاء من أفغانستان وكانت عشرون سنة من الإرادة القویة والدعم الشعبي كافية لتحقیق النصر؛ فقد كانت أفغانستان مقبرة للإمبراطوریات القدیمة والجدیدة(4). بعد مضي عقدین علی الاحتلال واستعمال العنف وبناء وعسكرة الدولة وإنشاء قواعد عسكریة وإلحاق الدمار بالبلاد لم یبق لواشنطن التي دفعت ثمنًا باهظًا ليكون لها حضور في المنطقة وخلق نظام جدید فيها من خیار سوی الخروج من أفغانستان.
إن الموضوع الأساس الذي تبحثه هذه الورقة، هو موضوع صعود طالبان واحتمال أن توسع دعمها لفلسطین ارتكازًا علی مباني الإدراك الأساسية للقضیة التي سوف نناقشها لاحقًا. وتفترض الورقة، نظرًا للاتجاه الدیني والخلفية المذهبية لقادة طالبان، أنه بعد صعود طالبان والاستیلاء علی السلطة وتمركز القوة في الداخل وتقویة العلاقات مع دول الجوار ستتصدى الحركة لقضية فلسطین والصراع مع إسرائيل بصورة جوهرية، وسوف تتحول طالبان إلی ضلع جدید ومؤثر في المواجهة مع إسرائيل. وتبحث الورقة في كیفية تعامل طالبان مع إسرائيل وخاصة بعد مواجهات مخيم جنين و”طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والحرب على غزة. إن صعود طالبان ونفوذها في أفغانستان سيكون له تأثیر مباشر علی المقاومة الفلسطینیة. وفي المدی القریب سيشكل دعم طالبان للمقاومة الفلسطينية تحديًا جديًّا وخطرًا لإسرائيل.
المباني النظریة لاهتمام طالبان بفلسطین
یمكن القول: إن اهتمام طالبان بالقضية الفلسطينية متأثر بالمباني الفكریة ووجهات نظر مختلفة. تعتقد الدولة الجدیدة بوجود وجهات نظر متعددة، منها الدینیة والحقوقیة والأمنیة والسیاسیة والإنسانیة، التي تمنحها الحق الكامل في أن یكون لها رد فعل على ما یدور من أحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة. باختصار، یمكن مناقشة هذا الاهتمام من نواح مختلفة، وهي:
الناحیة الدینیة: إن الناحیة الدینیة هي من أهم النواحي التي تعتمد علیها طالبان في موضوع فلسطین؛ فالاهتمام بأوضاع المسلمین في فلسطین يأتي في صدر جدول أعمال طالبان الدینیة والمذهبیة. إن النظرة التقلیدیة والدینیة والتجربة الطویلة لطالبان في محاربة العدو المحتل الأميركي أصبحت تمثل رؤیة قویة ومركزية لديهم. واستنادًا إلى المباني الفكریة التي منها السلف الصالح والأحادیث والروایات المرتبطة بذلك لم یبق لدی قادة طالبان وخاصة بعد السیطرة علی مقالید الحكم في أفغانستان والقدرة العسكریة أي شك في ضرورة الدفاع عن حقوق إخوانهم المسلمین في فلسطین. وقد امتزجت الثوابت الدینیة مع القدرات العسكریة والمالیة وحوَّلت الواجب الكفائي إلی واجب عیني(5).
الناحیة الحقوقیة: تؤيد المعاییر الاجتماعیة والحقوقیة أیضًا المباني الفكریة لدی الدولة الجدیدة. من الناحیة الحقوقیة ووفقًا للمستندات التاریخیة والثقافية لم یكن للغرب أي حق في تقسیم فلسطین دون موافقة السكان الأصلیین. إن العلاقات الصهیوصلیبیة التي أدت إلی اتفاقیة سایكس بیكو هي التي وفرت الأرضیة المناسبة لتمزیق العالم الإسلامي حیث یجب أن ینمحي هذا النظام الاستعماري التقلیدي(6).
لقد عارض الحكام السابقون في أفغانستان، والذین كانوا من البشتون، مشروع التقسیم وقرار 191، وكانت أفغانستان من ضمن 13 دولة عارضت بشكل صریح وبارز قرار التقسيم، ولم تستطع ضغوطات الدول الغربیة أن تثني أفغانستان عن ذلك. وهذه الرؤیة الحقوقیة لفلسطین ما زالت قائمة وفاعلة إلی یومنا الحاضر(7).
الناحیة السیاسیة: تعد هذه الناحیة من أهم النواحي لتركیز طالبان علی القضية الفلسطينية. إن صعود طالبان وبسط سیطرتها علی البلاد بغض النظر عن كیفية حصول ذلك، منحتها قدرة بلا منازع. بعبارة أخری: إن أفغانستان التي عانت حالة من الفراغ بسبب غياب دولة مركزیة ولم تتمكن من ترسیم حدودها السیاسیة أصبحت الیوم في مكانة تسمح لها أن ترسم حدود الجغرافيا السیاسیة في المنطقة علی قدر استطاعتها. أي إن حركة طالبان علی المستوی الإقلیمي أصبحت عضوًا بارزًا وفعالًا ولا تنتظر إذنًا من الآخرين لتقوم بدورها وتنفذ سیاساتها. ویعد الموضوع الفلسطیني من أهم المواضیع التي تحمل في ذاتها طابعًا دینیًّا ومباني اعتقادیة تمكِّن طالبان من لعب دور فعال فيه وتدخل من خلاله في القضایا الأمنیة في المنطقة وتؤثر فيها بقوة(8).
الناحیة الأمنیة: تقع أفغانستان في نقطة مركزیة تلتف حولها أربع نقاط أمنیة مختلفة ومتضاربة. آسیا المركزیة وجنوب شرق آسیا والشرق الأوسط والخلیج. رغم أن دور أفغانستان في المجال الأمني ما زال خاضعًا للمحظورات والقدرات الأمنیة السیاسیة ولم يصل إلی مستواه المطلوب حتی الآن، إلا أن صعود طالبان والسیطرة علی الحكم والتمكن من الاستیلاء علی البلاد صار سببًا رئیسیًّا في خروج هذه الدولة من الانزواء والهامشیة وأن تتحول إلی قوة حدیثة یمكنها أن تؤدي دورها تدريجيًّا في المجالات الأمنیة عبر السبل المتعارف علیها والرسمیة.
الناحیة الإنسانیة: يتعلل الغرب بالعامل الإنساني ومسؤولیة الدعم للتدخل في الشأن الأفغاني، وتحت هذه الذرائع الواهیة احتل البلاد عقودًا طويلة. وبعد أن تمكنت حركة طالبان من طرد المحتل تسعی إلى إقامة دولة مركزية في أفغانستان، تبسط سيادتها على البلد وتوسع نطاقها الأمني والقيام، ومن ثم القيام بدور فعال في الدفاع عن الشعب الفلسطیني، باستخدام الأدوات نفسها والطرق التي كانت تستخدم ضدها سابقًا. التدخل الإنساني ومسؤولیة الدعم هما عنوانان یحملان طابعًا حقوقیًّا وإنسانيًّا ویمكن للدولة الجدیدة أن تستند إلیهما في حملتها للدفاع عن فلسطین. إن الدفاع عن شعب يتعرض لأعمال إرهابية من طرف قوة محتلة يعطي طالبان الحق في التدخل والدفاع عن الشعب الفلسطیني. إن العوامل التي ذُكرت آنفًا تحمل في طياتها جوانب مختلفة یمكن التطرق إلیها علی حدة. وكل تلك العوامل تعطي المجال نظريًّا وعمليًّا للتدخل الأفغاني في الشؤون الجیوسیاسیة في الشرق الأوسط وفقًا لما ورد في البیانات الثلاثة الصادرة عن وزارة الخارجیة لطالبان(9). …………
وكلما ازداد نفوذ طالبان وسيطرتها علی الدولة المركزیة والاستقرار في محور الدولة إلی جانب السیطرة التامة علی القوات العسكریة وتوحید القوی المختلفة، ازداد مستوى قدراتها في القضایا الأمنیة للمنطقة والتي تم ذكرها أعلاه. في المدی القریب، سوف یظهر نظام جدید في المنطقة وستكون للقدرة الحدیثة لطالبان دور ومكانة فعالة في هذه القضایا الأمنیة علی المستوی الإقلیمي ومن هذا الباب سوف يمتاز الشرق الأوسط، لاسیما فلسطین، بمیزة خاصة نظرًا للدلائل التي سوف تأتي لاحقًا.
دروس للفلسطینیین من فوز طالبان
تبين كتابات بعض الشخصيات في حركات طالبان رؤية الحركة للقضية الفلسطينية وموقفها من الصراع مع إسرائيل. إن رؤية طالبان واضحة ترى أن إسرائيل جلبت المصائب والبلايا للمنطقة.
ولا یوجد في الخطاب الإسلامي عند طالبان مكان للیهود (ليقيموا دولة) في العالم الإسلامي، بل تكون لهم مكانة في ظل الدولة الإسلامية. وترى طالبان أن الیهود تم إغواؤهم وتسللوا تدریجیًّا إلی فلسطین، اعتمادًا علی خیانة بریطانیا للمسلمین وصدور وعد بلفور وتم تسلیم الأراضي الفلسطینیة في ظل الضعف الإسلامي إلی الیهود، وتخلت الأمم المتحدة عن مسؤوليتها الحقوقیة وأعطت الأراضي الموقوفة في فلسطین إلی الیهود. وكان الولايات المتحدة الأميركية ظهيرًا لبريطانيا في الخیانة والغدر، والأمم المتحدة هي في الواقع ألعوبة بیدهما. كما أن الدول الإسلامية ألعوبة بید الدول الكبری ولا یمكن غض النظر عن خذلانها لقضية فلسطين. بعبارة أخری: إن نظرة طالبان إلی إسرائيل والحركة الصهیونیة نابعة من النظرة العامة للمسلمین تجاه الیهود وهي نظرة تنحدر من تاریخ صدر الإسلام. ويرى “شاهد زویي”، أحد كتَّاب طالبان، أن الیهود فرقة عنصریة وعدوة قویة للإسلام والمسلمین، أصبحت حصنًا یروج للعقائد الغربیة المنحطة وخنجرًا دخل قلب المسلمین والبلاد الإسلامية والقبلة الأولی للإسلام(10). وكتب بدر الدین حمادي، وهو طالباني الانتماء، في موقع “صمود” الإعلامي، أن الدفاع عن فلسطین وتحریرها واجب علی كل مسلم. ويرى حمادي أن مواجهة أميركا في أفغانستان هي انتقام لما تقوم به إسرائيل في حق الشعب الفلسطیني.
إن السؤال الجوهري هو: هل سيؤدي صعود طالبان إلى تغییرات جیوسیاسیة في المنطقة وخاصة فيما یتعلق بالقضية الفلسطينية؟ الجواب دون تردد: نعم، وسوف یؤثر علی الأزمة في الشرق الأوسط ومركزها في فلسطین. بعد الاطلاع على تصريحات ومواقف قادة طالبان من القضية الفلسطينية في خلال العام الماضي وأیضًا استنادًا علی تحلیل الخطاب المذهبي الحاكم، یمكن وصف تلخيص التأثيرات على النحو الآتي:
- تعزیز الروح المعنویة والبنیة الفكریة لاستمرار المقاومة.
- امتلاك دوافع قویة في طریق تحریر فلسطين.
- نجاح طالبان في هزيمة أميركا وحلفائها.
- الاستقلال الفكري عن الغرب والقیم الغربیة.
- رغبة الطرفين في التعاون لمواجهة الغرب وأعوانه في المنطقة.
- ملء فراغ غياب قوة سُنیَّة تدعم المقاومة الفلسطينية.
- منافسة إيران الشیعیة في الدفاع عن فلسطین والقيام بدور ریادي في العالم الإسلامي.
- ضرورة توحید جمیع الحركات للوصول إلی هدف مشترك.
- الضغط علی الدول الإسلامية والعربیة لحل الأزمة.
- استلهام إلحاق الهزيمة بأكبر قوة عسكریة في العالم وحلفائها بأقل الإمكانات.
- خلق توترات أمنیة للشیطان الأقرب (إسرائيل).
- استئناف العمل الجهادي في فلسطین وإحیاء الواجب العیني وإقامة الفرائض المنسیة.
- دعم المظلومين والدفاع عن الوقف الإسلامي والقبلة الأولی.
وفضلًا عن ذلك يركز قادة حركة طالبان علی القضیة الفلسطینیة ومركزيتها في العالم الإسلامي وضرورة سعي الجمیع إلى تحریر فلسطين. هذا دون إغفال الفعاليات الداعمة للقضية الفلسطينية التي نظمتها طالبان ومنها عدد المؤتمرات عن فلسطين، وأنشطة دعم الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وإصدار بيانات قوية عن أحداث مخيم جنين، والإشادة بأداء قادة حماس، والقلق من المسار العقيم والفاشل الذي تنتهجه السلطة الفلسطينية، والاهتمام بالمقاومة المسلحة لتحرير كل فلسطين، ونصب الجداريات الداعمة لفلسطين. كل هذا يؤكد تغير سياسة أفغانستان في ظل طالبان تجاه فلسطين.
وبناء على ما سبق، كيف يمكن أن يؤدي دخول طالبان طرفًا في معادلة الصراع مع إسرائيل إلى آثار سلبية على الاحتلال؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر على الجغرافيا السياسية للمنطقة ويغير تركيبة الصراع والهيمنة فيها؟
جواد شعرباف مدیر قسم دراسات غرب آسیا وعضو الهیئة العلمیة في كلیة الدراسات العالمیة في جامعة طهران.
مراجع
- Israeli, Ofer. “The Roundabout Outcomes of the Soviet-Afghan War”. Asian Perspective.(Volume 46, 2022). pp.1-20.
- الربیعي، فاضل، “دور الولایات المتحدة وباكستان فی دعم التنظیمات الأفغانیة المقاومة”، (مجلة الدراسات في التاریخ والآثار، عدد 56 سنة 2016)، صص 158-206.
- Ginsburg, Susan. Countring Terrorist Mobility. Washington: Migration Policy Insititute, 2006,p46- 49
- Jones, Seth. In the Graveyard of Empires: America’s War in Afghanistan. (Norton & Company, Montgomery, 2009). P. 45
- محمد عبد السلام، فرج، الجهاد الفریضة الغائبة، (د.ن، 1981).
- عبد الله بن محمد، جمع القیم لسلسلة المذکرة الإستراتیجیة، مؤسسة المأسدة الإعلامية (جزیرة العرب، 2011)، ص 12-13.
- United Nations. Yearbook of the United Nations 1947-48 (excerpts)
- Indian Council of World Affairs. Decoding Taliban’s Stance on Israel-Hamas Conflict. (December 2023), (accessed: 3March 2024): https://2u.pw/djbyX6S
- نظرة على موقف حركة طالبان من التطورات في فلسطين، مطالعات شرق، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2024)، https://2u.pw/cHOWUi6
- Aggarwal, Neil K. The Taliban’s Virtual Emirate: The Culture and Psychology of an Online Militant Community. (Columbia University Press, Columbia2016.) p. 127
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات