مرت أربعة عشر سنة الزلزال الاجتماعي والسياسي الذي ضرب المنطقة ووصف بـ “الربيع العربي”، وذلك من باب التفاؤل باحتمال أن يكون المدخل للقطع مع الاستبداد الذي طالت سنواته كثيرا، ويؤسس لديمقراطيات محلية قادرة على الاستمرار والصمود.
في ظل التراجعات التي حصلت في كل الدول التي عاشت انتفاضات شعبية أدت الى سقوط أنظمتها ورحيل حكامها، هناك أسئلة تفرض نفسها بقوة. هل ما حصل كان لحظات ثورية بالمعنى العميق لمفهوم الثورة وأبعادها؟ وما هي الأطراف التي كانت فاعلة ونجحت في إجهاض ذلك النزوع نحو التحول التاريخي الذي عبرت عنه الشعوب العربية؟ وهل أن القوى الاجتماعية والسياسية التي التقطت تلك اللحظة وتقدمت الصفوف وقدمت نفسها كبديل أسهمت بنسبة عالية في إفشال الديمقراطيات الناشئة؟ باختصار، هل تبخر الحلم الثوري والديمقراطي نهائيا أم أنه ينتظر نقدا ذاتيا عميقا وجديا من النخب التي اكتوت بالخيبة والتي لا تزال قادرة على إعادة المحاولة وفق رؤية أكثر واقعية؟
تونس ووعود الربيع العربي
كانت تونس نقطة الانطلاق لسلسلة الانتفاضات الفجائية التي عصفت بالعالم العربي، ووضعت الأنظمة السياسية أمام تحديات غير مسبوقة. لم يكن أحد يتوقع أن ينهار نظام بن علي بتلك السرعة رغم تماسكه وسيطرته المطلقة على جميع مفاصل البلد. والى هذا لا يملك أحد إجابة واضحة عما حدث بدقة. ورغم ثقة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الاقتصاد التونسي الذي كان يسجل نسبة نمو تتراوح بين 4 و5 %، ورغم الدعم الغربي غير المشروط للنظام المعتمد على القبضة الأمنية من جهة، والوفاء بالتزاماته الدولية من جهة أخرى، الا أنه لم يصمد طويلا أمام حركة احتجاجية كانت شبابية في البداية قبل أن تلتحق بها بقية الشرائح الاجتماعية وبالأخص الطبقة الوسطى.
فجأة انتقل الحريق الى مصر وليبيا واليمن، ووصل الى البحرين وسوريا، وكاد أن يجرف المغرب لولا احتواء النظام “حركة 20 فبراير/شباط” عام 2011 الاحتجاجية. وكشف ذلك عن أن المنطقة العربية كانت مهيئة للانفجار نتيجة الاستبداد والفساد والاحتقان الاجتماعي. وهو ما نقل الحدث من المستوى المحلي ليتحول الى ظاهرة اقليمية. ورغم سرعة الانتشار والتشابه الظاهري للأوضاع من بلد الى آخر، الا أن خصوصية كل دولة أثرت في توجيه الحدث وتكييفه محليا. وفي هذا المنعرج بالذات بدأت القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها خاصة فرنسا والاتحاد الأوروبي تعمل على التحكم في ردود الأفعال وتوجيهها وفق ما تميله مصالحها.
مسافة بين المقدمات والمآلات
يمكن القول بعد مرور أربعة عشر عاما أن الحصاد على مختلف الأصعدة مر ولا ينسجم تماما مع المقدمات التي تجلت مع ذلك الحدث التاريخي. فالديمقراطية الناشئة في تونس رغم صمودها عشر سنوات فقد ضعفت شعبيتها وقل عطاؤها قبل أن يتمكن الرئيس سعيد من أن يجهز عليها بحجة إصلاحها، فحل برلمانها الشرعي وألغى دستورها، واستبعد سياسييها الذين اعتقل بعضهم بتهمة التآمر على أمن الدولة أو اختاروا الاستقرار خارج البلاد. وساد نظام في تونس يصفه معظم الباحثين بحكم الفرد أو الحكم الفردي.
أما مصر فقد عاد يحكمها العسكر من جديد بعد انتخابات رئاسية وبرلمانية شفافة أسفرت عن وصول الاسلاميين الى السلطة فأخطئوا في إدارة الحكم وفي بناء التحالفات وفي وضع اختيارات اقتصادية واجتماعية، فوفروا بذلك المبررات للإطاحة بهم.
في ليبيا أسهمت عوامل داخلية وخارجية – بعد تنظيم انتخابات ديمقراطية سرعان ما تم الطعن في نتائجها – في تقسيم البلاد بين شرق وغرب، والدخول في حرب أهلية. وهو ما فتح المجال للتدخلات الخارجية التي لا تزال تشكل عاملا هاما في تحديد العلاقات بين أطراف الصراع.
في اليمن، وبعد مقتل الرئيس علي عبد الله صالح تورطت البلاد في حرب أهلية استنزفتها وحالت دون استقرارها، وزادت في تعميق حالة البؤس في صفوف مواطنيها.
أما سوريا فوضعها صعب ومعقد. ضعف المعارضة وانقسامها أعطى فرصة للقوى الدينية السلفية المتطرفة ممثلة في القاعدة وداعش لكي تحول أجزاء منها إلى ما سمي بـ “دولة الخلافة” حيث تم تطبيق نموذج سياسي استبدادي ومتخلف. وبعد قيام التحالف الدولي بالقضاء على تلك المحاولة، بقي جزء هام من البلاد خارج سيطرة النظام الذي تمكن من استعادة جزء من قوته بفضل الدعم الإيراني والروسي.
كيف تحول الأمل الى كابوس
في ضوء هذا الحصاد المر الذي قلب الأمل الى كابوس، قيل الكثير عن نجاح الثورة المضادة في استعادة الدولة العميقة. كما انتشر الحديث عن انتهاء حقبة ما سمي بالربيع العربي، وأن الواقعية السياسية تقتضي الاعتراف بأن القوى التي راهنت على الثورة والتغيير الديمقراطي خسرت الرهان، وتسببت في كل هذه الخسائر. فهل هذا الحكم صحيحا ونهائيا؟ وهل يمكن للمستقبل أن يحمل في طياته توقعات مختلفة؟
لكل تجربة من هذه التجارب خصوصية ما، لكن ذلك لا يمنع من الحديث عن عوامل مشتركة من شأنها أن تفسر الفشل في تركيز ديمقراطيات صلبة في العالم العربي، من بينها ما يلي.
عدم تغيير العقد الاجتماعي
أشارت هذه الانتفاضات والثورات إلى أن العقد الاجتماعي الذي ساد فترة طويلة قد انهار واستنفد أغراضه. وأن المرحلة الجديدة تقتضي صياغة عقد جديد تشترك في وضعه مختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع. لكن ما حدث هو العكس تماما، حيث استمر العمل بالعقد القديم فاستمرت الأزمة وتفاقمت مع استفحال رقعة التبعية الاقتصادية والمالية للمؤسسات الدولية التي تمسكت بالمحافظة على منوال التنمية. وزاد وباء كورونا الطين بلة فتراجع مؤشر النمو، وتضررت عديد القطاعات الحيوية، وتم استغلال الجائحة لتعميق الثورات المضادة.
أزمة النخب البديلة
عندما رحل خمسة رؤساء دفعة واحدة، ارتبكت أوضاع البلدان التي شهدت تلك الانتفاضات. في ضوء ذلك اندفعت الأحزاب والتيارات التي كانت في صدارة المعارضات السابقة. لكن تبين أن هذه الأطراف بمختلف انتماءاتها لم تكن قادرة على حسن إدارة الحكم ولم تكن مهيأة لمواجهة تحديات المرحلة. وبدل أن تتفرغ لإصلاح جذري والقيام بمراجعة الاختيارات الكبرى، تورطت في صراعات داخلية زادت من تعقيد الأوضاع، وأكثرت من حجم الصعوبات، وهو ما جعل الشعوب تصاب بالخيبة وتفقد تدريجيا ثقتها ليس فقط في النخب وانما في الديمقراطية وفي السياسة مطلقا.
الصراع الاسلامي العلماني
رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، استنزفت النخب جزءً هاما من قوتها في صراعات أيديولوجية محمومة قلبت الأولويات، وأنهكت المؤسسات، وقسمت الشعوب، وأنهكت الدول، وعطلت مسارات الإصلاح. ومما زاد في تعميق الحيرة المجتمعية وتوسيع دائرة الفوضى، صعود التيارات السلفية الموغلة في التطرف العقائدي والقائمة على منهج التكفير والعنف، التي استغلت هذه الأوضاع وحولت عديد البلدان الى ساحات حرب وقتال بهدف إقامة ما سموه بـ “دولة الخلافة”. وقد تطلب تحجيم هذه الظاهرة تدخل عسكري ومخابراتي خارجي واسع النطاق شاركت فيه كل الدول تقريبا، وتغيير التشريعات المحلية بالخصوص، وعودة قوية للمخابرات محليا وعالميا في إطار تحالف دولي ضد الارهاب. وقد أثر ذلك كله على مسار الثورات والعودة بها الى أوضاع ما قبل اندلاعها.
مناخ اقليمي معادي للثورة والديمقراطية
لم يكن السياق العربي متقبلا للثورات أو الانتفاضات التي هزت المنطقة برمتها. فعلى الصعيد الاقليمي خافت الحكومات من هذا الحراك الشعبي الجارف ذو المطالب العالية، فعمل معظمها على التصدي له بمختلف الوسائل. ولقد أسهم ذلك في تحويل وجهة هذه الثورات، وأدخل العديد منها في مطبات خطيرة ترتبت عنها أحيانا حروب أهلية.
أما الدول الغربية فقد لعبت دورا مزدوجا، تظاهرت بدعم المطالب الديمقراطية والحريات، ولكن من جهة أخرى لم توفر المساعدات المالية الضرورية خاصة في الحالة التونسية. ورفضت بالخصوص تغيير منوال التنمية، وعملت على الابقاء على التبعية الاقتصادية لهذه البلدان. وقد أسهم ذلك بشكل واضح في تعميق الأزمات الاقتصادية التي عاشتها ولا تزال الشعوب الباحثة عن الحد الأدنى من العدالة والكرامة. كما سكتت عن الانقلابات وساعدت الأنظمة التي قامت على أنقاض الانتكاسات التي حصلت هنا وهناك. ويتفق المراقبون في القول بأن الغرب “أخفق في دعم عملية الانتقال الديمقراطي في مصر وليبيا وتونس واليمن؛ بل على العكس، دعمت بعض حكوماته الأنظمة السلطوية العربية، التي تعادي الربيع العربي”.
الأمل في التغيير لا يزال قائما
تبدو المنطقة العربية منهكة، لكن ذلك لا يعني العودة الى حالة الاستسلام التي كانت عليها من قبل. فالسنوات الأخيرة شهدت حراكا متقطعا هنا وهناك سماه البعض بـ “الصحوة العربية الثانية”. قد يكون هذا الاجتماعي والسياسي الذي شهدته بعض الدول مثل العراق والجزائر والسودان دليلا على حالة نفسية شعبية تميل الى التمرد، لكن الأمر يحتاج الى تقييم جدي لتجارب الربيع العربي الفاشلة، واستخلاص الدروس مما حصل. فالثورات ليست اختيارا سهلا، وتداعياتها معقدة، في حين أن الإصلاح أكثر أمانا حتى وان تأخرت ثمراته.
المصدر: شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية
الربيع العربي انطلق من تونس وانتقل الى الى مصر وليبيا واليمن، ووصل الى البحرين وسوريا، وكاد أن يجرف المغرب لولا احتواء النظام “حركة 20 فبراير/شباط” عام 2011 الاحتجاجية ، ليؤكد بأن المنطقة العربية مهيئة للانفجار نتيجة الاستبداد والفساد والاحتقان الاجتماعي ، أين وصلت هذه الثورات ؟ ولكن الأمل في التغيير لا يزال قائما ، قراءة دقيقة وموضعية .