أثبتت الحرب في غزة وعليها منذ عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) التي قامت بها حركة حماس، ثمّ الاجتياح الإسرائيلي التدميري، الأمور المبدئية التالية:
1- استحالة العيش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
2- فشل الفلسطينيين والإسرائيليين في الاتفاق على صيغة للطلاق أو لفكّ الارتباط.
3- خطورة استمرار الأوضاع الحالية على ما هي عليه: تراكم الحقد والكراهية والتحفّز لأيّ فرصة للانتقام.
فلسطينيّو 1948 داخل إسرائيل يعيشون في نظام مماثل لـ”نظام كرو” الذي ظلّ قائماً في الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة حتى عام 1960. وهو “نظام الاستعباد الشرعي” المطلق ضدّ الأميركيين السود المتحدّرين من أصول إفريقية، أو “نظام الفصل العنصري” الذي كان معتمداً في جنوب إفريقيا إلى أن سقط هذا النظام بعدما أجمع العالم على إدانته.
فلسطينيّو 1967 (عام احتلال إسرائيل للضفة الغربية بما فيها القدس) يعيشون تحت العنصرية الدينية التي يمارسها المستوطنون اليهود الذين جيء بهم من شتّى أنحاء العالم، وخاصة من الولايات المتحدة (وهم مشبعون بثقافة التوسّع الاستيطاني على طريقة الغرب الأميركي ويتعاملون مع أهل البلاد من الفلسطينيين كأنّهم “الهنود الحمر”). وكذلك المستوطنون الذين جيء بهم من روسيا (وهم مشبعون بروح الانتقام والكراهية لكلّ من هو غير يهودي كما كانوا يُعامَلون).
من أوغندا وشرق روسيا إلى بلفور
عانى يهود العالم طويلاً من التمييز العنصري – الديني. وعاشوا منبوذين في “غيتوات” منعزلة ومنغلقة على امتداد أوروبا الشرقية والغربية. مُنعوا كيهود حتى من دخول فرنسا وبريطانيا. عملت ألمانيا النازية على محاولة إبادتهم. وتعاون معها حتى أعداء ألمانيا مثل بولندا. حاول الأوروبيون التخلّص منهم بأيّ وسيلة. أقاموا لهم وطناً في شرق روسيا حيث لا يزال بعضهم حتى اليوم. وعرضوا عليهم دولة في أوغندة بإفريقيا. رحّب قسم منهم ورفض قسم آخر. كانت عين هذا القسم الآخر على فلسطين. فمنحهم اللورد بلفور ما أرادوا باسم الدولة البريطانية. حاولوا تسويق الوعد على قاعدة الادّعاء أنّ فلسطين مجرّد أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وها إنّ الأرض تنبت شعباً فلسطينياً يقاتل في مدن الضفة الغربية وغزة.
أدان العالم جرائم النازية في محكمة نورمبرغ ودمّر دولتها خلال الحرب واحتلّها عقوداً طويلة بعد الحرب. وأدان العالم جرائم التمييز العنصري في جنوب إفريقيا وأسقطها وأعاد الدولة إلى أهلها الأصليين. ولكنّ العالم يقف حتى الآن عاجزاً عن إدانة جرائم الصهيونية وعن إعادة فلسطين أو حتى قسم منها إلى أهلها المشرّدين في الخارج والمضطهدين في الداخل.
ارتفعت نسبة التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني نتيجة للجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل في غزة. تعكس ذلك المسيرات الشعبية المؤيّدة للحقّ الفلسطيني والمستهجنة للوحشية الإسرائيلية في مدن الشرق والغرب على حدّ سواء، بما في ذلك واشنطن (الداعم الأكبر لإسرائيل) ولندن (حيث صدر وعد بلفور). لكن يبقى حجم كراهية اليهود في هذه المجتمعات أكبر من حجم التعاطف التضامني مع الفلسطينيين. فالتعبير عن الكراهية يترجَم بدعم إسرائيل حتى يبقى اليهود فيها. ويقف التعبير عن العطف عند حدود عدم “تطفيش” اليهود من إسرائيل، وتالياً حملهم على العودة إلى الدول التي هاجروا منها.
هكذا تتلاقى مثل فكّي كمّاشة: الكراهية الغربية اللامحدودة لليهود، والتعاطف الغربي المحدود جداً للفلسطينيين.
يتجسّد ذلك في معادلة الدعم والتعاطف. الدعم لإسرائيل والتعاطف مع الفلسطينيين. وهي المعادلة المعقّدة التي أثبتت التجربة أنّها لا تولّد حلّاً، بل تزيد من حجم الاحتقان.. بحيث إنّها تجعل السلام مجرّد هدنات متقطّعة بين حروب وصراعات مستمرّة ومتواصلة.
الجيل الرابع من المقاومين يُصنع في غزّة
المقاتلون في قطاع غزة وفي مدن الضفة الغربية المحتلّة هم من أبناء الجيل الثالث بعد النكبة الأولى في عام 1948. وما حدث ويحدث اليوم في غزة والضفة الغربية يصنع الجيل الرابع الذي يتربّى على مقاومة الاحتلال الاستيطاني. وهذا يعني أنّ الصراع سيبقى يدور في حلقة اللاتسوية واللاسلام إلى ما شاء الله.
الحركة المسيحانية الصهيونية في الولايات المتحدة (كان من أبرز أركانها رؤساء سابقون مثل رونالد ريغان وجورج بوش الابن) تؤمن بأنّ الإرادة الإلهية سوف تعبّر عن نفسها بمعركة “هرمجيدون” التي لا تبقي ولا تذر من القوم الكافرين. والكافرون بالنسبة لهذه الحركة هم المسلمون والمسيحيون غير المتصهينين (مثل الكاثوليك والأرثوذكس والكنائس الإنجيلية الأخرى)، وأنّه بعد المعركة يعود المسيح (اليهود يقولون يأتي المسيح) ليحكم الأرض بعدل وسلام مدّة ألف عام (يسمّونها الألفية)، وبعدها تقوم الساعة!!
في ثقافة هذه الحركة الدينية الأميركية الواسعة النفوذ أنّ من شروط العودة بناء الهيكل اليهودي في القدس لأنّ المسيح سوف يعلن عن نفسه من الهيكل كما فعل في المرّة الأولى!.. ولذلك هذه الحركة هي أكثر استعجالاً على بناء الهيكل حتى من إسرائيل ذاتها.
أدّى الربط بين هذه النظرية الدينية ونقل يهود العالم إلى فلسطين المحتلّة إلى قيام إسرائيل ودعمها، الأمر الذي تطلّب تهجير الفلسطينيين (المسلمين والمسيحيين) ومحاولة إخضاعهم.
تقع غزة خارج هذا السيناريو، لكنّها تقع في صميم سيناريو المشروع الوطني الفلسطيني لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة.
من هنا أهميّة ما حدث ويحدث في غزة.. إنّه عنوان لمرحلة تاريخية جديدة مقبلة لم تتبيّن معالمها بعد.
المصدر: أساس ميديا
المقاومون بغزة وفي الضفة الغربية المحتلّة أبناء الجيل الثالث بعد نكبة 1948. واليوم يصنع الجيل الرابع بحرب غزة والضفة الغربية ، يحمل أمور مبدئية ثبتتها هذه الحرب المتوحشة وعهر ونفاق النظام العالمي وخذلان عربي وإسلامي وإقليمي بأنه لا يمكن المعايشة مع الكيان الصهيوني ولا يمكن تحقيق دولتهم المستقلة إلا عندما يكونوا أقوياء .