بين فهم قوى الصراع وتبرير العدوان

د. مخلص الصيادي

 نشرت النهار العربي في عدد الأحد 7/ 1 / 2024 مقالا لسمير تقي تحت عنوان

“ماذا بعد غزة ودمشق والخرطوم وكرمان والضاحية”، عرض فيه رؤيته لمسار الأحداث في منطقة تغطي مسحتها كل هذه المنطقة التي يبدو أن مصطلح :الشرق الأوسط الجديد” يشملها، دولا وشعوبا، وجعلها منتظمة في سلك واحد، واعتبر ذلك كله يتحرك على إيقاع واحد. ومن خلال قوى جوهرها واحد.

وافتتح المقال بتذكر جلسة حوار  إقليمية عقدت في العقد الأخير من القرن الماضي أقيمت برعاية أوربية فيها من دعاهم بخبراء استراتيجيين ومؤرخين من إيران، وتركيا “واسرائيل”، تم خلالها بحث وضع منطقتنا العربية، وكان “التقي” مشاركا، وعرب آخرون في هذه الجلسة، وذكر أن هؤلاء الخبراء الذين وصفوا بالمستقلين  توافقوا على أن “العرب غير جديرين ببناء الدول وأنهم يعيشون كقبائل، ولم يكونوا أمما. ولا شعوبا. وأنه لا يمكن ضبطهم إلا تحت دولة مركزية إقليمية راسخة أخرى”. وقد أحسن  “التقي” حين أشار إلى أن “العبرة أن الجلسة كانت كاشفة لعقل الشركاء الاقليميين بعدئذ.

والحق أن المقال يضم بين جنباته مجموعة من المتناقضات صيغت وكأنها تمثل عناصر رؤية واحدة، وهي ليست كذلك. ورغم أن الإيحاء الأول يذهب في اتجاه أن صاحب المقال لا يساير منطق “الخبراء”، إلا أن حصيلة الرؤية التي يأخذ بها تتطابق تماما مع ذلك المنطق.

ومما يثير التساؤل في هذا المنطق الذي يقف وراء هذا المقال أن صاحبه يضع نفسه في معسكر “المعارضة”، وفي صف القوى التي رأت يوما ما خيرا في الحراك الثوري السوري، وفي تجليات الربيع العربي.

يمكن تتبع جزئيات المقال، وهي كثيرة،  لكن من المفيد أكثر أن نقف على نقاط مركزية فيه:

 1- د. سمير تقي باحث في مركز الشرق الأوسط للبحوث في واشنطن، كان قبل انفجار الثورة السورية، أي في أجواء انعقاد تلك الجلسة على علاقة طيبة، بالنظام السوري، والاسرائيلي معا، وذكرت الصحافة الاسرائيلية في حينها أنه كان يتولى حوارا بين الجانبين، ويمكن أن نفسر حضوره تلك الجلسة من موقعه المشار إليه. ومن علاقاته مع كلا النظامين السوري والاسرائيلي.

إن هذا الموقع الذي شغله التقي يفسر أيضا حدود علاقته مع تطورات الملف السوري، والمراحل التي مر بها.

2- وعنوان المقال ملفت للانتباه، ويعطي مؤشرا مهما لزاوية رؤيته للمسألة التي يعرضها، فأن يضع غزة ودمشق والخرطوم وكرمان والضاحية في زاوية واحدة، فهذا يعني أنه يرى الأحداث التي تمر في هذه الجغرافيا ذات طبيعة واحدة، القوى الفاعلة، والقوى المنفعلة، القوى مالكة الحق، وقوى العدوان، أي أن رؤيته في حدها الأدنى لا تتضمن وجود: معتدي، ومعتدى عليه، وهذه الزاوية خطيرة جدا، وكمثال لخطورة هذا الطرح  نشير إلى أن ما  يجري في غزة قضية لا يشبهها شيء، ولا تداخلها أي شائبة، وهي قضية شعب يبحث عن فرص الحرية، ويواجه بعدوان تعدى كل الحدود وبات يجسد “العنصرية، والإبادة  الجماعية، والتهجير القسري”، بشكل لا سابقة له، ولوضوح هذا الأمر وجلائه، ولبشاعة ما تقوم به حكومة تل أبيب  تحرك ضمير العالم. وتحركت الكثير من شعوب العالم الغربي التي كانت غارقة في الخوف من تهمة “معاداة السامية” التي عرف الصهاينة الغربيون كيف يستثمرونها  في كل الاتجاهات،  لكن يبدو  أن هذا الوضوح لم يحرك في رؤية الدكتور التقي شيئا مميزا، ما دفعه لجعل غزة وما تتعرض له والمشاهد الأخرى” كرمان، والخرطوم، والضاحية، ودمشق” في سلة واحدة.

وجعل المقاومة والمجاهدين مع المستوطنين الصهاينة في سلة واحدة.

3- يعتبر “التقي” أن ما وقف حائلا دون أن يعطي”الربيع العربي”أكله، أن “قوى القديم” أجهضت تلك الثمار. والقديم هنا هي كل  تلك القوى “الاسلامية، و القومية” الشعبوية التي تريد أن تعيد الماضي، والتي لم تفقه، ولم تعمل، على بناء الدولة الوطنية وقيمها القائمة على التعددية والمساواة وقبول الآخر. وإنما تريد أن تبني نموذجها على أوهام مضى زمنها ولا يمكن لها أن تعود.

ومثل هذا الطرح يفتقد البصيرة في رؤية “العامل الخارجي” ودوره في إجهاض محاولات النهوض القومية أو الإسلامية أو الإقليمية.  التي شهدتها عددا من الدول والمجتمعات العربية – وغير العربية-، ودوره المتعدد الأشكال في تخريب الربيع العربي. بمعنى أن هذه الرؤية تبرئ ذلك “الخارج” من مسؤولية ما آلت إليه تلك التجارب والمحاولات. ويبرئ الخارج من دور في إجهاض الربيع العربي، وهو دور لم يعد ينكره أحد.

ونحن حين ندقق النظر في  جذر هذه الرؤية فلن نراها جديدة، ولا غريبة، وإنما تتصل اتصالا مباشرا مع الرؤية الغربية لمنطقتنا ولأمتنا، بل ولعالمنا الاسلامي، وهو هنا يلتقي في رؤيته تماما مع ذلك المدخل الذي بدأ به وعرض من خلاله رؤية”الخبراء والاستراتيجيين” لمسار هذه الأمة وإمكانياتها. والتي خلصت إلى أننا لا نملك القدرة على بناء دولة. وأننا مجرد قبائل، وعشائر لا تمت بصلة ذات قيمة بمفهوم دولة المواطنة.

4- وهو فيما يطرح يظهر أنه يدافع عن “الدولة الوطنية”، وأنه يعيب على أولئك الإسلاميين والقوميين أنهم لم يروا في الدولة الوطنية شيئا يمكن الاعتزاز به أو العمل على إقامته، بل إن “الغوغاء، الراديكاليين” عملوا على خنق الدولة الوطنية.

وهو يعرض هنا مقولة هنري كيسنجر التي تفلسف دوافع التدخل الخارجي الاستباقي حين يقول: “أحد أكبر التحدّيات في السياسة الدولية، هو القدرة على التعرف على بذور الخطر الاستراتيجي قبل أن تنبت إلى أزمات كاملة”.

إنه وضع رؤيته الأولى بشأن “الغوغاء الراديكاليين” ، في السياق نفسه  لرؤية كيسنجر التي يتبناها  بشأن “التدخل الاستباقي، تصديا للخطر الاستراتيجي”.

والحق أن هذا المنطق منطق تبريري لقوى الطغيان العالمي، وفي الوقت نفسه منطق تبريري يفلسف سلوك النظم القمعية الإقليمية ما دامت تتصدى للغوغاء الراديكاليين.

5- في مسار عرضه لأفكاره يكرر الحديث عن الدولة الوطنية، دفاعا عنها، وذما لتلك القوى التي يرى أنها تناهضها، ثم هو يعرض حقيقة تاريخية بأن “الدولة /الأمة” التي باتت ركنا للدول المستقرة بعد أن دفعت هذه الدول وشعوبها ثمنا باهظا للوصول إلى هذه الثمرة. و في ختام عرضه لهذه الفكرة ينتقد بشدة الامبراطوريات السابقة العثمانية، والسوفياتية باعتبارها نماذج لدول الانحطاط الاجرامية   والدموية. واللاهوتية.

وسؤالنا الذي نطرحه هنا يخص تحديدا “الدولة الوطنية”، ما هي هذه الدولة الوطنية؟. ما طبيعتها، وما الأساس الموضوعي لقيامها.

النموذج الأوربي الغربي الذي يقدمه هو “الدولة / الأمة” التي جاءت حصيلة مخاض مكلف.

لكنه لا يعتمد هذا النموذج لدولنا، ومنطقتنا، لا يعتمد نموذج “الدولة / الأمة”، وإنما مفهوم الدولة الوطنية، وعند هذه النقطة لا يبدو هناك مفهوم للدولة الوطنية إلا تلك الدولة التي رسمتها قوى الاستعمار الغربي بعد أن تصدت للدولة العثمانية بمراحلها المختلفة.

ولسنا هنا بصدد تقييم الدولة العثمانية والحكم عليها، وإنما بصدد التعرف على المعيار المقدم للتعرف على “الدولة الوطنية”، التي يشدد عليها. ما هو الأساس في وجودها؟،

خطط ومصالح المستعمر الغربي، أم الأساس القومي الانساني والذي يتضمن بالطبيعة: الثقافة،  والدين، والحياة المشتركة، والتعددية، ومفهوم المواطنة.

المسألة هنا ليست حوارا في الفكر النظري، وإنما حوارا في الراهن، وفي  الاستراتيجيا والمستقبل.

القول باعتماد مخلفات الاستعمار ومصالحه يعني اعتبار وجود “الكيان الصهيوني” أمرا شرعيا طبيعيا” كشرعية أي دولة من دول المنطقة، مصر، سوريا، العراق، الأردن، المملكة العربية السعودية…الخ.

 أما اعتماد أي أساس آخر فإن يجعل هذا الكيان خارج  “قوس”، وفي الوقت نفسه، يجعل الدول الأخرى رهينة ما تقرره شعوبها وتعتمده من روابط تجمعها. وما يمكن أن تتولد عن هذه الروابط من أشكال من التعاون أو الاتحاد. أو التآلف.

6- بعد ما سبق بشأن الدولة الأمة، والدولة الوطنية، قد يفيد هنا أن نقف وقفة سريعة على مسألة الشرعية، شرعية الدولة/ السلطة، من أين تستمد،؟

وعلى أساس هذه الشرعية يمكن أن نتحدث ونقيم “الامبراطورية العثمانية” التي أتى عليها بازدراء، ويمكن أن نفهم لماذا لم ينظر المجتمع المحلي، وكتابه، ومثقفيه، إلى الدولة العثمانية وقبلها المماليك، والأيوبيين، والزنكيين  باعتبارها دول مستعمرة أو معتدية أو غازية، وفي الوقت نفسه نظروا الى المغول، والتتار، والافرنجة، ومن ثم دول الغرب الحديثة باعتبارها دول استعمارية غازية طاغية.

التدقيق هنا لا يستهدف العمل على استعادة  “بناء خلافة عثمانية، أو غير عثمانية”، وإنما فهم ما كان، لأن مثل هذا الفهم سيدخل بالتأكيد في تصورات بناء المستقبل.

كان مهما للتقي أن يلاحظ أن “الاتحاد الأوربي”، وهو بناء فوق قومي، وإطار تفاعل وعمل، لم يتحقق إلا بين دول حققت وجودها القومي أي بين مجموعة “الدولة / الأمة”، وأن الاتحاد السوفياتي حينما تحلل لم يتحلل إلا إلى “دولة/ الأمة”،  سقط القسر الذي أقامته دولة السوفييت، فاستعادت كل دولة أمتها. أو كل أمة دولتها.

7-  لنختم التعليق على مقال التقي بالتدقق في هذا مقطع من مقاله فإنه يلخص مجمل موقفه، وطبيعة انحيازه، والزاوية التي ارتضاها لموقع قدميه، وكيف أنه جمع المقاومة والمجاهدين ووضعهم في سلة واحدة مع المستوطنين الصهاينة، باعتبارهم جميعا “غوغاء”، يقول :

“لنتأمل مشهد منطقتنا اليوم. من غزة إلى القدس، وبغداد، إلى صنعاء إلى الضاحية إلى دمشق والخرطوم وكرمان، يصعد الجنس ذاته من الغوغاء…إنّهم رعاع القرن الحادي والعشرين، سواءً تمثلوا بعصابات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، أو جحافل المشاريع الإسلاموية أو القومية المتناحرة. إنّهم يقتاتون جميعاً على جسد الدولة الوطنية، ليعيدوا إقليمنا “أقواماً وقبائل” كما سبق أن حصل في تاريخنا (وكما قال الخبراء الإقليميون)… لنمضي نياماً نحو عصور جديدة من الانحطاط، فلا دول، بل دويلات، للميليشيات”.

باختصار هذا الفكر. وهذه الرؤية التي يطرحها علينا “التقي”، هي وبكل الاعتبارات ليس لها أي صلة إيجابية بناءة بقضايانا، وبأمتنا. وبتطلعاتنا، وبما يصلح لنا لنقيم عليه مستقبلنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى