تعرفت عليه فراس المحيثاوي أو (نزار المسكاوي) اسم الشخصية المحورية في روايته، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولأنه من شباب الثورة الأوائل الذين هزموا الخوف داخل نفوسهم، وبدؤوا كتابة سطور عصر الحرية لسورية بدمائهم واجسادهم اعتقالا و قتلا وسجنا وتعذيبا… وتشرد اخيرا…
لذلك اهتممت ان اقرأ روايته مقهى المسنين (رحلة البحث عن دمشق) . بشغف لأن الثورة السورية عنت لي كما عنت له، ولأني غُصت في أكثر الكتابات المتعلقة بهذه الثورة المغدورة روايات وشهادات شخصية وكتب ، لذلك اصريت عليه أن اقرأ ما دوّنه حول تجربته الشخصية وما عاشه، وعدني بأنه سيرسل ما كتبه والتزم. وصلني مشروع روايته: مقهى المسنين، وها أنا ذا أكتب عنها ما ترسّب منها داخل ذاتي.
منذ بداية الرواية يؤكد صاحبنا الكاتب أنه يتحدث عن أحداث حقيقية حدثت معه بدقة، وخاصة فيما يتعلق باعتقاله ومشاركته في الثورة وسجنه.
يحدد صاحبنا شخوص روايته بأربعة أساسيين نزار المسكاوي والوراق ودمشق الموصلية و العجوز الثمانيني.
كتبت الرواية بلغة المخاطب أو المتكلم او الغائب حسب المقام.
لا زمان سردي متتالي في الرواية لنقل انها خليط من تداعيات الكاتب عن نفسه وما عاش، فهي شهادته الشخصية كما هي روايته.
لم نستطع معرفة الكثير عن نزار المسكاوي، يسكن في بلدة جرمانا في ريف دمشق. يعمل في بيع الكتب المستعملة، له شبه غرفة مكونة من الكتب تحت جسر الرئيس في دمشق. كما أنه يبيع الكتب متجولا، لذلك لُقّب بالوراق ، مغرم بالكتب والروايات والشعر إلى درجة التعلق، يعيش معهم، فهم عالمه الحقيقي. يحاول أن يقرأ اي كتاب او رواية او شعر يقع بيده، لكنه لا يستطيع قراءة كل ما عنده، يعتمد على شراء وبيع الكتب المستعملة، تلك التي يلفظها أصحابها ولا يعرفون قيمتها. يكتفي أحيانا من قراءة نبذة عن الرواية وما كُتب على غلافها الخارجي.
حبه لدمشق الى درجة الشغف شديد جدا، حتى ان حبيبته التي احبها اسمها دمشق الموصلي، هل هو تلبيس لدمشق الانثى حب المدينة العريقة، ام تلبيس دمشق للانثى المحبوبة بحيث أصبحتا في وجدان نزار الحب الأجمل ومركز الفرح والنور في حياته.
خطأ نزار الأكبر في حياته كان زواجه من تلك الشاعرة المدّعية التي تعرف عليها في أحد المراكز الثقافية في دمشق، ومن ثم تزوج منها لتصبح لطخة الألم في حياته. أدرك منذ أول زواجه محنته بذلك الزواج. وهي أيضا رفضته ووعدته انها ستنتقم منه ، وهكذا حصل. لقد أخبرت الأمن عنه ليعتقلوه متلبسا في كتابة حرية على جدار قلعة دمشق في أيام الثورة الأولى ربيع ٢٠١١م.
حكاية نزار مع الثورة تشبه لقاء المحب لحبيب فقده منذ عقود، الحرية والعدالة ومواجهة الاستبداد والهيمنة هواجس تعيد انسانية الانسان. لذلك تصرف نزار دون رهبة أو خوف ودفع الثمن اعتقال وتعذيب وسجن . لم يتوسع صاحبنا بالحديث عن الاعتقال والتعذيب وظروفه، رغم كونه يستحق ان يوثَّق لنعرف حقيقة النظام المجرم للاجيال القادمة ولكي لا يسقط ألمنا وما عشناه بالتقادم ولكي لا ننسى…
تنقّل صاحبنا بين شخصياته باقتدار المتمكن من اللعبة الروائية. ولو أنه كرر على مسامعنا بيانه الأول الذي كتبه والذي استمر يعيده علينا على طريقة أنا هنا حتى آخر الرواية. وكأنه يريد أن يغير مسار الكتابة المتعارف عليه في الرواية. أراد الفرادة لكنه أوقعنا في التشتيت احيانا.
مولع صاحبنا بالشعر، يراودنا شعور ونحن نقرأ الرواية أن نزار الوراق الثمانيني ينتقل بلهفة بين كتاب و رواية وديوان شعر في ذات اللحظة، يتحفنا ببعض منه كل حين.
يعيش صاحبنا هوس كتابة روايته التي تؤكد وجوده الذاتي النفسي والمعنوي والمعرفي في الوجود…
أما دمشق الموصلي فهل هي انثى مترعة انوثة قد اشبعته بجسدها، وحسها العالي لتفرده. فيها الكثير منه وفيه بعضها. الهوس بالكتب . كانت ضوئه وفرحه المخبوء في جرار النفس. معها احس انه انسان كامل. خاصة انه ممتلئ أساسا من زوجته و تبجحها. ومن خيانتها له بعد ذلك، حيث أبلغت الأمن عن نيته الكتابة على حائط القلعة مؤيدا لثورة الحرية. لكن فرحته لن تكتمل حيث يفتقد دمشق الحبيبة وتفتقده هي ايضا بعد ان يعتقل وتنقطع اخباره عنها. هل اعتقل وعذب وسجن وقد يكون مقتولا مثل كثيرين التقاهم صاحبنا كنماذج في سجنه. الذي دون دفنه قبل الموت في براد الموتى والآخر الذي قتل بالمظاهرة وحضر قريبه ليخبر عنه، كذلك حال آلاف السوريين الذين ثاروا وهم يحملون ارواحهم على اكفهم الأغلب قضى وهو ينصر ثورة مغدورة لن يرى جنى ثمارها…
دمشق المدينة الحبيبة بيت صاحبنا النفسي امانه وذاته المنطلقة وفضاء عيشه الذي يعبق بالسحر والتاريخ والمجد… يفتقدها كما يفتقد ذاته كثيرا.
كثير ممن وثّق للثورة يتحدث عن ضعف وعجز من تصدى لتمثيلها وحتى من باع واشترى فيها من القوى الدولية والإقليمية. وبالنتيجة استبيح الشعب السوري قتل وتشريد وتدمير للبلاد…
في الرواية شذرات من كل هذا ، تحاول صناعة فرادتها… لعلها نجحت، لكنها بالتأكيد دخلت في وجداني كقارئ وجعلتني اعيش حميمية العلاقة مع صاحبنا. فنحن متفقين على كثير مما عاشه. العشق المطلق للكتاب والقراءة والاطلاع والاقتناء… وليس آخرا الانتماء المطلق لثورة السوريين المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل…
صحيح أننا لم نتقدم لتحقيق ذلك اي خطوة لكننا كسرنا حاجز العبودية وولد الإنسان الحقيقي منا وفينا وبدأنا السير على طريق الحرية…
١٤ . ٦ . ٢٠٢٣م.