مـــفــهـــوم “الـــوحـــدة” فــي ظــــل الـــربــيـــع الـــعــــربــــــي 

محمد خليفة

تكللت تجربة أول وحدة اندماجية بين بلدين عربيين ( مصر وسوريا ) قامت في 22 شباط – فبراير 1958 بمكانة سامية في فكر ووعي قطاعات وتيارات شعبية وسياسية عربية واسعة , لا تقتصر على التيارات الناصرية أو القومية والتقدمية , بل تمتد لكافة التيارات الحداثوية والنهضوية , وبينها تيارات اتخذت موقفا معاديا للتجربة وقت قيامها ( الشيوعيون مثلا ), وبينها تيارات اسلامية تصنف عادة ضمن القوى المحافظة الرافضة للفكرة القومية اديولوجيا, كما لا تقتصر على مصر وسوريا, وانما تمتد من البلدان القريبة كلبنان وفلسطين والاردن إلى موريتانيا والمغرب , مرورا باليمن والخليج والسودان وليبيا. ولا أدل على ذلك من تجذر هذه التجربة العابرة في تاريخ العرب المعاصر بكونها نموذجا رائدا للانجازات القومية الاستراتيجية , وتعرضت دائما للدرس والنقد من جميع التيارات العربية باعتبارها التجسيد الحي للحلم القومي, من ناحية, وباعتبارها الاختبار المعملي للفكرة القومية العربية نفسها من ناحية ثانية .

بناء على هذه الاهمية الاستثنائية للتجربة التي أجهضت بسرعة في 28 ايلول سبتمبر 1961 بعد ثلاثة أعوام ونصف فقط من قيامها برغم رأسمالها الشعبي الهائل , والرفض الشديد للانقلاب العسكري عليها لحساب قوى امبريالية عظمى, فإن غالبية التيارات العربية باستثناءات محدودة ظلت تقليديا تحتفي بذكرى قيامها سنويا , وتعود للتوقف أمامها في ذكرى اجهاضها , وفي الغالب ظلت المناسبتان تتناولان التجربة بالتقييم واستعمالها رافعة للتذكير بحتمية اعادة بناء الوحدة العربية على أسس عصرية مناسبة . إلا أن المتابع يستطيع ملاحظة اختفاء هذا الاهتمام بذكرى التجربة في هذا العام أو الأعوام الأخيرة , وربما يظن البعض أن سبب ذلك اشتغالنا بهم الثورات العربية الحالية , وهو أمر غير صحيح , بل يمكن إدراجه في سياق الانهيار أو التقهقر العربي , والانحطاط الفكري والسياسي العام .

ويمكن القول إن الانجاز الذي دمر قبل 54 سنة يتعرض منذ تاريخه لعمليات اجتثاث لجذور الفكرة بأساليب متعددة , ولتشويه وتسفيه منظمين , وتشارك فيهما احيانا أطراف محسوبة على قواها , بينما تظهر المعطيات والتطورات اليومية في العالم العربي الحاجة الماسة والعميقة والمتجددة للتضامن العربي واعادة الاعتبار لمفهوم (الوحدة) كمشروع حضاري للمستقبل , يحقق دفاعهم المشترك لصد الاخطار التي تهدد وجودهم من الامبرياليات القديمة , وامبرياليات اقليمية ناشئة تصوب عيونها على بلادنا وثرواتنا, ويحقق لهم تنمية شاملة وعلمية لأنها ضرورة حياة أو موت يفرضها تحول العالم لتكتلات اقتصادية وسياسية ضخمة لا تسمح ببقاء سيادة أو استقلال دول صغيرة أو حتى متوسطة مهما كانت غنية ومتقدمة .

ولو أن النخب السياسية والفكرية في العالم العربي بما فيها الحاكمة والمعارضة احتكمت بكل تجرد لقرار الجماعات الاقتصادية ومؤسسات الامن والدفاع وعلماء المستقبليات لأفتى هؤلاء بضرورة الوحدة العربية , ولو تدريجيا , وعلى مستويات قطاعية , فالوحدة بين العرب ليست يوتوبيا خيالية ولا اسطورة بالية , ولا نوستالجيا لعصور القوة الغابرة, ولكنها ببساطة مسألة حياة أو موت لمواجهة الخطر الصهيوني التوسعي , ومواجهة النهب الامبريالي المستمر , وحماية أمننا ومصالحنا من أطماع القوى الاقليمية المحيطة بنا والمتنافسة لاحتوائنا في نطاق مشاريعها وخاصة الفرس .

ولأن فكرة الوحدة بهذه الأهمية لا بد من إعادة الاعتبار لها على كل المستويات انطلاقا من متطلبات الواقع العربي المتحول بسرعة قصوى , ودمجها في خطاب الربيع العربي ودينامياته وآلياته كغاية عليا تترجم تطلعات شعوبنا العميقة واشواقها المشروعة للحرية والكرامة والازدهار والأمن الراسخ .

ولكي تنجح المحاولة أرى أن نبدأ بتجريد مفهوم الوحدة من أي مذهبة اديولوجية , ومن أي طابع قومي أو عرقي , والاكتفاء بمبدأ ضرورتها المادية والمستقبلية للعرب , وتحريرها بشكل خاص من ذكريات وموروث تجربة 1958 ومن ارتباطها بشخص جمال عبد الناصر, فكل هذه المسائل والامور يمكن معاملتها كقشور قابلة للازالة , في مقابل تمسكنا بجوهريتها واسبقيتها على كل ما يعوقها , وترك تلك التجربة الرائدة للتاريخ يحكم لها أو عليها , وينصف عبد الناصر أو يدينه , بينما لا يمكن تأجيل وتأخير العمل فكريا وسياسيا واقتصاديا وتربويا لاعادة احياء قيمة مقولة الوحدة على اسس علمية تحاكي وتستوحي التجارب الديمقراطية والحداثوية التي نجحت ولا سيما الأوروبية , وكذا التكتلات الاقتصادية في شرق آسيا وفي بعض أجزاء من أمريكا الجنوبية .

للأسف لقد جنت بعض التيارات العربية السياسية – عن حسن نية – على فكرة الوحدة بربطها ربطا محكما ميكانيكيا واديولوجيا بعبد الناصر , وببعض الحركات والأحزاب والتيارات القومية التي ارتبطت اسماؤها بأنظمة الاستبداد والهزائم , بينما هي نزوع أمة بكل مكوناتها وطوائفها وتياراتها للنهوض والتضامن والتعاون على قاعدة المنفعة والمصلحة المادية والأمنية والاستراتيجية العليا أولا .

ولا بد أن نعي في ضوء الاحداث الجارية منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن , مع تركيز خاص على التطورات الراهنة أنه لا مستقبل لأي جهود قطرية محدودة لتحقيق الامن والتنمية والازدهار , لا مصر ذات المائة مليون , ولا السعودية ذات الثروة الكبيرة بمعايير المنطقة فقط , وثبت أن الجميع مستهدفون , من الدول العظمى ومن الجيران الاقربين , وبينهما اسرائيل . وهناك ما يكفي من الأدلة على أن ضعف النزوع الى الوحدة بعد حقبة عبد الناصر هو ما اضعف عوامل المناعة الوطنية والقومية وفتح الابواب لأطماع الطامعين والطامحين “المنافسين” حتى لا نقول المعادين . وهناك أدلة مقنعة على أن تخلي غالبية العرب عن الهوية العربية سمح بظهور الهويات البديلة ما دون الوطنية , ومزق النسيج الاجتماعي , وأحيا الطائفيات والمذهبيات والقبليات .. وكافة العصبيات الجاهلية . وبالمقارنة الموضوعية يمكننا اكتشاف أن العرب كانوا قبل مائة سنة اكثر وعيا وعصرية مما هم عليه الآن لأنهم اختاروا هوية توحد الجميع مسلمين ومسيحيين وتسمو على العصبيات والنزعات الدينية والعرقية , أي العروبة , وبلغوا أوج نهضتهم الحديثة في ظلها في الستينيات , ثم بدأت الردة والنكوص مع الارتداد عن الهوية الجامعة وضمور الطموح للنهضة والاستقلال الحضاري ,فاستيقظت الجماعات الاسلامية المتخلفة ,ونشأت التيارات المادون وطنية , وتذررت الوحدة الوطنية, وتحول العالم العربي لوحة من الفسيفساء التركيبي غير المتجانس يحكمه صراع فئوي بلا ناظم ولا ضابط .

هذا التحول هو الذي مأسس الديكتاتوريات المبنية على العصبيات , وشجع الفساد واحتكار الثروات من فئة محددة , والغى المشاريع الطموحة للتنمية والتحديث والدفاع , ودفع الشعوب وخاصة الشباب المتعلم منها الى الثورة في ما اتفق على تسميته الربيع العربي ردا على انحطاط الدول والنظم والنخب معا .

 بيد أنه لا بد أن نعترف بأن هذه الثورات افتقرت للتوجيه الفكري الرشيد والرؤية البعيدة المدى , مما سهل انحرافها والتلاعب بها وبروز تيارات وظواهر رجعية سيطرت على دفة توجيهها , ولذا علينا أن نبدأ أولا بتصويب توجهات التيارات المنخرطة في ثورات الربيع العربي , وأن نضع مفهوم الوحدة العصرية بين العرب على اسس ديمقراطية رشيدة تعالج اشكالية الاقليات القومية في ذروة أولوياتها .

ونحن على قناعة تامة بأن هذه المسألة الحاسمة تصلح أن تكون أداة الحكم على مستقبل الربيع العربي واتجاهات المنطقة التي تتعرض لعواصف مدمرة لا تكفي عمليات الترقيع المحدودة لحمايتها، بل تتطلب برنامجا استراتيجيا شاملا، فإما أن نختار المستقبل العربي الموحد، وإما أن نستمر في التقهقر والانحطاط ويبتلعنا الجيران !

———————————————————————————-

 

هذا المقال منشور في العدد 264 من (مجلة الشراع) اللبنانية الصادر ببيروت بتاريخ 27 / 2 / 2015 .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة وتقييم موضعي لتجربة وحدة 1958 بين سورية ومصر واستنتاجه المستقبلي بأن تجرد الوحدة من أي مفهوم مذهبي اديولوجي , والاكتفاء بمبدأ ضرورتها المادية والمستقبلية للعرب, وتحريرها بشكل خاص من ذكريات وموروث تجربة 1958 ومن ارتباطها بشخص جمال عبد الناصر ، الله يرحمه ويغفر له اخونا الكاتب المناضل العروبي محمد خليفة لرؤيته الإستباقية .

زر الذهاب إلى الأعلى