كرم الصباغ أديب مصري واعد، له العديد من المجموعات القصصية المنشورة…
كبوح ناي قديم مجموعة كرم الصباغ القصصية الأولى التي اقرؤها له .
يعتمد كرم في مجموعته القصصية على نماذج مختلفة من السرد، بلسان الراوي، أو بلسان المتكلم ، وذلك بتنوع مفهوم ومحبذ، حسب المقام من السرد عموما…
يقسم كرم مجموعته القصصية إلى قسمين أولهما بعنوان : لحن قديم يجلو الصدا.
والثاني بعنوان: لحن البوار.
رغم كون المجموعة واحدة، لكنه اراد ان يوصل لنا نحن القراء رسالة مفادها. ان الجزء الاول لحن قديم يجلو الصدأ، عنوان مثير معبر ومؤثر يعانق النفس قبل العقل، هو الذاكرة التي تعيد لصاحبها ما عاشه سابقا، دوما ودون استئذان، وإن اظهر انه تجاوز ماضيه واصبح مستغرقا في عيش حياته المباشرة…
قصص لحن قديم يجلو الصدأ تتعلق بماضي بعيد او قريب، يتعلق ب(النجع) البلدة أو القرية حسب تعبيرنا نحن الشوام، لكنه حاضر بصفته مهد النشأة والذاكرة و(الأيام الجميلة). قصص متنوعة تعود إلى أحوال النجع وأهله وناسه، فيه ذلك الطفل الذي كبر ونشأ داخله. اصر ان يتابع دراسته، فكان يغامر بالذهاب من نجعه الى مدرسة تبعد مسير ساعات يوميا لمتابعة دراسته وهو طفل. تناوشه المشاعر ووحشة الطريق، والمطر والوحل والكلاب الشاردة، لكنه يحصل على مبتغاه ويحصل على الشهادة العالية ويمتلئ نفسيا بها، هو وأهله، لكنها لن تنفعه في الحياة العملية، حيث تنبأت بذلك القصص القادمة في المجموعة…
في النجع النخوة والتضامن الاجتماعي والعيش على الكفاف، والعمل في الأرض والاستفادة من الحيوانات حليبها ولحومها. يقع النجع ضحية لصوص يسرقون لقمة التعب من الفم. في النجع المرأة العاملة التي تستر نفسها بعرق جبينها، فيه ايضا المرأة الارملة المتهمة بعرضها دون وجه حق، وكيف يتجرأ عليها شباب الفساد والسوء، في النجع أهل الله المتصوفة يدورون بين النجوع يتلون اورادهم وحضرتهم يرافقهم النّور بودعهم ونسائهم المتلاعبات ، في النجع ايمان بالمقدس بوعي وبغير وعي. وقد يؤدي احدهم بروحه يلاحق وهما لا يمكن الوصول اليه. في النجع أمهات يفتقدن أبنائهن في بحثهم عن لقمة عيشهم بالغربة، ذهبوا ولم يعودوا إلا في الوهم والأماني والتهيؤات، في النجع ذاكرة الوطن مصر حيث بعض كبار السن عاشوا الهزيمة أمام الكيان الصهيوني في حزيران ١٩٦٧م ونصر العبور في عام ١٩٧٣م، ويعيشون مرارة ذهاب السادات إلى الكيان الصهيوني مصالحا … في النجع يتذكرون ما حصل في فلسطين من تشريد وقتل واحتلال، اليست فلسطين قطعة من قلب مصر وروحها.
في هذا الجزء يعيدنا كرم الى ذاتنا التي عشناها قبل عقود، النشأة والحياة البسيطة والأحلام الكبيرة المشرعة لغد افضل… مع تغير في المكان وظروف المجتمع والأحوال الخاصة، لكنها ذات الحال في كل بلاد العرب…
أما الجزء الثاني من مجموعة كرم الصباغ يحمل عنوان لحن البوار، عنوان معبر ومؤثر ومؤلم. نعم لحن الفشل، أراد أن يقول فيه عبر قصصه العديدة، أن مآل الشاب الذي انطلق من ذلك النجع وقام بالذي عليه وعمل بكل جد ونشاط ليصنع من نفسه نموذجا ومن حياته فرصة للراحة والسعادة والبناء الذاتي…
فماذا كانت النتيجة؟…
تابع ابن النجع دراسته المتفوقة في الجامعة وحصل على التفوق الذي يؤهله لأن يكون معيدا في الجامعة أو يحصل على فرصة عمل ممتاز وفق شهادته، لكنه حصل على الخيبة، احتفظ بشهادته لا يعلم أين ؟!!. وهو يعمل في محل ما، في مهنة ما، ليؤمن لقمة عيش بالكاد يصل إليها. البعض يكبر ولا يستطيع أن يفكر بالتقدم بطلب من احب لقصر ذات يده، وسرعان ما تجد نصيبها وتتزوج وتتركه للخيبة. اما من تسعفه الظروف فيجد من يحب ويوظف معلما او غير ذلك ويتزوج وينجب ولدا أو أكثر، ويتحول الى ثور الساقية يعمل ولا مردود كافي. الدّين يهاجمه في منامه وصحوه، ذل وخيبة وعار. والبعض يفكر بالغربة، قد ينجح ويذهب قد يعود ببعض قروش يبني فيها بيتا ويتزوج، يحاول نسيان تجرع المذلة والهوان حيث من لا تكرمه بلاده يكون مهان حيث يصل. والبعض يعود في تابوت، لقد مات لأسباب غير معروفة ؟!!. والبعض يعود مجرد خبر انه مات وزرع في صحراء لا ينبت فيها بشر يموتون… البعض يعمل في بلاده بأي شيء لعله يستر نفسه ومن يعيل من ذل الحاجة.
البعض يعمل بعرق جبينه ويصون نفسه ومن حوله يحصل على الرضى النفسي والقبول الاجتماعي كمكافأة ذاتية، يصارع الدنيا ليبقى محافظا على كرامته. والبعض يتحول الى ذئاب صغيرة تنهش من حولها حتى اقرب الناس اليها الاب والام والاهل عموما… وباشكال مختلفة…
في الجزء الثاني لحن البوار لا حضور لأي نقطة ضوء في الافق الا ما ندر، ولا يبقى سوى أن إنسانية الإنسان هذا مازالت به حيّة…
في التعقيب على المجموعة القصصية كبوح ناي قديم لكرم الصباغ سأروي حكاية حدثتني بها جدتي وأنا طفل صغير قالت:
في زمان قديم كان هناك بشر يعيشون كل يوم بيومه، يفعلون ليحصلوا على رغيف الخبز، كان هناك حاكم ظالم يمنعهم من العمل أو يسرق رغيف خبزهم أو يزجّهم في السجون. او في اعمال السخرة عنده. أحد هؤلاء الناس لم يتحمل المذلة وسوء المعاملة. احرق نفسه امام الناس. لم يمضي وقت حتى ولد من رماد الفتى الذي احرق نفسه مارد كبير حمل مطرقته وهاجم قصر الحاكم الظالم ووراءه جموع الناس المظلومين المعذبين، وضرب القصر ضربة واحدة وهدمه، هرب الحاكم مختبئا كفأر في جحر. وصل صدى الحكاية الى كل البلدات المجاورة و تحركوا كلهم شكلوا بحضورهم ماردا لكل بلد وسقط الظلم والظالمين…
وسكتت جدتي سألتها وماذا حصل بعد ذلك.؟. قالت لي والدمعة في عينها. عاد الظلم والظالمين مرة اخرى…
لقد تركت حكاية جدتي وحكايات كرم الصباغ في نفسي أمنية تحتاج ماردا كبيرا يحرر المظلومين…
1 828 4 دقائق
المجموعة القصصية “كبوح ناي قديم” للأديب المصري “كرم الصباغ” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” ،