الوثيقة التأسيسية للجان إحياء المجتمع المدني في سورية

نشر فيما يلي الوثيقة التـأسيسية للجان إحياء المجتمع المدني في سورية التي أعلنت بدمشق في /14/4/ 2001 ضمن فترة ما سمي بربيع دمشق ، للتاريخ وللاطلاع.
”  تحتاج سورية اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى وقفة موضوعية لاستخلاص دروس العقود الماضية وتحديد معالم المستقبل، بعد أن تردّت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وأضيفت إليها تحديات العولمة والاندماج الاقتصادي، فضلاً عن تحديات الصراع العربي الإسرائيلي، التي تطرح على شعبنا وأمتنا مهام النهوض لمواجهتها ودرء أخطارها.
وانطلاقاً من إيمان صادق بالوطن والشعب وما يتوفران عليه من إمكانيات خلاقة وقوى حية، وحرصاً على التفاعل الإيجابي مع أي مبادرة جادة للإصلاح، تمس الحاجة اليوم إلى حوار شامل بين جميع أبناء الوطن وفئاته الاجتماعية وقواه السياسية ومثقفيه ومبدعيه ومنتجيه، للمشاركة في الفاعليات التي من شأنها أن تؤدي إلى نمو المجتمع المدني المؤسس على حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، وإلى بناء دولة حق وقانون تكون دولة حق وقانون تكون دولة جميع مواطنيها وموطن اعتزازهم، بلا استثناء ولا تمييز. فبلادنا اليوم في حاجة إلى جهود الجميع لإحياء المجتمع المدني الذي حرم ضعفه وإضعافه، في العقود الماضية، عملية النمو والبناء من قدرات وفاعليات وطنية مهمة وجدت نفسها مجبرة على الابتعاد عن الممارسة الإيجابية. وإن ما يكتنف مفهوم المجتمع المدني من التباس، ناشئ عن تعدد التجارب الديمقراطية في التاريخ القديم والحديث لا ينفي وجوده الواقعي عندنا بوصفه كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العالم. ولا سيرورة انتقاله المتعثرة إلى مجتمع عصري وحديث، التي أنتج مجتمعنا خلالها ثقافة متجددة وصحافة حرة ونقابات وجمعيات وأحزاباً سياسية وشرعية دستورية وتداولاً سلمياً للسلطة، حتى غدا من أقل الأقطار العربية تأخراً إن لم يكن من أكثرها تقدماً. وكانت تلك السيرورة ترقى بمجتمعنا إلى الاندماج الوطني والاجتماعي، إلى أن حدث ذلك القطع المؤسس على ” المشروعية الثورية” الانقلابية في مواجهة المشروعية الدستورية. ولم يكن ممكناً تهميش المجتمع المدني وتغييبه، على هذا النـحو، لولا تماهي السلطة والدولة، وتـماهي الشـخص والمنصب الذي يشـغله، وصبغ الدولة بصبغة الحزب الواحد واللون الواحد والرأي الواحـد، وجعلها دولـة جزء من المجتمع لا يعترف بجزئيته، بل يقدم نفسه ممثلاً للشعب و” قائداً للدولة والمجتمع” ويخفض المواطنة إلى مستوى الحزبية الضيقة والولاء الشخصي، وينظر إلى بقية المواطنين على أنهم مجرد رعايا. فغدت أموال الدولة، وثروات الوطن ومؤسسات المجتمع المدني أيضاً، كأنها إقطاعات وحيازات خاصة توزع على الموالين والأتباع، فحلّت الامتيازات محل القانون والهبات والعطايا محل الحقوق، والمصالح الخاصة محل المصلحة العامة، واستبيح المجتمع وانتهبت ثرواته، وتحكم من صاروا رموزاً للعسف والفساد بمقدراته، وغدا كل مواطن مشتبهاً به بل” مداناً وتحت الطلب”. وراحت السلطة تنظر إلى الشعب لا على أنه كم مهمل وموضوع لإرادتها فحسب، بل على أنه قاصر وناقص أهلية وموضع ريبة وشك، ولم يخل الأمر من تخوينه كلما بدرت منه بوادر التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تغييب المجتمع المدني أدى إلى تغييب الدولة، مما يؤكد العلاقة الجدلية بينهما، إذ لا يقوم أحدهما إلا بالآخر. فالمجتمع المدني هو مضمون الدولة الحديثة، والدولة الحديثة هي شكله السياسي، وهما معاً يشكلان النظام الديمقراطي. إن مجتمعنا الذي أنتج ثوراته الوطنية على الاستعمار، وحركته السياسية المناوئة للاستبداد السياسي، وأسفر عن وروحه الوطنية/ القومية المتوثبة إلى التحرر والتقدم، والذي صبر وصابر وقدّم الكثير الكثير من الشهداء والتضحيات في سبيل الحرية والكفاية والعدل، لا يزال قادراً على إنتاج حياته الاجتماعية والسياسية وإعادة بناء اقتصاده وثقافته وفق مقتضيات الحداثة ومنطق التقدم، والانطلاق في ركاب التقدم العلمي والتقاني. وهو قادر على تجاوز العلاقات والبنى التي أنتجت الاستبداد وتمفصلت مع الأوضاع الإمبريالية والتجزئة القومية التي نجمت عنها. لقد باتت واضحة للعيان نتائج الانقلاب على الديمقراطية السياسية باسم الاشتراكية. وتبيّن للجميع، مع انهيار النموذج السوفياتي واستطالاته في أوروبة الشرقية وفي ما كان يسمى العالم الثالث، استحالة بناء الاشتراكية أو بناء ديمقراطية اجتماعية بلا ديمقراطية سياسية. كما تبيّنت هشاشة الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من الشعب. وتبيّنت أكثر نتائج النظر إلى الشعب على أنه مادة أو موضوع ” للإرادة الثورية”، ونتائج إنكار أفرادية الواقع وتعدد مكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية وتنوعها، واختلاف مصالح فئاته الاجتماعية وتباينها، ومن ثم إنكار حقيقة أن القانون، بصفته ماهية الدولة وتعبيراً حقوقياً عن النظام العام، وبصفته تعبيراً عما هو مشترك بين جميع المواطنين وجميع الفئات الاجتماعية، هو تسوية تاريخية بين هذه المصالح وذلك الاختلاف، الذي يجب أن يكون قوام الوحدة الوطنية الفعلية. هذه التسوية التاريخية هي التي تنتج الدستور والمدونة القانونية بما يتسق وتطور النظام العام المتأثر، بالطبع، بإيقاع التطور العالمي، لذلك فإن الدساتير والقوانين تعدل وتطور أو تغير وفق مقتضيات هذا التطور. وعلى هذا فإن مفهوم المجتمع المدني الذي انبعث من جديد في سبعينات القرن العشرين، على صعيد العالم الذي ننتمي إليه، مكانياً على الأقل، كان ولا يزال يمثل بداهة الوجود الاجتماعي، منذ انتقل البشر من الطبيعة إلى الاجتماع، أي إلى العمران البشري والسياسة المدنية، بتعبير ابن خلدون. ومن صلب هذا المفهوم يتولد نسل مفاهيمي ينتج عنه ويشير إليه” العقد الاجتماعي” في مواجهة “الحق الإلهي” الذي ادعاه الأباطرة والملوك المستبدون لأنفسهم. وما هذا العقد سوى معادل سياسي للانقلاب العقلاني الذي جعل مركز المعرفة البشرية في الإنسان، فأنتج المجتمع الحديث والفكر الحديث والدولة المدنية الحديثة؛ التي تكفل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية كفالتها حرية الفكر، في ظل الاعتراف بالفرد ذاتاً إنسانية عاقلة ومستقلة ومالكة زمام حياتها ومسؤولة عن أفعالها وحرة في فكرها وضميرها، وبما ينتج عن هذا الاعتراف في حقل الممارسة من حرية محددة بالقانون ومشروطة بالمسؤولية تتوجها المبادرة الخلاقة وحب المعرفة والعمل مع الجماعة ومن أجلها. لذلك كله، تلح الحاجة اليوم إلى إحياء مؤسسات مجتمعية واجتماعية متحررة من هيمنة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية التي منحت نفسها جميع الصلاحيات، ومتحررة من الروابط والعلاقات والبنى التقليدية، كالمذهبية والعشائرية والطائفية ومستقلة عنها؛ وذلك لإعادة إنتاج السياسة في المجتمع بوصفها فاعليته الحرة الواعية والهادفة، ولتحقيق التوازن الضروري بين المجتمع والدولة وتنسيق وظائفهما في سبيل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة وتعزيز الوحدة الوطنية، من ثم توطيد هيبة الدولة وسيادتها وصيرورة القانون مرجعاً عاماً وحكماً للجميع. ففي نطاق المجتمع المدني، فقط، يمكن إطلاق حوار وطني شامل قوامه حرية الرأي والتعبير واحترام الرأي الآخر والاعتراف بما فيه من صواب، لتفعيل المشاركة الشعبية انطلاقاً من المشترك الوطني إلى المنفعة العامة والخير العام. فليس من حق أي فئة اجتماعية أن تقرر، وحدها، ما هي المصلحة الوطنية والقومية وما هي الوسائل والأساليب الكفيلة بتحقيقها؛ لذلك فإن على أي فئة اجتماعية أو سياسية، بما في ذلك السلطة الممسكة بدفة الحكم اليوم، أن تطرح رؤيتها وتصوراتها وبرنامجها على الشعب لمناقشتها والحوار حولها، وليس من حوار ممكن من دون حرية الرأي والتعبير ومن دون نقابات حرة وإعلام حر وأحزاب حرة ومنظمات اجتماعية حرة ومؤسسة تشريعية تمثل الشعب حقاً وفعلاً، وليس من إصلاح ممكن من دون حوار وطني شامل، فالحوار ينتج دوماً حقائق جديدة ليست لأي من المتحاورين، بل لهم جميعاً، لأنها قائمة فيهم جميعاً. ومنطق الحوار ينفي” منطق” احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية وأي احتكار آخر. لذلك ندعو إلى اعتماد مبدأ الحوار والنقد الإيجابي والتطور السلمي لحل جميع الخلافات بالتسوية والتفاهم، وهذه من أهم سمات المجتمع المدني ومزاياه. ولا تتجلى حيوية المجتمع المدني في شيء أكثر مما تتجلى في إنشاء تنظيمات طوعية غير حكومية مستقلة ومتنوعة جوهرها الخيار الديمقراطي وغايتها دولة حق وقانون تكفل الحقوق المدنية وتصون الحريات العامة. لذلك نرى في الدفاع عن المجتمع المدني دفاعاً عن دولته وعن السلطة الممسكة بزمامها. ولكي تثمر الإصلاحات الاقتصادية، ولكي تنجح عملية مكافحة الفساد لا بد أن يمهد لها ويرافقها إصلاح سياسي ودستوري شامل، و إلا فإن هذه الإصلاحات لن تحقق المأمول منها. لذا ينبغي أن تتحول عملية الإصلاح ومكافحة الفساد إلى آلية عمل قانونية دائمة تحفز المشاركة الشعبية وتعزز الرقابة والإشراف المستمرين على مؤسسات الدولة التي هي مؤسسات نفع عام، وعلى أنشطة القطاع الخاص أيضاً، في جو من الشفافية يتيح لجميع الفئات والقوى الاجتماعية والأحزاب السياسية فرص المشاركة الفعلية في التخطيط والإعداد والتنفيذ والتقويم، والتنبيه إلى الخطأ والهدر والفساد فور وقوعها، وتمكين القضاء والهيئات الرقابية من المساءلة والمحاسبة, فإن المعالجات الجزئية والاستنسابية والانتقائية لا تؤدي إلى الإصلاح. وإذ تنطلق رؤيتنا وممارستنا من اعتبار الإنسان غاية في ذاته، واعتبار حريته وكرامته ورفاهيته وسعادته هي هدف التنمية والتقدم، والوحدة الوطنية والمصلحة العامة مبدأين ومعيارين لجميع السياسات والممارسات، والمواطنين جميعاً متساوين أمام القانون، فلا تمييز بينهم، على أي اعتبار كان، ولا تفاضل في المواطنة؛ مادام التمييز والتفاضل ينتجان دوماً أصحاب امتيازات ومحرومين من الحقوق، ويبذران، من ثم، بذور التفرقة والشقاق، وينحطان بالعلاقات الاجتماعية إلى ما دون السياسة، وإذ تنطلق رؤيتنا وممارستنا كذلك من حقيقة أن السياسة الحقّة هي التي تنعقد جميع دلالاتها على المصلحة الوطنية/ القومية والإنسانية لا على المصالح الخاصة والفردية، وأن الإنجازات الوطنية تنسب إلى الشعب لا إلى الإفراد، وأن الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية إنما تتحدد بالكل الاجتماعي الوطني ولا تحدده، وأن الشعب هو مصدر جميع السلطات، فإننا نرى في الإصلاح السياسي مدخلاً ضرورياً ووحيداً للخروج من الركود والتردّي وإخراج الإدارة العامة من عطالتها المزمنة، وأن المقدمات الضرورية للإصلاح السياسي والتي لم تعد تحتمل التأجيل هي الآتية :
1 ـ وقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وجميع القوانين ذات العلاقة، وتدارك ما نجم عنها من ظلم وحيف. وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتسوية أوضاع المحرومين من الحقوق المدنية وحق العمل بموجب القوانين والأحكام الاستثنائية، والسماح بعودة المبعدين إلى الوطن.
2 ـ إطلاق الحريات السياسية، ولاسيما حرية الرأي والتعبير، وقوننة الحياة المدنية والسياسية بإصدار قانون ديمقراطي لتنظيم عمل الأحزاب والجمعيات والنوادي والمنظمات غير الحكومية، وخاصة النقابات التي حولت إلى مؤسسات دولتية ففقدت كلياً أو جزئياً الوظائف التي أنشئت من أجلها.
3 ـ إعادة العمل بقانون المطبوعات الذي يكفل حرية الصحافة والنشر، والذي تم تعطيله بموجب الأحكام العرفية.
4 ـ إصدار قانون انتخاب ديمقراطي لتنظيم الانتخابات في جميع المستويات، بما يضمن تمثيل فئات الشعب كافة تمثيلاً فعلياً، وجعل العملية الانتخابية برمتها تحت إشراف قضاء مستقل ليكون البرلمان مؤسسة تشريعية ورقابية حقاً تمثل إرادة الشعب، ومرجعاً أعلى لجميع السلطات وتعبيراً عن عضوية المواطنين في الدولة ومشاركتهم الإيجابية في تحديد النظام العام. فإن عمومية الدولة وكليتها لا تتجليان في شيء أكثر مما تتجليان في المؤسسة التشريعية، وفي استقلال القضاء.
5- استقلال القضاء ونزاهته وبسط سيادة القانون على الحاكم والمحكوم
6- إحقاق حقوق المواطن الاقتصادية المنصوص على معظمها في الدستور الدائم للبلاد، ومن أهمها حق المواطن في نصيب عادل من الثروة الوطنية ومن الدخل القومي، وفي العمل المناسب والحياة الكريمة، وحماية حقوق الأجيال القادمة في الثروة الوطنية والبيئة النظيفة. فإنه لا معنى لتنمية اقتصادية واجتماعية إن لم تؤد إلى رفع الظلم الاجتماعي وأنسنة شروط الحياة والعمل ومكافحة البطالة والفقر.
7 ـ إنّ الإصرار على أن أحزاب ”الجبهة الوطنية التقدمية” تمثل القوى الحيّة في المجتمع السوري وتستنفد حركته السياسية، وأن البلاد لا تحتاج إلى أكثر من” تفعيل” هذه الجبهة، سيؤدي إلى إدامة الركود الاجتماعي والاقتصادي والشلل السياسي؛ فلا بد من إعادة النظر في علاقتها بالسلطة، وفي مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع وأي مبدأ آخر يقصي الشعب عن الحياة السياسية.
8 ـ إلغاء أي تمييز ضد المرأة أمام القانون. وبعد، فإننا من منطلق الإسهام الإيجابي في عملية البناء الاجتماعي، وفي عملية الإصلاح، نتداعى وندعو إلى تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني في كل موقع وقطاع، هي استمرار وتطوير لصيغة” أصدقاء المجتمع المدني” علّنا نسهم، من موقع المسؤولية الوطنية، ومن موقع الاستقلال، في تجاوز حالة السلبية والعزوف، والخروج من وضعية الركود التي تضاعف تأخرنا قياساً بوتائر التقدم العالمي. وعلّنا نخطو الخطوة الحاسمة التي تأخرت عقوداً في الطريق إلى مجتمع ديمقراطي حر سيد مستقل، يسهم في إرساء أسس جديدة لمشروع نهضوي يضمن مستقبلاً أفضل لأمتنا العربية. “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى