حالة من الغموض واللا يقين تحلق فوق المنطقة الشرق أوسطية ما بعد حرب إسرائيل على قطاع غزة، ومصدره صراع دول الجوار الإقليمى العربى- ايران وتركيا-، على المكانة والنفوذ داخل المنطقة، من خلال عديد من الأدوات، وعلى رأسها الفواعل ما دون الدولة وتوظفيها من أجل مصالحها القومية، والأهم توظيف بعضها للمساءلة الفلسطينية كقناع لتبرير دورها فى الإقليم العربى. بعض اللا يقين مرجعه حالة التفكك فى نسيج العلاقات العربية – العربية، وصراعات بعض قادة الدول العربية الميسورة ماليا، فى بناء المكانة، ولعب أدوار إقليمية بديلا عن الأدوار التاريخية لمصر، والعراق، وسوريا، كنتاج للتغيرات والحروب الأهلية، وأيضا للعسر الاقتصادى فى مصر، وذلك دونما مقومات تتجاوز القوة المالية فى تكوينها الاجتماعى والسياسى، وطبيعة الدولة ذات الطابع العائلى فى هذه البلدان، وهشاشة، وضعف التكوين الديموغرافى فى تكوينها، والأهم ضعف الرأسمال الثقافى والسياسى والتاريخى لهذه الدول.
أحد أبرز ملامح الغموض المسيطر، هو الوجود الإسرائيلى ومستقبله فى المنطقة من حيث الاندماج او الصراع، وسعى اليمين واليمين التوراتى المتطرف لنفى المسالة الفلسطينية، ورغباته المحمومة والجنونية، فى تصفيتها، من خلال حرب الإبادة، والتهجير القسرى، والنزعة الاستيطانية للضفة، وإعادة السيطرة العسكرية على قطاع غزة فى أعقاب الحرب الوحشية على المدنيين العزل.
يبدو هذا الغموض السياسى، واضحا منذ بدء عملية السيوف الحديدية، حيث لم يكن لدى الحكومة الإسرائيلية، ومجلس الحرب المصغر تصوراً واقعيا لأهداف الحرب، وأيضا لمألاتها فيما بعد وقف شامل لإطلاق النار، سوى تصفية حركتى حماس والجهاد الإسلامى، وخلق منطقة عازلة في اراضي قطاع غزة، لأغراض أمنية، دون تصورات لمستقبله فى ظل رفض حاسم لحل الدولتين، وذلك على الرغم من بعض الخلافات بين الحكومة الأمريكية، والرئيس بايدن وادارته الديمقراطية، وبين نتنياهو مع الدعم السياسى والعسكرى والديبلوماسى الأمريكى لإسرائيل.
مؤخرا قدم نتنياهو تصوره لما بعد الحرب، وجاء حاملا معه المزيد من الغموض، والتشدد السياسى، لاعتبارات تتصل برغبته فى استمرارية الائتلاف الحكومى، ومكونه اليمينى المتطرف وممثليه بن غافير،وبتسئيل سموتريتش، ومحاولته الحيلولة دون مساءلته فى أعقاب نهاية الحرب، مع بعض القادة الاستخباراتيين والأمنيين والعسكريين، عندما يأتى وقت التحقيق حول عملية طوفان الأقصى. جاءت وثيقة نتنياهو تتسم بالعمومية المفرطة، وتتمثل فى:
* الحفاظ على السيطرة الأمنية فى الضفة وقطاع غزة.
* تفكيك حركتى حماس والجهاد الإسلامى وإطلاق سراح جميع الرهائن الذين مازالوا محتجزين فى القطاع.
* أن تتولى القوات الإسرائيلية الإشراف الأمنى على “كامل المنطقة غرب الأردن” برا وبحرا وجوا للحؤول دون تعزيز العناصر الإرهابية فى الضفة الغربية وقطاع غزة وإحباط التهديدات الصادرة عنها ضد إسرائيل.
*احتفاظ الجيش الإسرائيلى بحرية غير محددة زمنيا للعمل فى جميع أنحاء القطاع من أجل منع عودة النشاط المسلح.
* إسرائيل لن تسمح بإعادة إعمار غزة قبل استكمال نزع السلاح فى القطاع.
* تنفيذ خطة تربية ضد التطرف، من خلال وضع سياسة منهجية وتعليمية ودينية جديدة.
* بدأت الحكومة العمل على وضع نموذج لحكم محلى فى غزة يتولى إرادة الشؤون المدنية بديلا عن حماس.
* وفق المصادر الإعلامية الإسرائيلية، باشر الجيش عملية تنظيف “حى الزيتون” فى مدينة غزة لفرض نموذج يعطى سكان القطاع إدارة هذا الحى، بعيدا عن حركة حماس.
* تكوين منظومة من عناصر من السكان يتولون مهمة تلقى المساعدات الإنسانية وتوزيعها على السكان من أجل خلق بديل فى شمال غزة، وفق القناة (12) الإسرائيلية. فى هذا السياق التقى بعض المسؤولين الإسرائيليين ممثلين من مواطنى القطاع لتحريك المشروع.
يرمى هذا المشروع، وفق التوصيفات الإسرائيلية إلى خلق “جيوب إنسانية” فى المناطق التى جرى طرد حماس منها. ووصف بينى غانتس هذا المشروع بأنه مشروع دولى، وليس إسرائيليا فحسب، وأن مهمتهم سيطرة أمنية 100 بالمائة، وصفر فى المائة سيطرة مدنية. وإنهم يبحثون عدة مسارات لضمان تحويل المساعدات لغزة عبر إدارة دولية بدعم من الولايات المتحدة.
* منع السلطة الفلسطينية ذات السلطات المحدودة فى الضفة الغربية المحتلة من ممارسة أى دور فى أن تكون شريكا فى “الجيوب الإنسانية” لعدم إدانتها هجوم طوفان الأقصى !.
هذا المشروع اليمينى المتطرف، يسعى إلى تغيير الجغرافيا والديموغرافيا فى الأراضى الفلسطينية، وفق أحد قادة حماس -أسامة حمدان- وينطوى على رفض الأعتراف بدولة فلسطينية، وفق حل الدولتين الأمريكي الغامض، والفصل بين غزة والضفة وما بين القدس والضفة، وتفتيت الأراضى الفلسطينية والاستيلاء عليها. بعض من هذا المشروع من المحتمل تنفيذه، إلا أن غالبه ينطوى على غموض، وعدم القدرة على التحقق فى الواقع الفعلى. لأنه يمثل إعادة طرح لمشروع( روابط القرى) الذى فشل فى مدينة الخليل منذ ما يقرب من 40 عاما مضت، وطرح فيما وراء مبادئ الحكم الذاتى فى اتفاقية الإطارين مع اتفاقية كامب ديفيد وهو ماسبق لنا نقده تاريخيا وعلي نحو مقارن آنذاك بالأهرام.
يتعامل المشروع مع حماس كمنظمة عسكرية، وليس كفكرة وإيديولوجيا وحركة اجتماعية لها قواعدها فى بنية النظام الاجتماعي في قطاع غزة والضفة. تناسى أيضا تكوين غالب الشباب والأطفال طيلة عقود عديدة، وفى ذات الوقت تمثل فكرة وثقافة المقاومة. يعيد المشروع الأفكار التى ارتبطت بمفهوم “التطبيع ” الذى جرى فى ألمانيا، واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، متناسيا إنه سلطة احتلال استيطانى استعمارى عنصرى وأن قيادات “الجيوب الإنسانية” من كبار السن، لن ينظر إليهم الشباب، سوى كجماعة عميلة للمستعمر الإسرائيلى، ومخابراته وأجهزته الأمنية والاستخباراتية. تفتقر الخطة الإسرائيلية لتحديدات زمنية للأنسحاب من القطاع. تختلف هذه الخطة عن موقف الإدارة الأمريكية الذى أعلنه أنتونى بلينيكن وزير الخارجية حول المبادئ الأساسية لمستقبل غزة، والذى تمثل فيما يلى:
* أن غزة يجب ألا تكون منصة “للإرهاب”.
* ينبغى ألا يحصل احتلال إسرائيلى جديد لغزة، ويجب عدم تقليص أراضى القطاع.
* ثمة دول عديدة فى المنطقة تعمل على خطة لمرحلة ما بعد الحرب.
هذه المبادئ العامة السائلة والغامضة ترفضها حكومة نتنياهو، ومع ذلك فهى غير محددة المعالم فيما يخص الأعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، على نحو ما قاله بايدن عن أن هناك “أنماطا للدول”، أى منزوعة السلاح، ولا نجد تصورا لمسألة الحق فى العودة، وقضية اللاجئين، ولا وضع القدس الشرقية.
ما يزيد من غموض هذا التصور الأمريكى ما قدمه جيك سوليفان مستشار الأمن القومى فى مؤتمر “دافوس” يناير 2024، من رؤية تنطوى على ثلاثة عناصر وفق بعض الخبراء هى:
1- التطبيع 2- أمن إسرائيل 3- الدولة الفلسطينية.
فى ذات السياق ما تسرب إعلاميا عن بعض من التوافق لدى بعض الدول العربية المعنية علي وقف شامل لإطلاق النار، والاعتراف بدولة فلسطينية، والمشاركة فى إعمار غزة، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. أن ترتيب الأولوياتو وإعادتها لديهم محتمل فى هذا الإطار، بحيث تكون إعادة الإعمار، والتطبيع، ثم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.
غموض، وعدم تحديد أوضاع مابعد الحرب، يشير إلى هيمنة الرؤية الإسرائيلية، ورفضها لحل الدولتين، الذى بات يمثل “شيطانا رجيما” فى إدراك اليمين واليمين الدينى التوراتى المفرط فى تطرفه، ورؤاه الأسطورية، النافية لوجود الشعب، والأراضى الفلسطينية، وحقه المشروع فى تقرير مصيره، وبناء دولته المستقلة على الأراضى التى احتلت بعد 5 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
المصدر: الأهرام
ماهي خطط الكيان الصهيوني لليوم التاليبفلسطين وغزة؟ وهل سيتم إعادة إحتلال القطاء وبناء البؤر الإستيطانية من جديد؟ هل إعادة إحياء روابط القرى للإدارة بدءً من توزيع المساعدات؟ إن المقاومة الوطنية الفلسطينية التي خططت وجهزت لطوفان الأقصى عسكرياً ولوجستياً ليس غائب عنها أساليب الإحتلال ولن تمر كما مرت سوابقها، وإن تلقت الدعم والتنسيق من دول عربية وإقليمية وأممية، لتحقيق الأمن والآستقرار بالمنطقة ينطلق من حل الدولتين بالسيادة الكاملة.