إطلالة حول وثيقة (الوطنية السورية) ومقال (نقص النمو الوطني) 

أحمد أراجه

سنميز بداية بين مفهومين: (الوطنية السورية) و (الوطنية القومية العربية).. ففي الحقيقة.. والأصل في الموضوع كما نراه.. أن الأمة العربية كانت حتى قبل سايكس بيكو تجتمع في الهوية الوطنية العربية قومياً، أو عروبيا إن شئنا القول.. حين تمايزت بخصائصها عن الدولة العثمانية، خاصة بحافز سياسة التتريك، وضعف الدولة التركية (الرجل المريض) .. ولما خذلنا العالم في بناء الدولة القومية العربية ، او حتى في نصفها المشرقي على الأقل ، بعد ( الثورة العربية الكبرى ) ، وكانت أمتنا حينها ضحية الجهل السياسي ، وضعف الدولة العثمانية في الدفاع عن الولايات العربية التي كانت تحكمها ، إضافة إلى تقاسمات سايكس بيكو ، كل ذلك أدى إلى تراجع وانحسار ( الوطنية القومية العربية ) إلى ممارستها قي الأقاليم العربية السايكسبوكية ، فمارستها – هذه الأقاليم – وهي تتطلع الى استرداد حلمها في وطنية داخل وطنها العربي الكبير، وكان هذا حلماً استمر السعي نحوه من خلال النضال الوحدوي القومي ، أو من خلال محاولات وتجارب وحدوية سياسية ، تجلت في تنفيذ ذلك باتحاد حقيقي كما حدث في إقامة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية ، وتعزز هذا النضال الوحدوي بتحوله الى مطلب جماهيري ، ثم بمباحثات الاتحاد الثلاثي بين سورية والعراق ومصر الذي سرعان ما فشل بسبب التمسك بالسلطة منفردة بالإقليم ضاربة عرض الحائط بالمصلحة العليا للأمة المتمثلة في وحدتها ، ومشكلة حركة مضادة للزعامة القومية المتمثلة بجمال عبد الناصر ، أيضا تمثل النضال الوحدوي من خلال اتجاهات ثورة القذافي في ليبيا ، وثورة النميري في السودان ، بتوجهاتهما الوحدوية ، وفي طلب الوحدة ، مع مصر عبد الناصر ، وكلها كانت محاولات – خاصة في بدايتها – ، تعمل لاسترداد الذات الوطنية ( الأم ) اي ( الوطنية القومية العربية ) ، ولتحتمي فيها أيضا ، وبمرور الوقت ، ومع فشل هذه المحاولات او تأجيلها لأسباب وضغوط سياسية دولية أو ظروف حرب الاستنزاف مع العدو الصهيوني ، كانت تتشكل سمات خاصة لما يسمى ( بالإقليمية الجديدة ) التي بدأت تكوّن شخصيتها في إطار السلطات الإقليمية ، وعبر نصف قرن حافظت هذه (السلطات – الحكومات ) على تكلس سلطوي قطري ، ثم وبحكم استبدادها نسفت كل القواسم الوطنية باعتمادها اُسلوب فرق تسد ، طائفياً وحزبياً ومذهبياً ومناطقياً ، وجعلت من هذه الأمور سمات لها تحول بواسطتها دون أي لقاء وحدوي حقيقي ، وأصبحت هذه الدول الإقليمية ، وتحت حكم الاستبداد والتبعية ، تشكل سداً وعقبة كأداء ضد أية عودة أو ارتباط حقيقي بالهوية الأصلية ( الوطنية القومية ) ( الوطنية التي تنتمي إلى الوطن العربي ، وطنية الانتماء إلى الأمة العربية ) ، والأنكى من ذلك انها فعلت ذلك بقناع قومي عربي وحدوي ، فتخفت خلف شعارات ومبادئ قومية عربية فشوهتها ، وأصبح بالنتيجة لدينا ( وطنيات قطرية او إقليمية : سورية ، عراقية ، ليبية ، سعودية ، لبنانية ، جزائرية  .. الخ .. متكلسة بمواصفات من صنعها تناهض واقعيا اي انتماء حقيقي استراتيجي للأمة العربية …. وأصبحت فعلياً متخندقة في مواجهة حادة مع الوطنية العروبية القومية) التي كانت – تلك الأخيرة – بمثابة (العام) الذي يحتوي (الخاص) ولا يلغيه بكل تنوعاته الإثنية المختلفة، اعتماداً على مسلّمة ان فكرة العروبة لا تفسر بنقاء عرق انما بالحياة المشتركة على ارض هي ارض الوطن العربي.

بناء على ما تقدم فإن ( مفهوم الوطنية السورية ) او غيرها من ( وطنيات ) الدول العربية عموما ، تحتاج لاسترداد نبتها الأساسي ومفاهيمها الأساسية ، لاسترداد نموها السليم الكامل ، ولتستكمل بنية انتمائها الى الأصل العام كأمة في ( وطن ) من المحيط الى الخليج ، شتته ظروف ذاتية ودولية وموضوعية ، وأدت الى قلب المفاهيم ليصبح الخاص عام والجزء كل ، فضاعت المعايير وتشابكت وتعقدت وانعكست .

قد يبدو أننا نغرد خارج السرب، وهذا بسبب انقلاب المفاهيم في زمن التراجع من خندق الى خندق أضيق ثم الى خندق أكثر ضيقاً وهكذا.. الى ان ظهرت دعوات لإقامة (حدود سياسية) للطائفية، والمذهبية، والعرقية، والقبلية، والعشائرية.. الخ . لتبدو وكأنها شرعية وأنها حقوق انسان، وأصبح لها من يدافع عن هذه الحدود السياسية الموهومة، وغذتها دول لغاية في نفسها، بينما أضحى من يقف مع الدعوة إلى تحقيق (الوطنية الأم) (أي الوطنية القومية) متهما بالانغماس في سلب حقوق ما سمي (بالأقليات)، بينما في الواقع فإن السكوت عن ذلك هو الذي يؤكد الانغماس في سياسة تجزيء المجزأ.

وحتى لا يعترض معترض علينا فيقول إننا نتجاهل مشكلة الأقليات أو الاثنيات العرقية نقول ان نظريتنا لا تقوم على الانتماء العرقي، ولا على الانتماء المذهبي، أو الانتماء الطائفي، ولا نرضاه، لا لنا ولا لغيرنا ونرفض الاحتكام إليه.. ولكن مفهومنا  يقوم على فكرة التعايش التاريخي المشترك الذي تشكلت الأمة بموجبه ، وإن أي مظلومية عربية او كردية او سنية أو شيعية او علوية او درزية او قبلية او عشائرية هي مظلومية نتيجة الاستبداد السلطوي ، او نتيجة تخلف قومي عام لذات السبب الاستبدادي ، لم يستطع المجتمع العربي  بحكم ظروفه السياسية والذاتية ، أن يرفع الظلم عن ( المظلوميات ) أيا كانت ، لذا فإن تحقيق العدل الاجتماعي وفكرة المواطنة المتساوية  في الحقوق والواجبات يحتاج جهودنا المشتركة كلنا كل في مكانه ، كما يحتاج أساساً تسيد الوطنية القومية الكبرى ، التي عبرها تحل كل المشكلات  للإنسان الذي يعيش على الأرض العربية .

لكن الظروف المعقدة التي تمر بها الأقطار العربية من ثورات وحروب وتبعية وتسلط وفساد حكومات، جعل تقديم الفرعي على الأساسي، ضرورة مرحلية على أن يبقى الفرعي (الوطنية السورية مثالا) في موقع (التكتيكي) متجها تدريجيا نحو (الاستراتيجي) (الوطنية القومية).

(الوطنية السورية) كما طرحت في وثيقتها، نفهمها على أنها مقدمة وخطوة على طريق وطنية تنتمي الى الأمة العربية في وطنها العربي من المحيط إلى الخليج.

وعليه فإن (نقص النمو الوطني) يجعل من (الوطنية السورية)، خطوة مفتوحة على ما بعدها، تعمل على استكمال مقوماتها، متفهمة للمظلوميات التي حدثت بسبب حجبها.

إن المفهوم الذي طرحه / د. حازم نهار / في مقالته عن (نقص النمو الوطني، او الوطنية السورية) نراه معبرا عن المرحلتين (المرحلة الوطنية المطروحة انتقاليا) و (المرحلة الوطنية القومية) المنشودة مستقبلا مع تفهم أنه ترك الباب مفتوحا دون أن يربط بين المرحلتين ربطا مباشرا. جاء بالنص في مقالته: ((“أن معنى الوطنية هو المعنى الذي يشير إلى العناصر الجامعة أو الموحِّدة لدى أي جماعة بشرية؛ مثل وجود “رأي عام”، “هوية مشتركة”، “دولة سياسية عمومية”، أو أي خطوط عامة متفقٍ عليها لدى الجماعة البشرية المعنية تتعلق بدور بلدها في التاريخ والجغرافيا، وآماله وتطلعاته إلى المستقبل… إلخ “)).

إن هذا المفهوم الذي أورده د. حازم.. نراه في أفقٍ أوسع، حيث ينطبق على مواصفات الأمة العربية في مرحلة سابقة (للوطنية السورية) كما نراه يصلح أيضاً في المرحلة اللاحقة لما بعدها أي (الوطنية القومية) فبعد انجاز المرحلة الأولى، فليتنافس المتنافسون في النضال نحو أهدافهم مستندين إلى مفاتيح تركت بأيدي الطامحين ليشرعوا بالنضال نحو تحقيق حلم المواطنة القومية العربية.

إن الظرف السوري الحالي والذي يمر بحالة من اقتتال وتدمير شامل وتمزق اجتماعي.. هو الذي أعطى شرعية لمرحلة وطنية انتقالية ملحة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بدلا عن فقدان كل شيء.

ولعل الدول العربية التي في حالة استقرار، أولى بأن تخلق وعياً وطنياً يؤهلها لتكون (دول) تتحول بشعوبها إلى (المواطنة) في الوطن العربي الكبير بدءا بذاتها.

من زاوية ثانية وتأكيداً لرؤيتنا في ( الوطنية ) نجد ان ( الوزن الوطني السوري مثلا ) المشار إليه في المقال لا يأخذ قيمته الحقيقية إلا إذا كان جزءا من ( الوزن الوطني العربي القومي ) مستقبلا ، هذا الوزن الوطني القومي الذي تجلى في عصر جمال عبد الناصر رغم أنه لم يستوف الشرط السياسي الذي يجمع الأمة في دولة واحدة ، لكن ذلك ( الوزن ) وبرغم أزماته السياسية استطاع أن يجعل كل عربي يعتز بعروبته وينتمي كمواطن لوطن كبير يحلم به يوميا، بل إن ذلك الوزن الوطني القومي جعل الغرب والعالم يعاملنا كأمة واحدة رغم عدم وجود دولة قومية واحدة تجمعنا ، وأننا ما زلنا حينها مشروع قومي يريد أن يتجسد بدولة واحدة .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. كتب الاستاذ محمد السخاوي تعليقاً أُرسل لي على الخاص جاء فيه :
    الأخ العزيز احمد اراجه.. الاخوة الاعزاء جميعا ..السؤال المهم هو لماذا وكيف وصلت الحالة فى الدول العربية جميعهىا وان بدرجات متابينة لهذه الاوضاع المتدنية باعلاء الانتماءات الطائفية والعرقية والجهوية على الولاء القومى؟

    بل اننا لم نعد نسمع حديثا عن الولاء القومى الا من اشخاص معدودين . فى رايى ان الاجابة تتحدد فى اننا انغمسنا تماما فى السير على الطرق القطرية التى مهددتها لنا استراتيجيا سايكس / بيكو/ بلفور ، وكانت النتيجة ان تحولت هذه الدول الاقليمية الى قوميات ووطنيات مزيفة بديلة للامة والقومية العربية وللوطن العربى ، المشكل الرئيسى ان الوثيقة قفزت على المرض الرئيسى الذى افرزته سايكس/ بيكو/ بلفور ، وهو المرض الذى يولدفى جماهير الامة القابلية الذاتية غير الموضوعية للانحدار الشعوبى والطائفى والعرقى والجهوى ، التى كانت السبب الرئيسى لفشل كل المحاولات الوحدوية السابقة .
    الحل هو ان يوقف المناضلون القوميون السير على هذا الطريق الاستعمارى الصهيونى والبدء فورا فى التفكير فى استراتيجية نضال قومى قومى يضع الولاء للامة العربية فوق كل الولاءات الاخرى ، بل من المطلوب ان يكون هو الولاء السياسى الوحيد ، انها معركة الوجود القومى ذاته ، لقد تخطينا معارك مادون ذلك منذ زمن طويل ، فى رايى ان هذا مايحتاج الى تفكير جديد من منطلقات قومية مغايرة تماما لتفكيرنا الكلاسيكى ، هذا التفكير الذى يمكن ان نسميه اجمالا تفكير قومى من منطلقات اقليمية وهو طريق استراتيجى مسدود..

    1. استاذنا الأخ الغالي محمد السخاوي
      ان غياب الفعل القومي المنظم جعلنا نبدأ بدءاً من أقطارنا بإطفاء الحريق الذي يحفظ حرية الوجود والتي هي أساس حرية التطور.

زر الذهاب إلى الأعلى