غزّة.. وأزمة التنظيم الدولي ما بعد الحرب الباردة

نبيل عبد الفتاح

استخدام بعض الدول دائمة العضوية كالولايات المتحدة الأمريكية لحق النقض في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وفي غيرها من النزاعات الدولية، يشير إلى بعض من أزمات التنظيم الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة، وما بعدها، في إضعاف نسبي لبعض المنظمات الدولية الكبرى، ومعها القانون الدولي العام، وإيجاد بعض الحلول للمنازعات المسلّحة والسياسية بين أعضاء المجتمع الدولي، والفواعل السياسية ما دون الدولة، وهو ما تجسّد في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ نشأة الدولة، وقرار التقسيم في 9 نوفمبر 1947.

واستمرّ هذا النهج مع العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية – مصر وسوريا والأردن – في 5 يونيو 1967، والاعتداءات المستمرة على لبنان، وعدم الاستمرار في العملية السياسية مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو حول الحكم الذاتي الانتقالي في 13 سبتمبر 1993، وإجهاض المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي، وعدم استكمال التفاوض وصولًا لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والضربات المتكررة على قطاع غزّة، وسياسة الاستيطان الممنهجة على الأراضي في الضفة الغربية وتمزيق وحدة نسيج الأراضي الفلسطينية لإعاقة إقامة مشروع الدولة.

عدم قدرة مجلس الأمن على استصدار قرار لوقف إطلاق النار في ظل حالة مأساوية للمدنيين في القطاع، وعمليات تؤدي إلي الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، بدا معه أنّ هيمنة الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، على المنظمة الدولية فاقم من مشاكلها المتعددة، وذلك لأنّ هذه الدول دائمة العضوية – ومعها روسيا والصين – تستخدم الأمم المتحدة وهياكلها الداخلية كإحدى أدوات نُظُم السياسة الخارجية لكل منها.

أدت الحرب الإسرائيلية إلى تجسيد بعض من أزمات التنظيم الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرورًا بالحرب الباردة، وتفكك الإمبراطورية الماركسية السوفييتية، مع صعود الإمبراطورية الأمريكية إلى قمة النظام الدولي الآحادي القطبية، ثم في مرحلة تبدو نسبيًا ملامح الانتقالية من بين تفاعلاتها من بعض التضاغط والاضطراب النسبي والسيولة، واللايقين، في مسارات التحوّل إلى عالم متعدد الأقطاب، ظهرت مع هذه التحولات الأزمات والأعطاب الهيكلية في التنظيم الدولي، وبعض منظماته العالمية والإقليمية كالشرق الأوسط، والمنطقة العربية.

يعود الفشل في ضعف قدرة الأمم المتحدة على المساعدة في إيجاد حل للمسألة الفلسطينية، وغيرها من النزاعات المسلحة، إلى ما يلي تمثيلًا لا حصرًا:

– تحوّل الأمم المتحدة والمنظمات الفرعية التابعة لها إلى أدوات في أيدي القوى الدولية الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ومصالحها القومية والكونية.

أما مقررات الجمعية العامة لا تعدو أن تكون محض توصيات غير ملزمة كما يبدو دائمًا في قراراتها حول المسألة الفلسطينية، وقرارها الذي صدر حول حرب إسرائيل على قطاع غزّة، وغيرها من التوصيات في المنازعات الدولية والإقليمية، التي لا تجد الدول الصغرى أو بعض المتوسطة في النُظُم الإقليمية التابعة أي فعالية لقرارت الجمعية العامة سوى محض مساندة معنوية لسياساتها في نزاعاتها الإقليمية.

من هنا بات بعض من هيبة التنظيم الدولي موضعًا للتساؤل، ناهيك عن اللامبالاة من بعض شرائح في قطاعات الرأي العام الكوني والإقليمي والوطني للدول الأعضاء.

هذا الوضع المأزوم والمستمر والوهن في فعالية المنظمات الدولية والإقليمية وتأثيرها في المنازعات الدولية، وخاصة المسلّحة، بدت معه خاضعة لموازين القوى الدولية والإقليمية بين أعضائها ومنافساتهم على الأدوار والمكانة الدولية.

– إنّ بعض الدول الأعضاء لديها تحالفاتها ومصالحها المشتركة مع بعض دول الجوار الإقليمي الأكبر والأقوى، أو مع بعض الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، وغالبًا ما يتم توظيفها من قبل غالب الدول الإقليمية في نزاعاتها وأيضًا في داخل المنظمات لدعم وتحقيق مصالحها أو إفشالها كموقف دول الخليج الميسورة حيال الجامعة العربية، ومن ثم لصراعات قادتها من الحكام وتحالفات بعضهم الدولية والإقليمية في المنافسة على لعب أدوار إقليمية من خلال القوة المالية، وتحالفات بعض المطبّعين مع إسرائيل رسميًا، أو على نحو غير مباشر لدعمهم في مواجهة إيران. أدى ذلك إلى إضعاف الاستقلالية النسبية للمنظمة الإقليمية كالجامعة العربية على الرغم من شخصيتها القانونية الدولية المستقلة كأحد أشخاص القانون الدولي العام.

– من ناحية أخرى عدم قدرة هذه المؤسسات الإقليمية، الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، على بلورة استراتيجيات في العمل المشترك على نحو يؤدي إلى بناء رأسمال من الثقة في عملها على هامش بعض من النزاعات السياسية بين الدول الأعضاء ومثالها النزاعات بين المغرب والجزائر، وبين بعض دول منطقة الخليج ومنافسات قادتها من الأجيال الجديدة على المكانة والدور الإقليمي.

– غلبة الطابع البيروتكنقراطي لأجهزة وموظفي الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية، واختيارات قياداتها، على نحو لا يسمح بقدر ما من الخيال السياسي والتجدد، والقدرة على لعب بعض الأدوار على هامش الدول الأعضاء في تخفيض حدة التوترات السياسية بين الدول الأعضاء المتنازعين في بعض الأحيان، وعلى نحو وقائي أو من خلال الديبلوماسية الوقائية.

– توظيف الدول ما بعد الكلونيالية للمنظمات الدولية لإظهار طابعها الوطني والاستقلالي في المجالين الدولي والإقليمي من خلال عضويتها في هذه المنظمات أو الاعتراف الدولي بها، وللحصول على المساعدات والمنح والقروض من المنظمات الاقتصادية والفنية الدولية، وخاصة في ظل تعثّر عمليات بناء الاندماج الوطني بين مكوّناتها الأساسية، ومن ثم لم تستطع بعض الدول ومجتمعاتها الانقسامية تشكيل مفهوم الوطنية عبر سياسات للتكامل الوطني الداخلي، وبناء موحّدات جامعة في ظل التعدديات الداخلية وتمثيل مصالحها المختلفة من خلال المؤسسات السياسية الديمقراطية، وذلك لقيام الحكم الشمولي والتسلطي على الغلبة والقوة وسياسات القمع الداخلي. من هنا تتمسك هذه الدول الانقسامية في تكوينها الداخلي بعضوية المنظمات الدولية والإقليمية في التجسيد الرمزي للوطنية والتمسّك بمفهوم السيادة الوطنية، وأثّر ذلك سلبًا على أداء المنظمات الدولية.

– بعض الدول ذات الأنظمة العسكرتارية أو الملكية والعائلية كما هو الحال في بعض البلدان العربية، على نحو غلب على بعض هؤلاء القادة إدراكهم الشخصي للعلاقات الإقليمية، ومركزية استقرار نظمهم الداخلية واستمراريتهم على قمة النظام، وغالبًا ما يسعون إلى توظيف المنظمات الإقليمية في دعم الصورة السياسية للنظام سواء في إعاقة حل بعض المنازعات البينية، أو استخدامها في إعلان بعض مواقفهم!.

– غياب بعض من العقل البيروتكنقراطي الخلّاق لدى بعض من قيادات وموظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية أدى إلى نمطية التفكير والسلوك الوظيفي في كافة النزاعات الدولية والإقليمية والتباينات في تاريخها وأطرافها وأسبابها، ومع ذلك ثمة ميل غلاب إلى تنميطها، واعتماد مقاربات تبدو متماثلة نسبيًا على نحو لا يؤدي إلى إبداع مقاربات سياسية وديبلوماسية تساهم على نحو ما في إيجاد حلول ما لهذه المنازعات أو المشاكل.

– تراجع بعض مستويات الكفاءة الوظيفية في التجنيد السياسي للمنظمات الدولية والإقليمية وهو ما يعود إلى النمط الزبائني للأنظمة الشمولية والتسلطية السياسية التي تعتمد على العلاقات الزبائنية والموالاة في التجنيد السياسي للمواقع السياسية والوظائف الكبرى داخلها، وفي اختيار الديبلوماسيين لبعثاتها في الخارج، وأيضًا في الترشيح للمواقع القيادية البارزة لبعض المنظمات الدولية والإقليمية، على نحو أدى إلى بعض من التأثير السلبي على أداء وفعالية هذه المنظمات في بنائها الداخلي ومن ثم إضعاف بعض من فاعليتها!.

– نظام المسابقات داخل المنظمات، عالمية أو إقليمية النشاط، يُظهر في بعض الأحيان بعضًا من الخلل المعاييري والتحيّزات الشخصية في الاختيارات، والتجاوزات وخاصة في تعيينات بعض النساء، على نحو ما تظهره بعض الشكاوى من بعضهن حول بعض سلوك رؤسائهن في المستويات المختلفة من الهياكل الإدارية الداخلية.

لا شك أنّ ما سبق من أسباب يقف وراء ضعف بعض من فاعلية المنظمات الدولية والإقليمية، في أنشطتها، وتراجع بعض التفكير السياسي والنظمي والإداري الخلّاق الذي يمكنه من تنشيط عملها في مجالات نشاطها، ولعل الحرب على غزّة والإبادة، والمجاعة المحلقة فوق السكان المدنيين، وغياب المأوى الآمن للأطفال والنساء والمسنين، تشير أيضًا إلى تباطؤ بعض المنظمات الدولية المتخصصة والمعنية بالتدخل في مسارات النزاع وتقديم خدماتها ودعمها للسكان المدنيين.

من ناحية أخرى لا بد من الإشارة إلى بعض من المصاعب الجمة التي يواجهها موظفو الأونروا وغيرهم من موظفي المنظمات العاملة في مجالات الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وأيضًا في المجال الصحي المحاصر والمدمّر في القطاع في ظل سياسة إسرائيلية وحشية لا تبالي بقوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني والدولي العام ولا بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي يرفع أعلامها ورموزها الدول الغربية الكبرى، وهو ما يحرّك بعضًا من شرائح قطاعات الرأي العام للتظاهر ورفض الإبادة والحصار للقطاع ومنع الإغاثة الإنسانية، والمطالبة بوقف إطلاق النار والحرب الإسرائيلية الوحشية على السكان المدنيين في قطاع غزّة، والتوغل والاغتيالات وقصف بعض المباني والأفراد وأسر آخرين في الضفة الغربية.

المصدر: (“عروبة 22”)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. المنظمة الدولية بهياكلها ونظامها وجد من قبل الحلفاء المنتصرين بالحرب العالمية الثانية ، إنهيار الاتحاد السوفياتي وتشكل الاتحاد الأوروبي وقيام المانيا الدولة الأقوى بالإتحاد الاوروبي لتتعدد وتفترق المصالح بين القوى الرئيسية وبالتالي تؤثر على أداء هذه المنظمة ، واستخدام حق الفيتو من أمريكا وروسيا كُلٍ لصالح حلفائه وتمويل المنظمات الأممية جعل المطلوب إعادة النظر بهذه المنظمة وتنظيمها .

زر الذهاب إلى الأعلى