قراءة في رواية: الموت كما يجب أن يكون

أحمد العربي

مجد حرب روائي سوري واعد، كنت قرأت له روايته السابقة ياسمين رماد ابيض وكتبت عنها…

الموت كما يجب أن يكون رواية مجد حرب الجديدة الصادرة عن دار هدوء في السويداء.

يعتمد مجد حرب في كتابته على لغة المتكلم في سرده الروائي، وذلك دون أن يسمي الشخصية المحورية في روايته، لذلك سندعوه في قراءتنا هذه صاحبنا…

زمن السرد الروائي حديث جدا. ومكانه في سوريا بين مدينة حلب واحدى بلدات مدينة السويداء…

صاحبنا دارس للفلسفة وحاصل على الشهادات العليا فيها. يظهر -من خلال النص- تعمقه بالفلسفات المعاصرة عموما، ونراه يتمثلها في كثير من مواقفه الحياتية، غير ذلك هو متفرغ لقراءة كتب تختارها مؤسسة خليجية متعاقد معها، يقرأ ويكتب لهم ملخصات، ويأخذ ريعا يعيش من خلاله…

صاحبنا غير مرتاح نفسيا في حياته، أنه يرى كل ما يحيط به من اصغر القضايا الى اكبرها يدعو ويعبر عن التفاهة. لذلك أصبح من المروجين لهذه النظرية ولو على مستواه الشخصي، و مع المحيطين به على قلّتهم…

صاحبنا متزوج ، زواجه جاء عن حب، ليس لديه اولاد، لقد اكتشف بالتحليل الطبي أنه عقيم، ومع ذلك لم تتخلى عنه زوجته، او تقصر في تعاملها معه بود ومحبة. أما هو فقد شكل ذلك أحد أسباب ارتكاسه النفسي ودخوله في الرفض الذاتي لوجوده وحياته، وأصبح يروج للتفاهة…

صاحبنا ينتمي الى عائلة، والده درزي ووالدته حلبية ليست درزية، حيث تزوجها والده عندما كان يدرس أو يعمل هناك. شكل هذا الزواج صدمة اجتماعية عند اهله في السويداء، حيث أصدر رجالات الدين قرار حرمان له وإبعاد من السويداء، وذلك لاعتقاد سائد عند الدروز بعدم زواج الدروز ذكورا واناث من أحد خارجهم. وقد يكون عقابهم شديدا يصل لقتل المرأة التي تتزوج من خارجهم. لذلك استقر والد صاحبنا في حلب، وولد هو هناك وعاش ودرس في حلب…

لم يستطع والد صاحبنا أن يستمر في تحمل بعده عن بلده وأهله في السويداء، وعندما كبر جرفه الحنين وانتقل مجددا مع زوجته إلى السويداء للعيش بها…

استمر عيش صاحبنا في حلب مع زوجته، وكان يزور أهله في السويداء في أوقات مختلفة، لم يستطع استيعاب انه لا ينجب، لقد عاش احساس اللامعنى واللاجدوى من الحياة، لكن بقي له فيها ما يجعله يقبلها ولو على مضض. بقي له صديقه “وطن” والطفلة المشردة “جمان”. وطن صديق مخلص وفيّ اصيل، يحب صاحبنا ويقوم بكل الواجب تجاهه. دون انتظار لأي مردود، انسان يمتلك ضميرا حيا ، ممتلئ بالإنسانية والخير…

أما جمان الطفلة المشردة التي كان يراها صاحبنا تبيع بعض الحاجات في المدينة، يتفاعل معها ويتودد لها، هو وجد بها طفلته التي لم ينجبها. وهي وجددت به أبا فقدته.؟!!. لم تقترب الرواية ابدا في بحث كيف ومتى ولماذا تشردت جمان ؟!!…(إشارة لأحداث الثورة السورية وتبعات العنف المصاحب وما فعله النظام وحلفاؤه بالشعب السوري)، طبعا لم تشر الرواية لذلك بالمطلق …

كانت جمان فسحة أمل ومنبع نور في حياة صاحبنا. أخذها في آخر مرة التقاها إلى مركز بيع ملابس واشترى لها فستان ابيض جميل. دفع ثمنه كل ما يقتنيه، كان راضي النفس والروح. وهي كانت مترعة حبا وامتنان، واتفقا ان تقول له بابا عند التخاطب، كانت روحه تتوق لذلك، قبل ذلك بكل ود ومحبة…

صاحبنا يعيش حياة انفصام نفسي مع زوجته، هي تعطيه من الحب الكثير، وهو لا يستطيع أن يقدم لها ما تحتاج أمومتها له، الأولاد، وبدل أن يلوم نفسه فقد أصبح يعاملها وكأنها المسؤولة عن ما يعيشان سوية، كان يفضل ان تكون صديقته وليست حبيبته وزوجته، وذلك لكي يفرغ حمولة معاناته بالحوار والتواصل الحميم معها، والذي اصبح شبه منقطع بينهم ولم يبقى منه الا القيام بالواجب العائلي خدمة وطعام وجنس وظيفي… الخ…

حصل في حياة صاحبنا متغيران وضعاه على طريق الإحساس بعدم الجدوى في الحياة بشكل مطلق، وجعلاه يفكر بشكل جدي بالانتحار والموت ليخرج من لعبة التفاهة في حياة لا معنى لها بالنسبة له. أولها حصول الزلزال الذي حصل قبل سنة و أصاب الشمال السوري ومنه مدينة حلب وجوارها، وكان للزلزال منعكسات على حياة الكثيرين، وبالنسبة لصاحبنا اوجعه في الصميم، لقد قُتلت الصغيرة جمان تحت جدار منزلها. وصل اليها بعد الزلزال مباشرة، كانت مازالت تحت الركام. تبتسم له وتعبر عن محبتها له… لكنها ماتت.

أما الثاني فقد كان خبر مرض والده الشديد ودعوته لزيارته، لكنه وصل إليه وقد توفي قبل وصوله…

لقد كان لوفاة والد صاحبنا والطفلة جمان التي مثلت له ابنة لم ينجبها، الضربة النفسية التي لم يستطع أن يخرج من تبعاتها. لم يستطع أن يفرغ شحنته النفسية ومعاناته، دخل في حالة هذيان نفسي وفكري. وصار الموت هاجسه كل الوقت. لم تستطع زوجته ولا صديقه وطن ان يخرجاه من الحالة النفسية المتردية التي عاشها. لقد حاول قطع معصمه والموت نزفا، لكن تم إسعافه وإنقاذه… ومما زاد من سوء معاناته انه اكتشف ان زوجته تخونه مع أحد ما . ؟!!…

حاول صديقه وطن ان يلزمه بالذهاب الى طبيبة نفسية، حاولت معه كثيرا، كان متعنتا، وضع حائطا نفسيا بينه وبينها لكي لا تخرق حواجز اللامبالاة واحساس التفاهة، وان يتقبل صدمات الوجود الإنساني ليستطيع مواصلة حياته بعد أن يفرّغ شحنة عذابه ومعاناته، لكنها فشلت في أغلب الأحيان. كان همها وهم صديقه ان يبكي صاحبنا مصابه بكل احبابه، ليكون ذلك بداية شفائه وإعادة مصالحته مع الحياة والبداية من جديد.

كان يدرك ما يريدون ويمنع أن يحصل مرادهم. لكنه ينهار امام الحاح الطبيبة النفسية اخيرا. وأمام تفاني صديقه ومحبته له… ويبكي … لعله يخرج من رحلة الموت المرتجى التي عمل لها كثيرا…

لقد بكى بعنف وصرخ بأعلى صوته ضرب نفسه وجرح وجهه ويديه…

كان ينتقم من الحياة بجسده…

هنا تنتهي الرواية:

في التعقيب عليها اقول:

اعترف انّي دخلت في عوالم الرواية بكل عمق وشغف، وأنّي في بعض الوقت تمنيت لو اقبض على زمام سير الحدث الروائي لارغامه ان يسير بهذا الاتجاه أو ذاك. لقد أصابتني لوثة صاحبنا في الرواية، ولو ان يصل الى خلاصه الذاتي، علاجه من نزعة الانتحار والموت وخسارة الوجود باقرب وقت ودون تبعات نفسية…

أما في الجانب العام الذي تتحرك فيه الرواية فأراها تقفز عن ما لا يمكن القفز عنه. صحيح انها تتحدث بحيادية عن الموقف العقدي الاجتماعي عند أهلنا الموحدين الدروز حول عدم تزاوجهم مع غيرهم. واني اراها جزء من منظومتهم التي يرون مبرراتها وان كل المكونات المجتمعية الاخرى من أديان وطوائف لهم ما يعتقدونه وما يمارسونه ويرون صحته، رغم اختلاف الآخرين معهم حوله…

حال تنوعنا متروكة للزمن ولوعينا كأفراد وجماعة ومجتمع. ومتروك لمدى عيشنا في مجتمع الحرية والعدالة والأخوة الإنسانية…

لقد غاص الكاتب عميقا في الشرخ النفسي الذي يصيب الإنسان عندما يجد أنه محروم من الانجاب واستمرار سلالته في الحياة، أو غياب الصديق الصدوق او الحبيبة المتفهمة… خيانات مفهومة ومتواجدة في الحياة جعلته منهار نفسيا يفكر بالانتحار ويقوم به تكرارا ومن ثم ينقذه صديق وفي وطبيبة نفسية تؤمن برسالتها في الحياة…

أما الجانب العام الغائب في الرواية فهو ما حصل في سوريا في العقد الأخير بعد ثورة السوريين في ربيع عام ٢٠١١م. السوريين الذين تحملوا ظلما دام لعقود. والذين دفعوا ثمنا باهظا لثورتهم من النظام الظالم وحلفائه، موت مئات آلاف الضحايا، وتشرد نصف الشعب السوري بالملايين واحتلال سوريا من قبل جيوش كثيرة…

كل ذلك لم يحضر بل حضر زلزال -ادمانا طبعا- قبل سنة ومات ضحيته الآلاف وتدمر كثير من القرى والبلدات واصبح الكثير بلا مأوى. لكن الزلزال لا يقاس بما حصل مع شعبنا من قتل واعتقال وتهجير وتدمير للبلاد في عقد من زمان الثورة السورية…

وهاهي السويداء وجوارها أهلنا هناك -مسرح الرواية- يعيدون سيرة الثورة الاولى ويطالبون بإسقاط الاستبداد والحقوق الإنسانية المشروعة حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية وحياة افضل. هذه الحقوق التي تعطي للانسان كل انسان معنى لحياته. وتخرجه من شعور الذل والقهر وتدخله في احساس الخلود في الوجود مع غيره من أهل مجتمعه الأحرار…

بالطبع لكل روائي الحق أن يقول ما يريد وبأي شكل يريد. ونحن نقول ما نراه يعبر عن مصداقية النقد وان يخدم العمل الأدبي رسالة الأدب:

انتصار لانسانية الانسان وللقيم الخيّرة و التنوير والوعي وان تتحول مع مثيلاتها إلى منارة تنير الواقع الآن وفي المستقبل لما يجب أن يعاش في الحياة…

هذه رسالة الأدب دائما…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “الموت كما يجب أن يكون” للروائي السوري “مجد حرب” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب “احمد العربي” الرواية سرد لحياة مواطن من السويداء عاش مع اهله بحلب ودرس الفلسفة وتعمق فيها بعد زواجه إنتقل والده للسويداء وإستمر وجوده بحلب وعاش حال من الصرع بسبب عدم الإنجاب والغربة بين حلب والسويداء .. يغوص عميقا في الشرخ النفسي الذي يصيب الإنسان عندما يجد أنه محروم .

زر الذهاب إلى الأعلى