ليلى سليماني روائية فرنسية من أصول مغربية، وروايتها هذه كتبتها بالفرنسية، ومن أجلها حصلت على جائزة غونكور الفرنسية عام ٢٠١٦م.
تبدأ الرواية – بطريقة الخطف خلفا- على طريقة السينما من الحدث النهائي وتعيد سرد الرواية لتصل للنتيجة التي بدأت منها. الحدث الصادم هو قتل المربية لويز للطفل “آدم” ولأخته “ميلا” في بيتهما في الحمام . الرواية تتكلم عن اسرة فرنسية تتألف من الزوجين مريم الفرنسية ذات الأصول المغربية، وزوجها بول، وطفليهما، آدم وميلا، والمربية لويز. الاب بول يعمل في مجال الإخراج الفني والغنائي، الام مريم خريجة الحقوق لكنها لا تعمل للان، ظروف حياتها الزوجية وحملها المبكر جعل امكانية عملها بالمحاماة مؤجلة وغير ممكنة ايضا، كانت الطفلة ميلا ابنتهما الأولى، ملأت على الأسرة حياتهم، صحيح أن انغلاق حياة مريم على طفلتها جعلتها تحسّ ان حياتها شبه فارغة وانها مفتقدة للانتاجية، وتدور في حلقة حياة ضيقة، الأمومة هدأت من احاسيسها السلبية لكنها لم تلغها تماما، وزاد من عبء ما تعيشه مريم حملها الثاني الذي ستنجب على أثره ابنها آدم، مما جعل مريم تتفرغ بشكل كامل لطفليها و لحياتها العائلية، لكن ذلك لن يكون كافيا نفسيا لها، فهي ترفض ان ترمي وراء ظهرها حلما بأن تكون محامية كبيرة، وان تكون مجرد ام تنتهي حياتها في رعاية أولادها والاهتمام في شؤون البيت “التافهة” التي لاتنتهي وتجعل حياتها فارغة وبلا معنى، هذا عدا عن عجز زوجها بول بمفرده أن ينتج للاسرة ما يجعلها تعيش حياة أكثر رفاهية. ويضاف الى ذلك لقاء مريم مع احد زملائها الذين تخرجوا معها من الجامعة واخباره لها بأنه يمارس مهنة المحاماة وان لديه مكتب وفريق ويسعده ان تكون من فريقه، نعم أن مريم كانت متفوقة في الجامعة وستكون محامية بارعة. تداولت مريم بالامر مع زوجها بول حول ضرورة ان تبدأ بالعمل في مهنة المحاماة، لكن هناك مشكلة أطفالهما وكيفية رعايتهما، وبدؤوا البحث عن مربية مناسبة، تهتم بالأولاد في فترة غيابهما في العمل كل يوم. اعلنوا عن حاجتهم لمربية وحضرت كثير من النساء وبعد بحث واختبار وسؤال وقع اختيارهم على المربية لويز، لويز المرأة ذات السجل الجيد، شهادات من عملت عندهم كلها جيدة، استطاعت أن تدخل حياة الاسرة بسهولة، وسرعان ما استحوذت على قبول ومحبة الأطفال، ورضى مريم وبول. لويز تصرفت مع الأسرة وكأنها اسرتها، وقامت بأكثر مما يطلب منها، فزيادة عن الاهتمام بالاطفال ورعاية شؤونهم، اهتمت بالبيت ونظافته، ودخلت المطبخ وبدأت تعد الطعام، ثم أخذت تهتم بكل شؤون البيت من نظافة وغسيل وطعام وغيره، كان ذلك يحرج مريم وزوجها ويخجلهم، لكنه يعجبهم ايضا، كانت تعمل أكثر من الوقت المطلوب وأحيانا تتأخر مساء في الاهتمام بالأطفال والبيت وتنام في غرفة الأطفال بجوار اسرّتهم. لكن من هي لويز هذه؟. الرواية تعتمد طريقة المقاطع الصغيرة المتتابعة والمنتقلة في رسم حياة أبطال الرواية، دون ضابط في الزمان او المكان او الاشخاص، انها تعتمد السرد المتراكم الذي ينضج معرفة الحدث الروائي بمزيد من الاطلاع حتى تكتمل الرواية معنى ومبنى مع آخر سرديتها المكتوبة. لذلك سنلتقط حياة كل شخصيات الرواية عبر سردها المتكامل، ونحن هنا نعيد كتابة حياة الشخصيات بشكل مركز. المهم أننا لا نعرف عن لويز إلا أنها ذات طفولة فقيرة ومؤلمة، حياتها عذابات متتالية، سنعرف أنها حملت في سن مبكرة وأنجبت طفلة لا نعرف من والدها، ستكبر هذه الطفلة وعندما تنضج ستكون عبئا على والدتها، لا تهتم بدروسها، تتعاطى الدخان والمشروبات الروحية والحشيش والمخدرات، تطردها المدرسة التي كانت بها، وسرعان ما تترك والدتها دون وداع وتذهب دون عودة، ستتزوج لويز من جاك يظهر أن إمكانياته المادية متواضعة وحياتهما بسيطة، لكنها تجد معه وفي بيتهما المشترك بعض امان وحياة، رغم كونه مدمن كحول وعليه مديونية كبيرة بما فيها اجار البيت المتراكم دوما. لذلك كان عمل لويز في خدمة البيوت او مربية طوال الوقت لتهرب من حياتها وتؤمن بعض المال ليخفف عنها وعن زوجها بعض العبء الاقتصادي. لكن جاك سيموت مبكرا ويترك لها ديونا متراكمة تلاحقها أينما كانت. انتقلت لويز إلى شقة صغيرة لتخفف عنها المصاريف، خاصة بعد موت زوجها ومغادرة ابنتها. كانت حياتها في بيت عائلة مريم بديل إنساني كامل عن ما تفقده من امومة تعوضها في الاولاد، وأمان لا تراه في بيتها الفارغ البارد، وفي اسرة مريم بديلا عن أسرتها التي لم تعد موجودة. لذلك نراها تقوم بكل الأعمال دون تكليف وطواعية محببة وحب ايضا. اعتبرت مريم وزوجها أن وجود لويز في حياتهم كعائلة وخاصة في حياة الأطفال هدية من السماء. لكن لويز غير متوازنة نفسيا بما فيه الكفاية، فهي دائمة الخوف ان تعود حياتها الى ما كانت عليه دون عمل ووحدة قاتلة، ديون تطاردها حيث تذهب، حتى بيتها التي استأجرته تعاني من مالكه ومطاردته المستمرة لتهتم في بيته وتعطيه الايجار الشهري دوما في أوقاته المفروضة. حياتها السابقة من طفولة معذبة وحياة اسرية سيئة، وابنة جاءت من علاقة لا شرعية، الابنة الهاربة المنحرفة، الزوج الذي مات وترك وراءه كل سلبياته وخاصة ديونه، لويز راجعت طبيبا نفسيا وأعطاها بعض العلاج. لويز هذه كانت تخاف أن تخسر حياتها التي احبتها في كنف اسرة مريم وبصحبة الاطفال آدم وميلا، وبما أن الاطفال بدؤوا بالكبر فقد اعتقدت لويز ان وقت الاستغناء عنها أصبح قريبا، فقد املت وعملت ان تعاود مريم الحمل والانجاب لكي تستمر الحاجة لها وتستمر بالعيش عند مريم وأسرتها ومع أطفالها، لكم ذلك لا يحصل، وتبدأ تسيطر هواجس مرضية على لويز بانها لا بد أن تطرد يوما، تتراكم هذه المشاعر في نفسها الى مرحلة عدوانية على الطفلين نفسهما، وهذا ظهر في بعض أوقات حياتها معهما، لكن الخاتمة المأساوية ستكون عندما تقتل الطفل والطفلة مع العابهم في حمام البيت، ويحضر الاهل على هول الكارثة، الطفلين ماتا، ولويز تذهل وتغيب عن ادراك ما حصل ولا تجيب عن ما فعلته، أنها في عالم آخر خارج عالم العقل الذي يمكن أن يحاكم ويسأل ويجيب. تنتهي الرواية بتقرير الشرطية المسؤولة التي تحاول مقاربة ما حصل وإغلاق ملف المأساة التي حصلت.
في تحليل الرواية نقول:
اننا امام رواية تستحق جائزتها، انها ابنة الواقع الغربي بكل تفاصيله، حالة أبناء المجتمع بطبقاته، غنيه وفقيره، الطموحات، الواقع المؤسي للطبقة الدنيا، ابناء الفقر، حقيقة التناقض بين الطموحات واستحالة توافقها مع احتياجات الاسرة، مبنى الرواية التي تتغلغل عميقا في تفاصيل نفسية شخصيات روايتها، مجيبة عن تساؤل مهم: لماذا تصرفت هذه الشخصية بهذا الشكل؟. وفي الختام الرواية تريد القول ان ظاهر الحياة الرغيدة للإنسان في الغرب تخفي في ثناياها فقر وألم ومعاناة ووحدة موحشة وفقدان امان وجريمة وضياع، تريد القول إن إنسانية الانسان ترتبط بحياة حرة وكريمة وعادلة وامان العيش وصناعة المستقبل والحياة الأفضل، في غياب شروط حصول ذلك سيكون هناك فقر وجريمة وتفشي المخدرات وضياع أسري وجريمة ايضا.
وهذا ما تحاول حركات السترات الصفراء في فرنسا والغرب الان ان تعبر عنه: الديمقراطية مهمة جدا لحياة حرة وإنسانية، لكنها دون عدالة تعني ديموقراطية الأغنياء لاستثمار المجتمع لمصلحتهم ، والضحية أغلب الشعب الذي يعيش في مستوى من الفقر المدقع والركض دائما وراء لقمة عيش صعبة المنال.
إنها حركة تطالب بالعدالة الانسانية لتكتمل انسانية الانسان في اوربا وكل مكان.
..١١/٢/٢٠١٩…