قراءة في رواية: يقين

أحمد العربي

محمد السلطان روائي سوري متميز، ينتمي للثورة السورية، قرأت له سابقا رواية ذاكرة الرماد وكتبت عنها…

يقين رواية محمد السلطان الأحدث الصادرة عن دار موزاييك في اسطنبول هذا العام…

 تعتمد رواية يقين في سردها لغة المتكلم، على لسان الشخصيتين الأساسيتين فيها. اريج ورائد بالتتالي حسب تطور الحدث الروائي ، كما تبدأ الرواية بطريقة الخطف خلفا التي تعتمد على ذكر الأحداث النهائية في الرواية وتعود بعد ذلك تسرد الاحداث من بدايتها اولا بأول…

تبدأ الرواية من بون المدينة الالمانية حيث يعيش رائد وزوجته اريج مع ابنتهم يقين وابن اخت اريج كنان وهم في غربتهم هذه في عام ٢٠٤٠م. مستقرين في المانيا منذ اكثر من عقدين. خرجوا من سوريا جراء تبعيات أحداث الثورة السورية التي حصلت عام ٢٠١١م وتداعياتها حيث اعتمد النظام المستبد السوري العنف الوحشي بحق الشعب السوري مما دفعهم للهروب بأرواحهم إلى خارج سوريا…

نموذحهم  رائد وزوجته اريج  وابنتهم يقين وابن اخت اريج كنان الذين كانوا أطفالا…

يتحدث رائد واريج بأن يقين وكنان اصبحوا شبابا وهم في الجامعة الآن فهم يحبون بعضهم ويفضل أن نزوجهم وهم اصلا يعيشون معنا ويستمرون بالعيش معنا، هذا افضل صونا لنفسهم ومن نزوات الجسد في سن الشباب، يبنون أسرة و يسعدونا باولادهم…

تتحدث اريج بداية عن حياتها وأنها ابنة مدينة حلب وأنها عايشت بداية الثورة هناك، ثم كيف تطور الصراع بين النظام الذي اعتمد العنف المسلح ضد الشعب والثوار، وكيف بدأ الثوار بالسيطرة على أحياء من حلب وفي كثير من المناطق السورية، وكيف استعان النظام السوري بالايرانيين والميليشيات الطائفية والروس ليحمي نفسه من السقوط. وكيف بدأ الطيران الروسي بدك مدينة حلب بالطيران وادى ذلك الى مقتل الكثيرين وهروب الكثيرين منهم اريج وأخوها ووالدتها. والدها كان قد توفي بطفولتها. هربوا باتجاه تركيا. حيث وصلوا إلى غازي عنتاب. وهناك استقروا. حيث التقت اريج برائد في أكثر من صدفة، وتعلق قلبه بها وحاول أن يتحدث معها. لكنها صدته بعنف، فهي فتاة من بيئة دينية ملتزمة، وترى دخول البيوت من أبوابها وانه ان احب ان يخطبها فعليه الذهاب الى اهلها. وهكذا حصل. خطب رائد اريج لكنها رفضته بداية ثم قبلت على شرط مساعدة اسرة كانت قد هربت معهم من سوريا الى تركيا بإيجاد فرصة عمل وبيت لفتاة يتيمة الأب وتعيل امها المريضة واخواتها الصغار…

رائد ابن جسر الشغور والذي غادر الى تركيا بعد الثورة ليتابع دراسته، كان يدرس الماجستير في العلوم الاجتماعية في احدى الجامعات هناك. واريج كانت قد نجحت بتفوق في البكالوريا. هو يتابع دراسته في غازي عنتاب وهي سجلت في كلية الصيدلة في اسطنبول. حصلت الخطبة وعاشوا حب توّج علاقتهم بأفضل حال. كانوا يتواصلون عبر الجوالات بشكل شبه لحظي. ويلتقون عندما تسنح لهم الفرصة. ويزداد تعلقهم ببعضهم جدا…

كانت أجواء اريج ورائد أجواء دينية ملتزمة جدا. وهم متعلقون بالعبادات والدروس الديني وحفظ القرآن. يبقون على تواصل مع اسلامهم نفسيا وواقعيا ومعنويا كل الوقت. يتصرفون على أن التواصل بينهم وبين الله قائم دوما، رائد حفظ القرآن كاملا على يد شيخه، واريج بدأت أيضا وحفظت الكثير وتتعهد بحفظه كاملا…

بعد سنتين من الخطبة وبعد حصول رائد على الماجستير بامتياز وتعيينه مدرسا مساعدا في جامعته التي تخرج منها في عينتاب فقد قرروا اريج ورائد أن يتزوجوا. بالفعل حصل الزواج. وانتقل رائد للتدريس في إسطنبول وحيث تتابع اريج دراستها في الصيدلة. كما كان قد تزوج اخو اريج قبلها بقليل. وأنجب ابنه الاول عاصم وكان مصاب بمتلازمة داون. الذي كان محتضنا من العائلة كلها خاصة عمته اريج. وبعد سنوات انجبت زوجته ابنا آخر هو كنان. ثم انجبت اريج ابنتها يقين…

كانت رائد واريج وعائلاتهم على موعد مع متغيرات حياتية قاسية. أولها مجيء وباء كورونا الذي ادى لوفاة الكثير من كبار العائلتين ومن بجوارهما من معارف. وكذلك الزلزال عام ٢٠٢٠م الذي أصاب أجزاء من سوريا وتركيا. ومن سوء حظ اريج ورائد وابنتهم يقين انهم كانوا بزيارة عينتاب في ذات اليوم عند اهلها. حيث حصل الزلزال بكل رعبه وكارثيته. حيث مات اغلب اهلها واغلب من تعرف. ولم يبق لها إلا زوجها وابنتها وهي تم انقاذها من تحت أنقاض البناء المهدم وكذلك ابني اخيها كنان ومعتصم. و وفاة الكل من أهلها أخيها وزوجته وصديقتها واخوتها و غيرهم…

كان ذلك كارثة على اريج ورائد ، لقد تحولت حياتهم إلى شبه جحيم. هذا غير التعاملات السيئة من بعض الأتراك مع السوريين، كما حصل مع اريج في جامعتها. وأصبح هاجس مغادرة تركيا إلى ألمانيا يسكن اريج ومعها رائد. عملوا لذلك واتفقوا مع مهرب ودفعوا المال المطلوب. التهريب عن طريق البر انطلاقا من مدينة ادرنة على الحدود اليونانية التركية. كانت رحلة قاسية جدا، رائد واريج ويقين وكنان ومعتصم. لم يستطع معتصم تحمل السفر فتوفي في رحلة اللجوء إلى ألمانيا. عبروا غابات وعانوا من البرد والجوع والخوف من البوليس لدول عدة عبروها. اليونان والبانيا وكوسوفو وصربيا وسلوفاكيا والمجر .. الخ حتى وصلوا إلى ألمانيا… كانت رحلة الى الجحيم وممتلئة بالمخاطرة واحتمال الموت أو القبض عليهم من بوليس هذه البلدان وإعادتهم من حيث أتوا … لكنهم وصلوا إلى ألمانيا أخيرا وبنوا حياتهم هناك…

الرواية لا تملئ الفترة بين وصول رائد واريج وكنان ويقين إلى ألمانيا في عام ٢٠٢٢م تقريبا. وبين حفل الزواج الذي أقامته العائلة ليقين وكنان عام ٢٠٤٠م وبداية حياة جديدة لهم إنجابهم لطفل صغير. ودخول اريج في مرض الزهايمر وفقدان الذاكرة القريبة. وكيفية ادارة رائد للحياة مع زوجته واهتمامه بها ورعايتها وخاصة ان مرضها زاد وأنها تمتنع عن تناول علاجها احيانا…

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

الرواية طويلة ٤١٥صفحة. الاسهاب فيها حاضر بقوة. لكنه غير ممل لأنه يملأ فراغا معرفيا، حول الزمن الذي مرت به سوريا منذ الثورة وبعدها والتجاء السوريين الى تركيا وحياتهم هناك. صحيح انها تحدثت عن حالات بعينها لكنها كانت نماذج واقعية. كيف اصبح السوريين جزء من النسيج المجتمعي التركي على كل المستويات. وتنوعت ردود فعل الاتراك اتجاههم من محتضن الى معادي. وذلك لدوافع مختلفة ذاتية وسياسية ومجتمعية…

كما تنضح الرواية بنمط متدين يتجسد بأريج ورائد وشبكة علاقاتهم مع مشايخهم. وهذا الولع الشديد بالعلاقة الروحانية مع الشيخ او الشيخة وحفظ القرآن والتزام بالعبادات، والالتزام بكل السلوكيات التي تجعل الإنسان لله اقرب. صلاة وصوم ومعاملة صالحة. قد تكون هذه الرواية الاولى التي اقرؤها، تحاول التغلغل بعمق في ضمير وعقل ووجدان وفكر هؤلاء المتدينين الذين ينغمسون في تعبدهم وسلوكهم وحفظهم للقرآن بصدق ذاتي وتوق وحب واندفاع واستمرار. لم استطع ان احدد هل هم متصوفة يهمهم من الدنيا ما يجعلها ممرا للآخرة ؟، لا ليس كذلك فهم بمقدار ارتباطهم بالإسلام وكل متطلباته وحفظهم للقرآن، هم منغمسون بالحياة بكل اندفاع وعمل وانتاجية. نموذجهم حديث رسول الله ص : “اعمل لدنياك كانك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”. والاهم انهم غير متشنّجين تجاه الآخرين، دون عداوة أو وصم او تكفير… الخ…

الحب… رواية ان احببت ان تعطيها اسما آخر، لكنت اسميتها “حب” … الحب بصفته فطرة إلهية يضعها في نفس الرجل والمرأة ليصنعوا حياة جديدة يخلقون من خلالها اسرة جديدة وينجبون الأطفال ويستمرون بانتاج الحياة بأفضل صورها. نعم هي رواية تمجد الحب وتعطيه صفة القدسية. مع كل ما ينتج عنه. صناعة الأسرة وتقديسها وحمايتها. انجاب الاولاد وحبهم رعايتهم وصونهم كجزء من اكتمال احترام الإنسان لذاته ودوره بالحياة.

حب لله والشريك والذرية والعمل الصالح والدور الخير في الحياة. صون الحبيب واحتضان الصغير والعطف على الكبير…

الحب هنا هو رسالة الحياة وأن تقوم بدورك وترضي ربك وضميرك في كل شيء…

الرواية تأريخ لما حصل في سوريا بعد الثورة، ثم الانتقال إلى تركيا وما حصل فيها وخاصة كارثة الزلزال. وبعد ذلك مأساة السوريين الذين تشردوا في الأرض. ظُلموا من النظام وهربوا فأصبحوا مُستباحين مهانين في كل دول العالم، هذا لمن لم يمت في المعتقلات والسجون وتحت القصف وفي رحلة اللجوء، على حدود دولة ما أو في البحر غرقا… ومن يصل يبدأ حياة جديدة يصنع فيها انتصاره لانسانيته وحقه بالحياة والعيش الكريم وأن تصان كرامته وحياته وحقه بالحرية والعدالة والحياة الأفضل… أينما كان وفي كل زمان.

10

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “يقين” للروائي السوري “محمد السلطان” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تأريخ لما حصل في سوريا بعد الثورة، والانتقال إلى الغربة بتركيا وكارثة الزلزال. ومأساة السوريين الذين تشردوا في كافة أنحار المعمورة. ظُلموا من النظام وهربوا فأصبحوا مُستباحين مهانين في كل دول اللجوء بالعالم .

زر الذهاب إلى الأعلى