ياسين الغماري كاتب تونسي متميز وواعد، قرأت له رواية زمن التعب المزمن سابقا وكتبت عنها…
الساعاتي صانع الزمن رواية ياسين الغماري هذه تعتمد في سردها على لغة المتكلم على لسان الراوي الغير محدد الاسم ونحن ندعوه هنا صاحبنا وهو الشخصية المحورية فيها.
تبدأ الرواية فيما يشبه الخطف خلفا حيث يتواجد صاحبنا في مشفى للعلاج النفسي في مدينة نيس الفرنسية ، وها هو يستعيد حياته السابقة…
صاحبنا من إحدى مدن تونس ينتمي لعائلة لم تكن منسجمة تماما وقاسية عليه، والده متوفى ووالدته كذلك، شبه منقطع عن ارتباطاته العائلية. كان متميزا في دراسته، وعندما وصل إلى الدراسة الجامعية كان متفوقا، لكن ادارة الجامعة ظلمته ومنعت من اعطائه درجة التفوق، وذلك لمصلحة طلاب آخرين لهم علاقة مع الإدارة، ضمن معادلة فساد كانت متواجدة في الجامعة وفي كل البلاد، وكذلك الحال عندما انتقل الى المجال الوظيفي، وجد أنه ضحية التمييز والتعامل بسلبية، ضمن أجواء النميمة والحسد والتقرب من المسؤولين عبر النفاق، وهو لم يكن مستعد لأي من ذلك…
تراكم الظلم العائلي والاجتماعي والتعليمي والوظيفي على صاحبنا، بحيث أصبح يحمل مشاعر سلبية تجاه الحياة، وصلت إلى تفكيره بعدم جدوى حياته، وأن الانتحار قد يكون أفضل حل لحياة لا تستحق أن تعاش، لذلك قرر ان يراجع احد الاطباء النفسيين لعله يجد عنده العلاج المناسب لحالته، كان للطبيب النفسي وسكرتيرته منعكسا نفسيا سلبيا على صاحبنا، فبدل أن يستوعبوا حالته ويحتضنونه، كانوا يتعاملون معه وكأنه سلعة يجب استهلاكها بسرعة واستثمارها بأفضل طريقة، الطبيب لا يستمع له ولا يعطيه فرصة للتحدث عن نفسه ومعاناته، بل كان يتهكم عليه، وكذلك فعلت الممرضة التي كانت تستعرض عليه وتتصرف بتعالم و تذاكي. كما أعتمد الطبيب على العلاجات النفسية مهدء وغيره وهذا زاد من خموله وادخله في حالة أقرب للإدمان، وزادت من تفاقم مشلكته بدل حلها. وعندما يراجع طبيبه حول العلاجات يغيرها له، بحيث تزيد معاناته وتجعل وضعه يزداد تدهورا.
وزاد سوء الحال عندما ذهب الطبيب لسبب ما الى مركز عمل صاحبنا واعلم العاملين مع صاحبنا بأنه يتابعه عنده في العيادة النفسية في قضايا نفسية، وهذا انعكس بشكل سلبي جدا على صاحبنا الذي أصبح ضحية غمز ولمز عنه بصفته “مجنون”. ان المجتمع لم يتقبل بعد فكرة ان المرض النفسي كالمرض الجسمي لا يشكل عارا على صاحبه وأن علاجه ممكن ومطلوب، لكن صاحبنا لم يكن بوارد تفهم الموضوع أو عقلنته، وزاد وضعه سوء، فقرر السفر إلى فرنسا لمتابعة علاجاته مما يعيش، فهو يكاد أن يدخل في عالم الجنون الفعلي، وقد ينتحر في أي لحظة. فالحياة لم تعد تطاق بالنسبة له…
انتقل إلى فرنسا ودخل مصحة نفسية في مدينة نيس، هناك تعرف على الكثير من حالات المصابين بأزمات نفسية التي يعيشونها ولأسباب مختلفة. وبما انهم يتواجدون بما يشبه المشفى بشكل جماعي و يتابعون من أطباء واخصائيين نفسيين نساء ورجال، ويتواجدون مع بعضهم خارج الغرف الخاصة في فضاء المصحة، فقد كان لصاحبنا فرصة رصد حالة المحيطين به، ثم قبول التقرب من بعضهم، وكان الساعاتي أحد هؤلاء…
الساعاتي رجل يكبر صاحبنا بالعمر، يعمل في تصليح الساعات، لديه أيضا معاناته النفسية. ناضج وواعي وفاهم للحياة، ساعد في اعادة تأهيل صاحبنا وجعله متقبلا للحياة وباحثا معه عن أفق افضل، وجعله ينظر للحياة وموضوعاتها بمنظار الوقائع الناجزة وان المهم للإنسان أن يعرف كيف يتحرر من ماضيه وما حصل فيه خاصة وان بعض الماضي حصل في الطفولة حيث لم يكن صاحبنا سوى متلقي لما عاشه ولا قدرة له على مواجهته. بل وقوعه فقط ضحيته…
لقد عوض الساعاتي لصاحبنا عن غياب الصديق في حياته، وأصبح بلسما نفسيا لاحتياجه للصديق الذي يكون تعويضا عن كل العلاقات الانسانية الاخرى المفتقدة عائلية وغيره…
هذا غير المعاملة المختلفة من طبيبه والمرافقين له من المشرفات الذين احتضنوه انسانيا اولا. ثم بدأوا بالدخول الى عمق الجانب النفسي لأصل مشكلة صاحبنا التي عاناها في طفولته، وتوصلوا معه بعد مضي زمن طويل وعبر تقنيات نفسية علمية بما فيها التنويم المغناطيسي حتى يخرج مكنونات عقده النفسية ويتحدث عنها ويتحرر منها. وبالفعل فقد وصل إلى عمق نفسه وتحدث عن طفولته المعذبة وظلم والده مدمن المشروبات المسكرة، و معاملته لأمه بقسوة تصل إلى درجة الضرب والإساءة اللفظفية، هذا غير التعامل الوحشي معها وهو في حالة السكر عند جماعه الجنسي معها بعنف واشبه باغتصاب، ومشاهدته ذلك رغم صغر سنه وانعكاس ذلك عليه سلبيا، وان والده ذلك مرض بعد ذلك ومات وهو الطفل لم يكن قادرا أن ينجده ولو بشربة ماء، وكيف توفيت والدته إثر ذلك. وعاش بعد ذلك محروم من العائلة التي كانت بالاصل سيئة…
في المصح مع التناغم بين دور الساعاتي الأخ الأكبر والصديق الوفي والعقل الناضج والواعي الذي شكل لصاحبنا قنديل ينير له لأول مرة افق المستقبل. و بالتوافق مع عمل الطبيب والمشرفين. الذين كانوا يقومون بدورهم على أكمل وجه، أعيدت لصاحبنا روحه الانسانية الايجابية وجعلته يفكر ان الحياة جميلة وتستحق أن تعاش وانه قادر ان يعيشها وينجح بها…
لقد سبقه صديقه الساعاتي بالخروج من المصحة الى الحياة العملية ليعيش متحررا من أعبائه النفسية حيث تزوج وبنى اسرة سعيدة، واستمر يتواصل مع صاحبنا عبر رسائل دائمة. لقد اتفق معه أنه ينتظره في الخارج ليسكن جواره، وليبدأ معه رحلة حياة إيجابية يستحقها ويمارسها…
تنتهي الرواية وصاحبنا يتحدث عن الصداقة بصفتها اكسير الخلود، والصديق الوفي بصفته البديل الحقيقي عن كل ما يفتقده الإنسان بالحياة وان صاحبنا وجد بالساعاتي هذا الصديق وأنه سيعيش بجواره وبرفقته في الحياة بأحسن حال…
في التعقيب على الرواية اقول:
لا استطيع الا ان احيي الروح الوثّابة المتمكنة والناضجة والقادرة على سبر أغوار النفس البشرية بعمق وقدرة، مع قدرة على التفلسف بمعنى الخوض بالموضوعات الانسانية من مناحيها المختلفة، وهذا يعبر عن عمق معرفي عند كاتبنا المتميز ياسين الغماري…
كذلك لا بد من التأكيد على أن الرواية نجحت في سرد واقع التخلف الاجتماعي في تونس بصفته أحد أدوات الهدم للشخصية الإنسانية، العائلة الغير مترابطة، الأب المدمن، الأم الضحية، الطفل المهدور الكرامة والإنسانية، المجتمع المحيط بنفاقه وفساده وغمزه ولمزه، الفهم المتخلف للمرض النفسي قياسا للتطور العلمي حول ذلك. الفساد في البنية الوظيفية العامة، نموذجها الجامعة والمحسوبية وظلم الطلبة، الرواية لا تقترب من الجانب السياسي العام لتونس. غير أنها الرواية نفسها توضح في ثناياها أن بطل الرواية كان يتعالج في فرنسا أيام تفجّر مفاعل تشرنوبل في أوكرانيا الذي حصل قبل عقود. وكأن الرواية تريد أن تتحرر من الحديث عن الشأن العام التونسي في المرحلة المعاصرة…
بكل الأحوال لقد وصلت رسالة الرواية فهي تنتصر لانسانية الانسان، وان لا يكون ضحية الهدر فردا وجماعة، طفلا وكبيرا، انثى وذكر، وان مسؤولية ذلك جزء منها هي مسؤولية المجتمع نفسه. عاداته وتقاليده وأفكاره وقيمه ونمط حياته. وجزء آخر مسؤول عنه النظام السياسي العام. فهل هو يرعى الحقوق والمصالح للناس كل الناس، أم هو يعمل لمصالح المتنفذين على حساب المجتمع كله…؟!!.
نعم اي عمل ادبي مهمته أن ينتصر بأدواته لكرامة الإنسان وصونها وحصوله على حقوقه بالحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل…