كان أفونسو دي البوكيرك Afonso de Albuquerque، دوق غوا Goa الأول (1457-1515)، أميرالاً وإدارياً وخبيراً استراتيجياً عظيم الموهبة. وفي العقد الأخير من حياته، أرسى الأسس لقرن من الهيمنة البرتغالية على المحيط الهندي وبحر العرب. وكان البوكيرك أول أوروبي يجلب أسطولاً كبيرًا إلى البحر الأحمر وأول من سيطر على مضيق “باب المندب”. وقد فعل أكثر من أي رجل آخر لتحويل دولة أيبيرية صغيرة إلى أول إمبراطورية عالمية في التاريخ. ومن خلال الاستيلاء على ملقا في العام 1511، حول المحيط الهندي إلى بحر برتغالي مغلق.
الآن، بعد ما يزيد قليلاً على نصف ألفية من وفاته، عادت المنطقة المحورية لعمليات البوكيرك إلى واجهة الأخبار. باب المندب -“بوابة الأحزان” أو “بوابة الدموع” باللغة العربية- هو مضيق بطول 70 ميلاً يفصل القرن الأفريقي عن الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية. وهو، كما يوحي اسمه، ممر مائي غادر يتميز بالتيارات الخطرة والشعاب المرجانية والمياه الضحلة. وقد أصبح مهماً جداً بعد افتتاح قناة السويس في العام 1869. ولف الحزن سفنًا لا حصر لها فيه على مر القرون، لكنه يتصدر عناوين الصحف حالياً بسبب مخاطر من صنع الإنسان، والتي تتسم بأنها غير متوقعة، وأنها يمكن أن تؤدي إلى أزمة جديدة في الشرق الأوسط .
في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلن الحوثيون -وهم جماعة شيعية مسلحة تدعمها إيران، والتي انتصرت فعلياً في الحرب الأهلية المستمرة منذ عقد من الزمن في اليمن- أنهم سيهاجمون السفن المرتبطة بإسرائيل أو المتحالفة معها في باب المندب للتعبير عن دعمهم لحماس والمدنيين الفلسطينيين في غزة. ولتحقيق هذه الغاية، استخدموا وسائل أقرب إلى البدائية: طائرات من دون طيار، صواريخ بسيطة، وزوارق سريعة مسلحة تسليحاً خفيفاً. وعلى الرغم من أن الأضرار الناجمة عن حوالي عشرين هجوماً من هذا القبيل كانت طفيفة، إلا أنها أجبرت بعض أكبر شركات الشحن والنفط في العالم على تعليق العبور عبر البحر الأحمر وتوجيه سفنها للإبحار حول رأس الرجاء الصالح. ويضيف هذا الالتفاف أكثر من 3.000 ميل وما يصل إلى 10 أيام إلى الرحلة، مما يزيد من تكاليف الشحن من الشرق الأقصى إلى أوروبا بنسبة 15 في المائة على الأقل.
دفعت هذه الهجمات الولايات المتحدة إلى تنظيم “عملية حارس الازدهار”، وهي تحالف بحري مخصص يضم 10 دول، شملت في البداية كلاً من المملكة المتحدة، وأستراليا، وكندا، وهولندا، وفرنسا، وإيطاليا وإسبانيا. ومع ذلك، رفضت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا في وقت لاحق المشاركة في الضربات الجوية الأميركية والبريطانية ضد الحوثيين في 12 كانون الثاني (يناير)، ورفضت التوقيع على بيان التحالف الذي يبرر الهجمات. وازداد الشعور بالإلحاح في 19 تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما اختطف الحوثيون سفينة شحن ضخمة حاملة للسيارات مسجلة في جزر البهاما، لكنها مملوكة جزئياً لرجل أعمال إسرائيلي. وفي 31 كانون الأول (ديسمبر) 2023، حاولت أربعة زوارق سريعة تابعة للحوثيين الاقتراب من سفينة شحن أخرى والصعود على متنها عندما تدخلت مروحيات تابعة للبحرية الأميركية، مما أدى إلى غرق ثلاثة منها ومقتل 10 من المهاجمين. ونتيجة لذلك، في 5 كانون الثاني (يناير) من هذا العام، أعلنت شركة الشحن الدنماركية العملاقة (ميرسك) أن سفنها ستتجنب سلوك طريق البحر الأحمر “في المستقبل المنظور”.
* * *
منذ نهاية الحرب الباردة، ركزت الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة على حتميتين. الأولى هي المحافظة على هيمنة مفتوحة على الطرق البحرية الدولية من خلال السيطرة على نقاط الاختناق المحيطية الرئيسية. والثانية هي منع أي قوة منافسة من السيطرة على قارتها الخاصة. ويتم تنفيذ هذين الهدفين الجريئين حالياً في شكل 11 مجموعة قتالية تتمحور حول حاملات الطائرات، وشبكة عالمية تضم حوالي 750 قاعدة عسكرية في 80 دولة على الأقل في جميع أنحاء العالم، مصممة لمنع المنافسين المحتملين من السعي إلى تقويض تفوق الولايات المتحدة. ولم يتم أبداً تبرير الحفاظ على التفوق العالمي الدائم بشكل عقلاني من قبل منشئيها خارج “سترة المجانين” الأيديولوجية المتمثلة في ادعاءات الاستثنائية الأميركية والحفاظ على “نظام دولي قائم على القواعد”.
إن الحفاظ على السيطرة على طرق التجارة التي تربط أوروبا بآسيا -وخاصة تلك الممتدة من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط- هو شرط لا غنى عنه لاستمرار الهيمنة العالمية للولايات المتحدة. وليس هذا بالأمر غير المعتاد: لم تكن هناك في أي وقت قوة قادرة على أن تكون مهيمنة عالمياً لم تفرض أسبقيتها على منطقة أوراسيا أولاً. كان هذا هو واقع الحال بشكل ملحوظ مع الإمبراطورية البريطانية بين اندلاع “حرب القرم” وأعقاب الحرب العالمية الثانية.
ينطوي واقع الهيمنة العالمية على الاحتفاظ بالقدرة على ضمان -أو الحرمان من- إمكانية الملاحة في المضائق التي ما تزال تمر عبرها اليوم تسعة أعشار السلع المتداولة في العالم. وهناك ثلاثة منها في الشرق الأوسط تتمتع بأهمية أساسية: قناة السويس؛ وباب المندب؛ ومضيق هرمز. ومن منظور أصحاب عقيدة الهيمنة العالمية الذين يديرون حكومة الولايات المتحدة، فإن التشكيك في سيطرتهم على أي منها هو شيء لا يطاق ولا يمكن التسامح معه، ببساطة.
في المقابل، بعيداً عن الاستجابة إلى الدعوات الغربية لممارسة الضغط على الحوثيين لوقف هجماتهم في البحر الأحمر، أعلنت إيران في 1 كانون الثاني (يناير) أن إحدى سفنها الحربية عبرت “باب المندب” للإشراف على المهام البحرية في المنطقة. وهذه خطوة جريئة وتبدو متهورة. إنها، بالنسبة للمراقب العادي، تجعل المواجهة بين طهران وواشنطن أكثر احتمالاً من أي وقت مضى منذ أن استبدل الرئيس ترامب مستشاره الصقري المتشدد للأمن القومي، جون بولتون، في أيلول (سبتمبر) 2019.
* * *
من ناحية أخرى، كانت إيران حريصة على البقاء بعيدة عن الفوضى في غزة وحولها. وقد امتنع أتباعها اللبنانيون، “حزب الله” في جنوب لبنان، عن فتح “الجبهة الشمالية” ضد إسرائيل بشكل كامل حتى في ذروة عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي، التي كلفت آلاف المدنيين الفلسطينيين حياتهم. ولذلك، فإن قرارها رفع الرهان في البحر الأحمر يستحق بعض الانتباه. ذلك أنه مهما كان رأي المرء في النظام الإيراني، فإنه ليس معروفاً باتخاذ قرارات غير عقلانية على الساحة العالمية.
ليس جميع “الوكلاء” الإيرانيين معتمدين بالقدر نفسه على الحكومة في طهران أو على استعداد لاتباع أوامرها بالمقدار نفسه. ويغلب أن يكون الحوثيون مدفوعين، جزئياً على الأقل، بالحاجة إلى استعادة شعبيتهم بين قاعدتهم السياسية في اليمن. وقد عانت هذه الشعبية منذ بدء محادثات السلام لإنهاء الحرب الأهلية في تشرين الأول (أكتوبر) 2022. ومن ناحية أخرى، فإن مهاجمة الأهداف الإسرائيلية تحظى بشعبية كبيرة، كما يشهد على ذلك تدفق المتطوعين الشباب في اليمن منذ بداية الهجمات على الشحن. وتبقى قدرة الولايات المتحدة وشركائها البحريين -ناهيك عن إسرائيل- على إضعاف أهداف الحوثيين بطريقة يُعتد بها داخل اليمن محدودة.
ثم مرة أخرى، لا تبدو إيران مستعدة لإعطاء منتقديها في واشنطن وإسرائيل الكثير من الحجج للبدء في الدعوة، مرة أخرى، إلى هجوم أميركي وقائي ضدها. وقد تبدو مدمرةٌ متقاعدة واحدة تمر عبر باب المندب رائعة على التلفزيون الإيراني، لكنها غير ذات صلة في الصورة الاستراتيجية الأوسع. وتعرف كلٌّ من إيران ومنتقديها أنه في حالة وقوع هجوم أميركي، فإنها تستطيع إغلاق مضيق هرمز، الأمر الذي من المؤكد أنه سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط. وستكون هذه لعبة شاملة محصلتها سالبة.
على المدى الطويل، تماماً كما هو الحال في أوكرانيا، يغلب أن تكون الصين هي المستفيد الوحيد. في الوقت الحالي، ستلاحظ إيران حقيقة أن هناك في قوة المهمات التي تقودها الولايات المتحدة لحماية الملاحة في البحر الأحمر سفن حربية من ثماني دول أعضاء في (الناتو)، ولكن لا شيء من قوتين آسيويتين رئيسيتين -الصين والهند- اللتين لديهما أكبر مصلحة في إبقاء الممرات البحرية مفتوحة بينهما وبين الأسواق في أوروبا والأميركتين.
لذلك، لا ينبغي النظر إلى المبادرة الأميركية على أنها مجرد ممارسة لإدارة حرية الملاحة نيابة عن “المشاعات العالمية” أو كخطوة لاحتواء إيران فحسب. من المرجح أيضاً أن تكون تحذيراً لمجموعة (بريكس)، التي رحبت بأعضاء جدد في ناديها في 1 كانون الثاني (يناير)، من أن البحرية الأميركية ما تزال هي التي تدير التجارة العالمية.
ولكن، هل تفعل حقاً؟ لعل النقطة المهمة هي أن الصين عملت على تحييد المزايا التكنولوجية الأميركية في التجارة العالمية. وقد طورت بكين تكتيكات تزيد بشكل كبير من تكاليف نشر القوة الأميركية في الخارج، وعلى الأخص في المسائل البحرية. فحاملات الطائرات باهظة التكلفة (تكلف حاملة الطائرات “يو. إس. إس. جيرالد آر. فورد” 14 مليار دولار)، ناهيك عن طائراتها المكلفة وأطقمها الضخمة، لكنها أيضاً غير آمنة في المياه الساحلية والبحار الداخلية. وفي حالة نشوب حرب في المحيط الهادئ، سيتم إنشاء بحر محايد شاسع بين الساحل الصيني وغوام، وهو ما سيعمل لصالح هجوم بكين على تايوان.
تشكل حكومة الولايات المتحدة بشكل عام ووزارة الدفاع الأميركية بشكل خاص بيروقراطية عملاقة وغير قابلة للإصلاح. وفي حين يتم تحديد المنافسين -والمسارح أيضاً- فإن المفاهيم العملياتية مفقودة. والتخطيط عام وتجريدي، يركز على الأبعاد المكانية مثل البحر والجو بدلاً من التركيز على الخصوم أنفسهم. والتدريب مصمم خصيصاً لمواجهة أعداء الأمس. والتفوق التكنولوجي أقل قابلية للتحقق مما كان من قبل. ولم تعد مهمة البنتاغون هي الحفاظ على ميزة تكنولوجية وإنما على المواكبة التقنية فحسب.
لم يعد بإمكان السادة السياسيين في وزارة الدفاع الأميركية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية تجميع حتى تظاهر بوجود “تحالف”. وقد أصبحت عملية “حارس الازدهار” التي تم الترويج لها والتبشير بها كثيراً فشلاً محرجاً، مع مساهمة تساوي صفراً تقريباً من جميع حلفاء الولايات المتحدة المشاركين اسميا، باستثناء بريطانيا التي تشارك بمدمرة واحدة. وكانت ضربات 12 كانون الأول (يناير) على أهداف حوثية عملية مسرحية خالية من المضمون الاستراتيجي، ومقيدة بالاعتبارات السياسية تجاه العالم العربي، وأصبحت بلا معنى بسبب تضاريس اليمن ومصفوفة الخصم المشتتة.
كان الدرس الجيوسياسي من كل هذا، للصديق والعدو على حد سواء، هو أن البحرية الأميركية ببساطة ليست على مستوى المهمة الهائلة التي فرضتها على نفسها والمتمثلة في السيطرة على جميع الممرات البحرية الرئيسية ونقاط الاختناق. وقد يصبح موقفها الهش مُسبقاً في بحر الصين الجنوبي حرجاً في غضون عام أو عامين، وقد يكون قدوم الأزمة الكبرى مسألة وقت فقط بعد فوز لاي تشينج تي، أحد مؤيدي استقلال تايوان، في الانتخابات الرئاسية في 13 كانون الثاني (يناير).
وأخيرًا، فإن المأزق غير القابل للحل لعصابة صنع السياسة الأميركية هو أنها لا تستطيع الاستمرار في التظاهر بأنها مدافع خيِّر عن “النظام الدولي القائم على القواعد” بينما تظل، في الوقت نفسه، مؤيداً عنيداً وغير مرن للحكومة الحالية في إسرائيل. إن هذه “العلاقة الخاصة” مع إسرائيل ليست جيدة لأميركا وهي بالتأكيد سيئة لإسرائيل، التي تعاني من عزلة خطيرة لأول مرة في تاريخها والخالية من الأفكار لإدارة تحدياتها الأمنية على المدى الطويل.
سوف تكون أميركا حكيمة وتفعل خيراً إذا هي دعمت نتيجة في اليمن تعِد بالاستقرار الإقليمي وتدفقات تجارية غير منقطعة. أما من هو الذي يرفرف علمه فوق عدن فغير مهم بطبيعة الحال. ولتحقيق هذه الغاية، سيكون في مصلحة أميركا أن تعرض على إيران اتفاقاً نووياً جديداً، لا يختلف كثيراً عن “خطة العمل الشاملة المشتركة” القديمة التي انسحبت منها إدارة ترامب في أيار (مايو) 2018. وفي المقابل، ستكبح طهران جماح الحوثيين، بشكل فعال ودائم هذه المرة.
*د. سرديا تريفكوفيتش Srdja Trifkovic: كاتب وسياسي ومؤرخ صربي أميركي، ومحرر الشؤون الخارجية في ”مجلة كرونيكلز” الأميركية المحافظة، وأستاذ للسياسة في جامعة بانيا لوكا في البوسنة والهرسك. وهو مؤلف لكتب عدة منها ”سيف النبي وهزيمة الجهاد”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Struggle for the Gate of Tears
المصدر: الغد الأردنية/ (كونسورتيوم نيوز)
قراءة موضوعية عن تداعيات حرب غزة وخاصة مشاركة الحوثيون وزعزعة أمن الطرق البحرية التي أعتبرته أمريكا من أهم نقا الإستراتيجية لها ، نظام ملالي طهران لم ولن تشارك بعم أذرعتها وتتبرأ مباشرة من المسؤولية عن أذرعتها لذلك هربت عن مسؤوليتها لأعمل الحوثيين كما تم لـ هجوم البرج 22 و… لأنها التقية والصبر الإستراتيجي المنافق .