
تكتسي زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، والوفد المرافق له، موسكو أهميتها الخاصّة، ليس لأنها الأولى من نوعها بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بل لأنها محطّة مهمة في اتجاه إعادة رسم علاقة سورية الجديدة مع روسيا وفق محدّدات وأسس جديدة، عنوانها مُستمَدّ من البراغماتية السياسية التي تنهض على رؤية توازن بين مصالح البلدَين، والواقعين الجيوسياسيين، الإقليمي والدولي، وتجد مسوّغاتها لدى الإدارة السورية الجديدة ممّا تفرضه ضرورات الواقع السوري والظروف الإقليمية والدولية، وما تمثّله روسيا على المستوى الدولي، وذلك على الرغم من أنّها كانت أحد أكبر داعمي نظام الأسد، وتدخّلت عسكرياً في 30 سبتمبر/ أيلول 2015 دفاعاً عنه.
جاءت الزيارة تتويجاً لمسار بدأ منذ سقوط نظام الأسد، وشهد اتصالات للقيادة الروسية، ومحادثات مع نظرائها الدوليين، إلى جانب اتصالاتها مع الإدارة السورية الجديدة عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية، وبالتحديد عبر السفارة الروسية في دمشق وممثّلي القوات الروسية في قاعدة حميميم. وكانت لافتةً المكالمة التي أجراها الرئيس الروسي بالرئيس السوري أحمد الشرع في 12 فبراير/ شباط الماضي، التي أكّد فيها عزمه تقديم المساعدة لتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سورية، كما أبدى فيها استعداده لإعادة النظر في الاتفاقات التي أبرمتها روسيا مع نظام الأسد البائد. وزار نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، دمشق في يناير/ كانون الثاني الماضي، بهدف سبر مواقف الطرفين ومعرفة تصوره لمستقبل العلاقة بين البلدَين، ودشّنت الزيارة مسار تفاوض بينهما، ينهض على استعداد الإدارة الجديدة لمناقشة آليات جديدة للتعاون، تماشياً مع رغبتها في عدم الاصطفاف مع أيّ محور، ورفضها الانجرار نحو مواجهات مع أيّ طرف، وطمأنة الطرف الروسي بشأن مناقشة ترتيبات جديدة لوجوده العسكري في قاعدتَي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، مقابل مجموعة من المطالب التي قدّمتها للقيادة الروسية، من بينها تعاون موسكو في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية عبر رفع الغطاء عن رموز النظام السابق، وإعادة الأموال المنهوبة التي هرّبوها إلى روسيا، وإعادة النظر في الاتفاقات الموقّعة في عهد النظام البائد.
تريد روسيا الحفاظ على وجودها العسكري في سورية لتأمين الإمدادات والاحتياجات اللوجيستية إلى مناطق نفوذ روسيا في القارة الأفريقية وسواها
أبدى الطرف الروسي في أكثر من مناسبة استعداده للعب روسيا دوراً إيجابياً في الملفّ السوري الداخلي خلال المرحلة الانتقالية، خاصّة في ما يتعلّق بالوضع في شمال شرقي سورية، حيث تتمتع موسكو بعلاقات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، انطلاقاً من إعلانها الوقوف مع وحدة سورية وسيادتها، وتأييدها جهود الإدارة السورية الرامية إلى “تحقيق الاستقرار السريع للوضع في البلاد بما يخدم مصالح ضمان سيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها”. إضافة إلى تعويل الإدارة السورية على استخدام روسيا نفوذها، بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي للمساهمة في رفع العقوبات الأممية المفروضة على سورية، والمساهمة في إعادة تأهيل بناها التحتية، واحتمال إعفائها من الديون المُستحقَّة، وذلك في إطار مساعدتها في مواجهة التحدّيات الاقتصادية والمعيشية. وفي المقابل، تريد روسيا الحفاظ على وجودها العسكري، بالنظر إلى أهميته الاستراتيجية والمعنوية، وذلك من أجل تأمين الإمدادات الروسية والاحتياجات اللوجيستية إلى مناطق نفوذها في القارة الأفريقية وسواها. غير أن البراغماتية السياسية التي تبديها الإدارة السورية في علاقاتها الدولية، لا تلغي ضرورة مراجعة العلاقة الروسية السورية في الفترة السابقة، إذ تحوّلت العلاقة الروسية السورية إلى نموذج من التبعية الكاملة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، إذ فتح النظام السابق الأراضي السورية للقواعد العسكرية الروسية، ووقع اتفاقات طويلة الأمد لمصلحة موسكو، مقابل حمايته سياسياً وعسكرياً من الانهيار. وأخذ النفوذ الروسي يتقنَّن من خلال اتفاقات وصفقات ومذكّرات تفاهم طويلة الأجل، أبرزها توقيع شركة ستروي ترانس غاز (CTG) الروسية الخاصّة عام 2019 عقداً يتيح لها استثمار مرفأ طرطوس مدّة 49 عاماً، إلى جانب هيمنة روسيا على استخراج فوسفات سورية، وصولاً إلى توقيع اتفاقيَّتَين في عام 2017، بين الروس ونظام الأسد، تمنحان روسيا حقّ استخدام القواعد العسكرية الروسية في سورية مدّة 49 عاماً، مع إمكانية التمديد التلقائي إلى 25 عاماً أخرى.
يمكن تفهّم سعي الإدارة السورية إلى صفحة جديدة في العلاقة مع روسيا، لكن ذلك لا يمنع جردة حساب لانتهاكات الماضي
استغلّت روسيا الاتفاقات التي وقّعتها مع نظام الأسد من أجل التوغّل في الدم السوري، لذلك من الضروري مكاشفة الطرف الروسي في انتهاكات قواته وتعدّيها على حقوق السوريين، وما خلفته آلته العسكرية من دمار وخراب كبيرين، وحثّه على ضرورة التعاون في ملفّ العدالة الانتقالية، الذي يقتضي تسليم من ارتكبوا جرائم من رموز النظام الذين تؤويهم موسكو، وفي مقدّمتهم بشّار الأسد، بغية محاكمتهم، إنصافاً للضحايا السوريين. والأكثر أهمية مكاشفة الداخل السوري في الدور الروسي الذي لعبه عشية سقوط نظام الأسد، إذ تدّعي سرديته أنه نقل الأسد إلى موسكو بناء على “توافقات”، تضمّنت أيضاً إلقاء جيش نظام الأسد السلاح، وفتح الطرق أمام تقدّم فصائل “غرفة ردع العدوان”، بهدف “حقن الدماء وعدم السماح باندلاع حرب أهلية طاحنة”.
يمكن تفهّم سعي الإدارة الجديدة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقة بين سورية وروسيا، لكنّ ذلك لا يمنع القيام بجردة حساب لما اعتراها في الفترة السابقة، إذ ارتكبت القوات الروسية في سورية انتهاكات صارخة خلال سنوات الحرب إلى جانب نظام الأسد البائد. كما لا يبرّر النهجُ الواقعيُّ السكوتَ عنها أو القفز من فوقها، وذلك على الرغم من أن القوى الدولية المهيمنة لا تقدّم اعتذارات عن الجرائم التي اقترفتها قواتها في البلدان الأخرى. ويصعب تصوّر أن تقدّم روسيا أي اعتذار إلى الشعب السوري، وربّما لن تتعاون في ملفّ العدالة الانتقالية، وأقصى ما تقدّمه هو تطمينات بأن بشّار الأسد، وسواه ممَّن تؤويهم موسكو، لن يكون لهم أيّ دور سياسي، وأن “وجودهم الإنساني” فيها لا يخوّلهم الحقّ في الإدلاء بتصريحات أو القيام بنشاط سياسي من الأراضي الروسية، ومن ثم يعتبر الساسة الروس أن قضية تسليمهم محسومة بالنسبة إليهم، ويبرّرون موقفهم بما يتوافق والسردية التي يقدّمونها بشأن الترتيبات التي حصلت عشية سقوط نظام الأسد.
المصدر: العربي الجديد