نقاط القوة والضّعف التي كشفتها حرب غزة وأخواتها || لدى أطراف النّزاع..  والتّصعيد في الذروة

رياض قهوجي

كشفت حرب غزة أماكن الضعف والقوة في الجيش الإسرائيلي، كما أظهرت الاستراتيجية الإيرانية في تجهيز ميليشياتها في المنطقة حتى تتمكن من الصمود والعمل بفعالية في خدمة محور الممانعة عامةً، ومصالح طهران خاصةً. فهذه الحرب وما أنتجته من نزاعات عسكرية جانبية على الجبهة اللبنانية أو في البحر الأحمر أو في سوريا والعراق، أجبرت الأطراف المعنية على الكشف عن الكثير من أوراقها وهي تحاول جاهدة احتواء الوضع منعاً للانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة قد تؤدي إلى تضعضع قدرات المحور الإيراني وإفقاده بعض مصادر القوة الحالية التي يمتلكها. فاستمرار العمليات البرية الإسرائيلية بشراسة ومن دون هوادة رغم كل ما قامت به أطراف محور الممانعة باتت توحي بحجم كبير من اليقين لطهران بأن “حماس” ستفقد بنيتها التحتية العسكرية في غزة وتفقد السيطرة التي كانت تمتلكها في القطاع. وإذا ما تحقق ذلك، فإن إيران تكون خسرت الجبهة الجنوبية مع إسرائيل، وعليها التفكير ملياً بكيفية الحفاظ على الجبهة الشمالية، أي “حزب الله” في لبنان. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك مع ارتفاع سقف الخطابات من قيادات محور الممانعة ومن دون ضرب هيبتها ومكانتها أمام جمهورها؟

أبرز نقاط الضعف التي كشفتها حرب غزة في الجيش الإسرائيلي هي اتكاله المفرط على التكنولوجيا العسكرية على حساب قدرات القتال البشرية الميدانية. فالتكتيكات التي استخدمها في اقتحام مدن غزة ومخيماتها كانت تعتمد على استراتيجية الأرض المحروقة: تدمير كل شيء تمهيداً لتقدم القوات البرية داخل المدرعات، كون الجزء الأكبر من عديد الجيش الإسرائيلي هم من الاحتياط، وغالبيتهم لم تشاهد أي حروب مسبقاً. دخولهم في حرب شوارع ضد خصم شرس ومتمرس ويدافع عن أراضيه ويملك شبكات من الأنفاق كان امتحاناً صعباً. لذلك، لم تكن هناك دائماً اشتباكات من مسافات قريبة من جانب الإسرائيليين الذين كانوا يفضلون إرسال الطائرات المسيرة والحربية لقصف المجموعات الصغيرة من المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا بصدد نصب الكمائن أو مهاجمة المواقع الإسرائيلية. طبعاً، الهدف الأساسي من هذه الاستراتيجية هو إبقاء أعداد القتلى منخفضاً في صفوف القوات الإسرائيلية للحفاظ على دعم الرأي العام الداخلي للحرب. يذكر أن بين عشرة وعشرين في المئة من قتلى الجيش الإسرائيلي سقطوا نتيجة نيران صديقة.

وكشفت الحرب نعومة المجتمع الإسرائيلي. فإسرائيل اليوم ليست نفسها يوم ولادة الدولة العبرية والنصف الأول من القرن الماضي. فالمجتمع الإسرائيلي لم يعش حرباً حقيقية منذ فترة طويلة من الزمن. هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي يعتبر أخطر وأعنف هجوم على إسرائيل منذ حرب 1973. ولمدة نصف قرن عاش المجتمع الإسرائيلي معتقداً أن جيشه الذي لا يقهر يستطيع أن يضمن السلام والأمان من تهديدات خارجية. لذلك يعيش المجتمع الإسرئيلي في حالة من الخوف منذ 7 تشرين الأول، حيث يشعر أنه يواجه خطراً وجودياً. هذا الخوف هو ما أمّن الدعم الداخلي لاستمرار العمليات العسكرية رغم وجود أكثر من مئة أسير إسرائيلي في يد “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وارتفاع عدد الإصابات في صفوف القوات الإسرائيلية.

لكن حرب غزة منحت الجيش الإسرائيلي فرصة لكسب خبرة ميدانية ثمينة ستظهر أهميتها في أي حرب مقبلة. وبالإضافة إلى منح الجنود الإسرائيليين خبرة حقيقية في قتال الشوارع وقواعدها وكيفية استخدام أسلحتهم الحديثة بفعالية، فإن حرب غزة مكنت إسرائيل من امتحان دفاعاتها ضد أنواع متعددة من الصواريخ والمسيرات الهجومية والانتحارية. كما تمكنت دبابات الميركافا من امتحان منظومات الحماية الجديدة، وتحديداً منظومة تروفي، ميدانياً، وكشف نقاط ضعفها من أجل سد الثغرات للحروب المقبلة.

فتح الجبهة الشمالية لإسرائيل من جانب “حزب الله” سمح للجيش الإسرائيلي باكتشاف العديد من الثغرات في خطوط دفاع هذا الجيش، وأظهرت التكتيكات المبتكرة التي استخدمها “حزب الله” باستخدام الصواريخ الموجهة المضادة للدروع في استهداف تجمعات الجنود والقواعد العسكرية والآليات على أنواعها. كما أظهرت نوعية بعض الأسلحة التي طورها “حزب الله” مثل صواريخ البركان. وامتحنت إسرائيل فعالية منظومة القبة الحديدة ضد صواريخ “حزب الله” التي تعتبر أفضل من تلك التي في ترسانة الفصائل الفلسطينية.

أما بالنسبة إلى المجموعات المسلحة الخاصة بمحور الممانعة، فقد كشفت الأحداث الأخيرة أوجه التشابه في ما بينها من ناحية التسليح والتكتيكات والاستراتيجية العسكرية. فجميعها يعتمد استراتيجية الحرب الهجينة، أي استخدام أسلحة هجومية بشكل مترافق مع وسائل التواصل الاجتماعي لمضاعفة التأثير النفسي وتعزيز المكاسب السياسية، بغض النظر عن مدى فعالية الهجمات من الناحية التكتيكية الميدانية. فالهدف هو إظهار أن هناك محوراً يقوم بهجمات متناسقة ضمن ما يعرف بوحدة الساحات بما يجعل طهران تبدو كأنها قوة إقليمية بأذرع تطال كل أرجاء الشرق الأوسط، من الخليج إلى المحيط وحتى شرق البحر المتوسط. فرغم أن الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها الميليشيات الحوثية على إسرائيل لم يصل أي منها إلى هدفه، فهي تروج للهجمات وكأنها تغير مسار الحرب في غزة. كما أنها تظهر أن مهاجمتها سفن الشحن في البحر الأحمر تضر بالاقتصاد الإسرائيلي، فيما الضرر محدود على إسرائيل، وأكبر على دول أخرى، معظمها عربية تطل على البحر الأحمر. هجمات الميليشيات في العراق وسوريا لم تؤثر بأي شيء على إسرائيل، ونتائجها محدودة جداً ضد القوات الأميركية.

أما في ما يخص تسليح هذه الميليشيات، فهي متشابهة من ناحية الاعتماد على الصواريخ على أنواعها من كاتيوشا وغراد وبالستية وجوالة والمسيرات الانتحارية. وقامت إيران إما بتزويد هذه المجموعات بأسلحة من صناعتها مباشرةً، مثل ما يظهر ذلك في العراق وسوريا ولبنان، أو بتزويد هذه المجموعات بتكنولوجيا تصنيع هذه الأسلحة وتدريب كوادر محلية من هذه التنظيمات على تجميع هذه الصواريخ أو المسيرات وتطويرها. ولقد شهد العالم عبر الخمس عشرة سنة السابقة كيف تطورت صواريخ “حماس” مما تطلق عليه صواريخ القسام-1 التي لا يتعدى مداها السبعة كيلومترات إلى صواريخ بعيدة المدى تصل إلى تل أبيب ووسط إسرائيل. ولقد أنشأت مصانع تحت الأرض مكنت “حماس” من بناء ترسانة كبيرة من الصواريخ.

وقام الحوثيون بأمر مماثل، لكن على نطاق أكبر، فهم يصنعون اليوم صواريخ بالستية وجوالة ومسيرات يصل مداها إلى مئات الكيلومترات. طبعاً يبقى “حزب الله” أفضل هذه المجموعات تسليحاً وأكثرها خبرة، وهو لعب دوراً أساسياً في تصدير هذه التكتيكات والتكنولوجيا إلى ميليشيات محور الممانعة. لقد سلطت هجمات البحر الأحمر الضوء على الخطر الذي باتت تشكله الميليشيات الإيرانية على الأمن الدولي. لكن هل سيؤدي ذلك إلى تغيير سياسة الدول الغربية في التعامل مع طهران، أم ستستمر في سياسة المسايرة والصفقات؟

وما إن بدأت وتيرة الهجوم البري في غزة بالتراجع حتى ارتفعت وتيرة الغارات الإسرائيلية على الجبهة الشمالية، حيث بات واضحاً وجود نيات لدى بعض قيادات الدولة العبرية باستغلال الوضع لتوجيه ضربة قوية تستهدف تحجيم قدرات “حزب الله”. ولقد باتت الساحة اللبنانية اليوم مكشوفة كثيراً لإسرائيل التي لا تلتزم قواعد الاشتباك وتستغل الوضع لاغتيال قيادات ميدانية في “حزب الله” و”حماس”، وكأنها تريد استدراج الحزب لتصعيد هجماته بما يبرر فتح الحرب. هذا الواقع بات يتنافى مع استراتيجية “حزب الله” في فتح الجبهة وإبقائها ضمن إيقاع مضبوط بهدف الضغط على تل أبيب لوقف حرب غزة. فالواقع في جنوب لبنان اليوم لم يعد من الجانب الإسرائيلي مرتبطاً بحرب غزة، بل بات مرتبطاً بتأمين منطقة جنوب الليطاني وإبقاء “حزب الله” خارجها، حتى ولو بعملية عسكرية كبيرة. وما دام الحزب يربط استمرار فتح الجبهة بحرب غزة، فإنه سيبقي نفسه مكشوفاً لنيات إسرائيل التصعيدية.

لا خلاف في إسرائيل على ضرورة القيام بعمل عسكري ضد “حزب الله” بل الاختلاف هو على التوقيت، وما إذا كان يجب أن يرتبط بدعم أميركي مسبق. وعليه فإن مسألة فتح الجبهة ستكون مسألة وقت إذا لم تنجح الوساطات الدولية بالتوصل إلى حل دبلوماسي للمشكل في جنوب لبنان. طبعاً هذا أحد الملفات المتفجرة التي تمسك بها إيران اليوم نتيجة حرب غزة. الملف الآخر هو أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب حيث صبر المجتمع الدولي بات ينفد وتزداد معه احتمالية شن هجوم واسع على الميليشيات الحوثية من قبل التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لتأمين سلامة الملاحة في البحر الأحمر.

وما إن بدأ حلفاء إيران بقصف القوات الأميركية في العراق وسوريا الموجودة بهدف محاربة “داعش”، حتى ضربت الانفجارات الانتحارية بتوقيع “داعش” الساحة الإيرانية قرب مقبرة قاسم سليماني. كما هاجمت “داعش” أهدافاً للنظام السوري. وعليه، فإن التحركات العسكرية وردود الفعل عليها من أطراف النزاع في المنطقة مستمرة في وتيرة متسارعة ومتصاعدة، وتتسابق مع جهود واتصالات للوصول إلى حل دبلوماسي يبدو صعباً مع وجود لاعبين يأملون تحقيق مكاسب شخصية من طول الحرب أو توسعها لرفع ثمن التهدئة.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى