
تجمع عبارة “الديمقراطية الاستعمارية” بين حدّين متناقضين: كيف يمكن لدولة أن ترفع لواء المبادئ الديمقراطية، وهي في الوقت نفسه تمارس احتلالًا طويل الأمد ونظامًا قائمًا على الهيمنة والقمع والقتل بحق شعب محروم من كافة حقوقه؟ في الحالة الإسرائيلية، هذا التناقض ليس حادثًا عابرًا في مسار التاريخ، بل هو جزء بنيوي من تكوين هذه الدولة، يتغلغل في اقتصادها ومجتمعها وذاكرتها الجماعية وخياراتها السياسية.
تاريخ إسرائيل الحديث يكشف عن تحوّل واضح من نموذج جمع بين بعض النزعات الاشتراكية والهياكل التعاونية التي شكّلت حاضنة للمشروع الصهيوني، إلى دولة شديدة الليبرالية تتصدر معدلات النمو، كما تتصدر معدلات التفاوت الاجتماعي. كان قادة الحركة الصهيونية يدركون أن مشروع الاستيطان يحتاج إلى مجتمع منظم ومعبّأ ومؤمن بهدفه، أي إلى مستوطنين مستعدين للمشاركة في عملية اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم. أما اليوم، فالخطاب الرسمي بات يتحدث بوضوح عن ضمّ الأراضي، بعد تطهيرها من سكانها الأصليين، بلا مواربة.
لفهم هذا المسار، لا بد من الإشارة إلى ما يمكن تسميته بـ”الذاكرة المزدوجة” التي تطبع الوعي الإسرائيلي. من جهة، ذكرى المحرقة (الهولوكوست)، الحاضرة بقوة في التعليم والثقافة، لكنها كثيرًا ما تُفصل عن سياقها التاريخي وتُستثمر سياسيًا، محليًّا وعالميًّا؛ ومن جهة أخرى، النكبة الفلسطينية عام 1948، المحجوبة في الرواية الرسمية، لكن ظلها حاضر في الوعي الجمعي. كل إسرائيلي تقريبًا يعرف أن قرية عربية قريبة قد دُمّرت، حتى لو لم يُصرَّح بذلك علنًا. هذه الثنائية، بين جرح مُقدَّس وجرح مُنكَر، تؤثر في المواقف السياسية وفي نظرة الإسرائيليين إلى الفلسطينيين.
اقتصاديًا، تجمع إسرائيل بين نجاح اقتصادي لافت على المستوى الكلي ومعدلات تفاوت شديدة، إذ ترافق مؤشرات النمو مستويات فقر تماثل تلك الموجودة في الولايات المتحدة. هذا التناقض يعكس تركّز الثروة في أيدي قلة، وانتصار النيوليبرالية بلا ضوابط اجتماعية. حتى “قصة نجاح” دولة الشركات الناشئة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعسكرة المجتمع، حيث تأتي الكثير من الابتكارات التكنولوجية من ضباط سابقين في الجيش، المؤسسة التي تظل حجر الزاوية في الحياة الاقتصادية والسياسية. ومع ذلك، يواجه هذا النموذج اليوم تباطؤًا بعد طفرة استمرت عقودًا.
حتى الزراعة الإسرائيلية تحمل بصمة المشروع الاستعماري؛ فالنموذج المكثّف للكِيبوتسات قام على استغلال الموارد المائية الفلسطينية. ومع ذلك، تفرض الحقائق البيئية قيودًا تهدد استمراريته. أما الجيش، الذي اعتُبر طويلًا مؤسسة علمانية، فقد شهد في العقود الأخيرة تغلغلًا متزايدًا للتيارات الدينية، بما في ذلك الأوساط الحريدية، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى قدرته على التعامل مع مستوطنين متشددين ينتمون لتلك الأوساط.
سياسيًا وإعلاميًا، تتزايد الخطابات العنصرية ضد العرب -مسلمين ومسيحيين- ولا سيما في أوقات الأزمات: من قتل ممنهج في غزة، إلى اشتباكات في القدس، إلى عنف في الضفة الغربية. هذه الخطابات تجد قبولاً لدى قوات الأمن، ما يكرس عمليًا حالة من الإفلات من العقاب. بعض المسؤولين لا يترددون في تبني أعمال عنف علنًا ووصولاً إلى دعوات إبادة، في مناخ تصبح فيه الكراهية للعرب علامة هوية لدى جزء من الشباب الإسرائيلي.
هذه الممارسات تعكس المعضلة الجوهرية: لا يمكن للدولة -حتى في حدود 1967- أن تظل “يهودية” و”ديمقراطية” في الوقت نفسه، وهي تضم سكانًا عربًا يقتربون ديموغرافيًا من تشكيل الأغلبية على مجمل أرض فلسطين التاريخية. إما المساواة السياسية للجميع، ما قد يغيّر الطابع اليهودي للدولة، أو الإبقاء على الامتياز اليهودي على حساب ديمقراطية منقوصة للعرب. كثير من التحليلات ترى أن هذه البنية تمثل شكلاً من أشكال التمييز العنصري.
الانقسامات الداخلية لا تقتصر على الصراع مع الفلسطينيين؛ فهي تشمل التوتر بين العلمانيين والمتدينين، وبين اليهود الأشكناز والشرقيين، وبين المهاجرين القدامى والجدد، وكلها خطوط صدع تغذي النزاع الداخلي، بينما يظل الصراع الاستعماري هو الإطار الناظم لها.
يبقى البعد التاريخي والذاكرة في صميم المسألة: هل تعرف الأجيال الإسرائيلية الجديدة حقيقة النكبة؟ المقارنة مع حرب الجزائر في الذاكرة الفرنسية تكشف أوجه شبه: إدراك عام لوقائع العنف، لكن مع ميل إلى إنكارها أو تبريرها. وكلما كان المجتمع مشاركًا في الانتهاكات، ازداد استعداده لتبرير عنف الحاضر.
الجيش يظل ركيزة الدولة، ومع ذلك تواجه المنظمات التي تكسر الصمت -مثل “كسر الصمت” التي تعطي الكلمة لجنود سابقين يروون ما ارتكبوه- تضييقًا قانونيًا وسياسيًا متزايدًا، في مؤشر على حساسية المؤسسة العسكرية لأي نقد.
خارجيًا، رغم الإجماع الدولي شبه التام في الأمم المتحدة على إدانة الاستيطان، واليوم، إدانة الإبادة الجماعية في غزة، تواصل إسرائيل تلقي دعم غير مشروط من غالبية الحلفاء. تقارير المنظمات الحقوقية تصف بوضوح النظام الإسرائيلي بأنه نظام أبارتهايد، ليس في الضفة وحدها، بل على كامل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. كما بدأت تحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان تشمل اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
لكن، في المقابل، تزداد المسافة يومًا بعد يوم، بين السياسات الإسرائيلية والرأي العام في أماكن عدة في العالم، بما فيها داخل الجاليات اليهودية في الخارج. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تفصل غالبية الشباب اليهود بين هويتهم الدينية ودولة إسرائيل، ويرفضون الاستيطان.
هكذا، لا يمكن حصر تناقضات “الديمقراطية الاستعمارية” الإسرائيلية في معادلة الأمن مقابل حقوق الإنسان؛ فهي تمتد عبر النسيج الاجتماعي برمته: من الاقتصاد الرقمي إلى القضاء الديني، ومن الذاكرة الجمعية إلى السياسة الخارجية. وهي تناقضات مرشحة للتفاقم، ما دام منطق الهيمنة الاستعمارية والطموحات الديمقراطية يتعايشان في كيان واحد.
المصدر: المدن