يناقش عبد الله العريان، في مقابلة معه، مساعي إسرائيل الرامية على ما يبدو إلى تقليص مساحة القطاع قبل إخضاعه إلى احتلال عسكري طويل الأمد.
عبد الله العريان أستاذ مشارك فلسطيني أميركي لمادّة التاريخ في جامعة جورجتاون في قطر. وهو مؤلّف كتاب بعنوان Answering the Call: Popular Islamic Activism in Sadat’s Egypt (تلبية النداء: النشاط الإسلامي الشعبي في مصر في عهد السادات)، ومحرّر كتاب بعنوان Football in the Middle East: State, Society, and the Beautiful Game (كرة القدم في الشرق الأوسط: الرياضة والمجتمع واللعبة الجميلة). هو أيضًا محرّر صفحة التيارات البارزة في الإسلام في مجلّة “جدليّة” الإلكترونية، وعضو سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية “الشبكة”. أجرت “ديوان” مقابلة معه عبر البريد الإلكتروني في أوائل كانون الأول/ديسمبر لمناقشة الحرب الشاملة والمستمرة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة.
ريان الشوّاف: مضت أسابيع عدة على العملية العسكرية الضخمة التي شنّتها إسرائيل ردًّا على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الذي نفّذته حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، اللتان تتّخذان من غزة مقرًّا لهما، على جنوب إسرائيل. ما الذي يواجهه سكان غزة؟
عبد الله العريان: بعد الحصار الخانق المفروض على غزة منذ العام 2007 والحملات العسكرية الكثيرة التي شنّتها إسرائيل منذ العام 2008 على القطاع، يرزح سكان غزة الفلسطينيون البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة اليوم تحت وطأة مزيجٍ لا يمكن تصوّره من المعاناة، نتيجة حملة القصف الأشدّ تدميرًا للسكان المدنيين في الذاكرة الحديثة، والموت البطيء الناجم عن العطش والجوع والانهيار التام للقطاع الصحي في غزة. وقد أسفر هذا المزيج من الحصار والقصف حتى الحين عن مقتل ما يفوق 18 ألف فلسطيني، بينهم أكثر من 7 آلاف طفل، وعن إصابة 50 ألف شخص تقريبًا، إضافةً إلى أعداد لم تُحصَ بعد من الأشخاص المفقودين الذين لا يزالون تحت أنقاض المباني المدمّرة. ويبرز إجماع متزايد في أوساط الباحثين والخبراء القانونيين والمسؤولين في مجال حقوق الإنسان على أن الممارسات التي ترتكبها إسرائيل في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية.
بدا أن المؤشرات الأولية، سواء التصريحات الصادرة عن أعضاء في الحكومة الإسرائيلية أو العمليات العسكرية على الأرض، تُبيّن أن إسرائيل في طور تنفيذ حملة تطهير عرقي كبيرة شبيهة بأحداث النكبة في العام 1948، التي أفضت إلى التهجير الجماعي لنحو 750 ألف شخص – ما يعادل 80 إلى 90 في المئة تقريبًا من فلسطينيي الأراضي التي أُقيمت عليها لاحقًا إسرائيل. وبعد أن فشلت إسرائيل في إقناع حلفائها الأميركيين والأوروبيين أو أي دولة عربية بالقبول بالتهجير الجماعي للفلسطينيين إلى مصر كسياسة عامة رسمية، يبدو الآن أنها تعمل على تهيئة الظروف لتقليص مساحة غزة إلى حدٍّ كبير من خلال إلحاق دمارٍ غير مسبوق بالقطاع وإخضاعه إلى احتلال عسكري طويل الأمد.
الشوّاف: وماذا يجري في الضفة الغربية؟
العريان: تُعدّ الأحداث التي تشهدها الضفة الغربية خلال هذه الفترة تذكيرًا صارخًا بأن الحملة العسكرية التي تشنّها إسرائيل راهنًا لا تستهدف قطاع غزة فقط. فمنذ بداية العام 2023 وحتى 7 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل نحو 200 فلسطيني في الضفة الغربية. وخلال الفترة الممتدة من 7 تشرين الأول/أكتوبر وحتى اليوم، قتل الجنود الإسرائيليون والمستوطنون ما لا يقل عن 275 فلسطينيًا. وقد استهدفت هذه الهجمات الجميع، سواء كانوا مزارعين مسنّين يقطفون الزيتون في بساتينهم، أو أفراد عائلة يدفنون أحباءهم في المقابر. كذلك، ذكرت تقارير أن القوات الإسرائيلية اعتقلت 3,580 فلسطينيًا في الفترة عينها. وقد نزح مئات الفلسطينيين، بما في ذلك سكان قرية بكاملها. وبناءً على تصريحات صادرة عن مستوطنين، فالهدف هو طرد الفلسطينيين من أرضهم، وهذا مسعى يتشاركه معهم علنًا الكثير من أعضاء حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
الشوّاف: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ هلّا تحدّثت، بإيجاز، عن تاريخ غزة منذ أن عمدت إسرائيل إلى “فك ارتباطها” عن القطاع في العام 2005؟
العريان: من الضروري أن ندرك أن ما نشير إليه باسم قطاع غزة هو نتاج مباشر للأحداث التي شهدها العام 1948، على المستويَين الجغرافي والديمغرافي. تعبّر حدود القطاع عن خطوط الهدنة التي حُدِّدت في أعقاب إعلان تأسيس إسرائيل وتولّي مصر السيطرة الإدارية على ما تبقّى من الأرض (فيما تولّى الأردن السيطرة على الضفة الغربية). وهكذا، أصبحت غزة بين ليلة وضحاها مأوى لأعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الذين تعرّضوا إلى التهجير من ديارهم في مختلف مناطق فلسطين التاريخية.
على مرّ السنوات، تحوّلت مخيمات اللاجئين التي كان يُفترَض أن تشكّل مساكن مؤقّتة للفلسطينيين ريثما يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، إلى مساكن دائمة بسبب رفض إسرائيل الاعتراف بحق الفلسطينيين في العودة، ما يُعدّ انتهاكًا للقانون الدولي. واليوم، يمثّل الناجون من النكبة وذريّتهم نحو 70 في المئة من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة. إضافةً إلى ذلك، كان الاحتلال العسكري الإسرائيلي لغزة بعد حرب العام 1967 غاشمًا على نحو خاص. وبحلول منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، اعتبرت الباحثة سارة روي أن الاحتلال يعكس سياسةً من “الإفقار التنموي”، التي حدّدتها بأنها منع أو تقويض التنمية الاجتماعية الاقتصادية الفلسطينية، وإعادة هيكلة اقتصاد غزة ليكون ملحَقًا بدولة إسرائيل.
من المجدي أخذ هذا السياق في الحسبان فيما نستذكر تسلسل الأحداث منذ العام 2005، حين قرّرت السلطة الفلسطينية، بطلبٍ من إدارة جورج دبليو بوش، خلال اندفاعتها نحو إرساء الديمقراطية التي لم تدُم طويلًا، إجراء انتخابات تشريعية لتعزيز الدعم للسلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، والتي اعتبرها الكثير من الفلسطينيين مجرّد مقاول فرعي فاسد وطيِّع للاحتلال الإسرائيلي. أما حماس، فقد فاجأت الكثير من المراقبين ليس فقط بقرارها خوض غمار الانتخابات ومنافسة السلطة الفلسطينية بعد أن رفضت الحركة لفترة تربو على عقدٍ من الزمن الاعتراف بشرعية السلطة الفلسطينية، بل أيضًا بفوزها بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، ما أعطاها الحق بتشكيل حكومة وتمثيل الفلسطينيين في أي مفاوضات مقبلة.
ما كان من إسرائيل والولايات المتحدة إلّا أن أدانتا على الفور نتائج الانتخابات وبدأتا باتّخاذ الإجراءات اللازمة لقلبها. وفي العام 2007، أُحبِط انقلاب لفتح برعاية أميركية في غزة، ما سمح لحماس بتوطيد سيطرتها في القطاع على نحو أكبر، فيما عزّزت فتح بدورها أركان حكمها في الضفة الغربية. وأصبحت السياسة الإسرائيلية العامة واضحة للعيان منذ ذلك الحين، إذ هدفت جوهريًا إلى الإبقاء على الانقسامات السياسية الفلسطينية، وعمّقت ما كان سابقًا عبارة عن انقسام جغرافي إلى حدٍّ بعيد في ظل الاحتلال الإسرائيلي. وقد كانت الأوضاع المعيشية التي يرزح تحتها الفلسطينيون في غزة صعبة أساسًا، وتردّت بشكل فادح بعد أن أعلنت إسرائيل فرض حصار على القطاع. فقد قيّدت إسرائيل على نحو خانق حرية تنقّل الأشخاص من وإلى غزة، وحركة استيراد السلع والموارد، ما حوّل غزة إلى سجن مفتوح. وكشفت وثائق حكومية نُشرت في العام 2012 عن إقدام إسرائيل على وضع ضوابط على واردات المواد الغذائية المسموح بدخولها إلى غزة لتحديد الكميات بحسب الحدّ الأدنى من السعرات الحرارية التي يتعيّن على الفلسطيني تناولها من دون الوصول إلى مستوى الجوع الشديد.
إضافةً إلى ذلك، تبنّت الحكومة الإسرائيلية سياسة عسكرية عُرفَت بـ”جزّ العشب”، وهي عبارة تخفيفية وقاتمة تُستخدم لوصف التوغلات العسكرية الإسرائيلية الدورية داخل قطاع غزة المحاصر. هدفت هذه التوغلات ظاهريًا إلى إضعاف قدرات حماس العسكرية، لكنها ألحقت في كل مرة دمارًا كارثيًا بمراكز سكانية كبيرة وأسفرت عن مقتل آلاف الفلسطينيين. فبدءًا من عملية الرصاص المصبوب في فترة 2008-2009، نفّذت إسرائيل أربع حملات عسكرية. وفي فترة 2018-2019، ردّت إسرائيل بالرصاص على الفلسطينيين الذين خرجوا في سلسلةٍ من المسيرات السلمية في قطاع غزة قرب الشريط الحدودي الذي فصل اللاجئين عن بيوتهم السابقة، ما أسفر عن مقتل 266 فلسطينيًا في المظاهرات وإصابة 30 ألفًا آخرين. وبحلول العام 2023، لم يرَ نصف سكان غزة من الحياة شيئًا سوى الحصار والقصف، من دون أي نهاية في الأفق.
الشوّاف: إذا كانت إسرائيل قد خلُصت في نهاية المطاف إلى أن من مصلحتها السماح لحماس بحكم غزة، عوضًا عن السلطة الفلسطينية، وذلك للحؤول دون قيام دولة فلسطينية، فلماذا أبقت القطاع تحت الحصار، وأجّجت بالتالي مشاعر السخط والعداء لدى حماس نفسها؟
العريان: لم تكن المسألة أن إسرائيل فضّلت حماس تحديدًا، بقدر ما كانت تلك سياسة انتهجتها إسرائيل للحفاظ على الانقسامات السياسية العميقة بين الفلسطينيين عمومًا. فالإبقاء على انقسام الكيان الفلسطيني وفق خطوط إيديولوجية وسياسية واجتماعية اقتصادية وجغرافية، حال دون بلورة مشروع تحرّري متّسق وموحّد لجميع الفلسطينيين. وكان ذلك جزءًا لا يتجزأ من السياسة العامة الإسرائيلية منذ تأسيس إسرائيل. إذا فكّرنا في مختلف الأنظمة القانونية التي ترسم معالم التجربة الفلسطينية اليوم: فالفلسطينيون في كلٍّ من غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل تحكمهم مجموعات مختلفة تمامًا من القوانين والسياسات والممارسات. وتشكّل هذه الأنظمة الموازية عقبة رئيسة في وجه إقامة مشروع سياسي فلسطيني موحّد.
مع ذلك، ساعد حكم حماس في غزة إسرائيل على تحقيق أهداف أخرى. ونظرًا إلى أن دولًا رئيسة في المجتمع الدولي تُدرج حماس على قائمة التنظيمات الإرهابية، أفسح بقاء الحركة المجال أمام إسرائيل لمواصلة استخدام سردية “الحرب العالمية على الإرهاب”، من خلال حشد الدعم الدولي لمكافحة تمويل الإرهاب، والتماس الدعم العسكري والدبلوماسي والاستخباراتي، والحصول على تأييد تلقائي لعملياتها العسكرية المتكررة، وفي نهاية المطاف إيجاد مبرّر لفرض نظام أمني على جميع سكان غزة، على اعتبار أنهم يشكّلون تهديدًا محتملًا. لقد نجحت إسرائيل في استخدام هذه الأساليب كافة، ساعيةً في الوقت نفسه إلى حصر حماس داخل حدود غزة، وبالتالي تقليص حجم التهديد الفعلي الذي تطرحه، وهذه حسابات أطاحت بها على ما يبدو أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر.
لا بدّ من الإشارة إلى نقطة أخرى هي: بمجرّد أن قرّرت إسرائيل التخلّي عن مطالبتها بضمّ قطاع غزة إليها في العام 2005 (وهو قرار تراجعت عنه على ما يبدو خلال الأسابيع القليلة الماضية)، أصبح باستطاعة القادة الإسرائيليين تحويل مشروعهم التوسّعي بالكامل نحو الضفة الغربية والقدس الشرقية. في الواقع، أعلن مسؤولون في حماس صراحةً عن أن الهجوم الذي شنّته الحركة في 7 تشرين الأول/أكتوبر أتى ردًّا على ارتفاع أعداد الفلسطينيين الذين قتلوا على أيدي الجنود والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس، من بين عوامل أخرى.
الشوّاف: تبيّن بوضوح أن إسرائيل ككل أُصيبت بالصدمة جرّاء هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، بحيث أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن هدفها الراهن هو القضاء على حماس في غزة. هل توصّلت الولايات المتحدة إلى صفقة ما مع حليفتها المقرّبة، تدعم بموجبها كل ممارسات الجيش الإسرائيلي تقريبًا في غزة، مقابل كفّ إسرائيل عن عرقلة إقامة دولة فلسطينية مستقلة تضمّ معظم أراضي الضفة الغربية وكامل قطاع غزة؟
العريان: بصرف النظر عن بعض التصريحات التي تهدف إلى تهدئة الغضب العارم في أوساط ناخبي الحزب الديمقراطي، لم نشهد خلال الأسابيع السبعة الماضية ما يشير إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن قد بذلت جهودًا جديّة لإعادة طرح مسألة إقامة دولة فلسطينية على طاولة البحث، أو أن الحكومة الإسرائيلية ستكون متجاوبة حتى مع هذه المساعي.
واقع الحال أن ما من تفكير جدّي أُولي إلى “حلّ الدولتَين” منذ العام 2000 على الأقل. قد يجادل البعض بأن اتفاقيات أوسلو للعام 1993 جعلت احتمال قيام دولة فلسطينية مستبعدًا، إن لم يكن مستحيلًا بالكامل. وبدا واضحًا أن بايدن سار على خطى الإدارات الأميركية الثلاث السابقة التي عمدت تدريجيًا إلى تقليل أهمية مسألة حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، فيما منحت إسرائيل تفويضًا مطلقًا لمواصلة توسّعها داخل الأراضي الفلسطينية. إن ألقينا نظرة على الخريطة الحالية للوجود الاستيطاني الإسرائيلي – إذ بات حوالى 700 ألف مستوطن يهودي يعيشون بصورة غير قانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية – سنتوصّل إلى خلاصة واحدة مفادها أن قيام دولة فلسطينية بات أمرًا بعيد المنال.
يُضاف إلى ذلك أن الإرادة السياسية اللازمة لتيسير إقامة مثل هذا الكيان مفقودة لا في الولايات المتحدة ولا في إسرائيل، على الرغم من التصريحات الأخيرة التي أدلى بها بايدن. بل عندما نأخذ في الحسبانية إسرائيل المُعلنة بإبقاء غزة تحت الاحتلال في المستقبل المنظور، يتّضح أن الزخم يتحوّل بوضوح نحو الاتجاه الآخر. تبقى الحقيقة المأساوية أن حلّ الدولتَين لطالما طُرح لحرف الانتباه عن النقاشات الجادّة المتعلقة بواقع الدولة الواحدة، وفي الآونة الأخيرة عن الفظائع التي تُرتكب في غزة. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص في ظل تبدُّل الرأي العام الأميركي إلى حدٍّ كبير نحو دعم الدعوات إلى وقف إطلاق النار، ما يتعارض بصورة مباشرة مع سياسة الإدارة.
الشوّاف: كيف ترى مستقبل غزة على المدى الطويل؟ قد يتضمّن الاحتلال الإسرائيلي المباشر للقطاع فور انتهاء النزاع، لكن ماذا بعد ذلك؟
العريان: من الصعب الحديث عن المستقبل بينما لا يزال الصراع الراهن مستعرًا. لا نعرف متى سينتهي أو كم ستكون حياة الفلسطينيين كارثية في أعقابه. مع ذلك، يظهر جليًّا أن أجزاء كبيرة من غزة ستكون على الأرجح غير صالحة للعيش في المستقبل المنظور. كذلك، تبدو إسرائيل عازمة على تقليص المساحة المأهولة في غزة من خلال الاحتلال العسكري المباشر لأجزاء محدّدة من القطاع، ولا سيما تلك التي سبق أن طردت منها أعدادًا كبيرة من السكان، والإبقاء على حدٍّ أدنى منهم هناك. وفيما قد يسهم ذلك في إعادة إحلال الأمن الإسرائيلي على المدى القصير، لا يبدو أن إسرائيل، أو الجهات الداعمة لها في الولايات المتحدة وأوروبا، تملك أدنى فكرة عن رؤية طويلة الأمد لغزة، باستثناء استمرار الاحتلال والحصار، وهو وضع لم يكن مستدامًا حتى قبل وقوع الأحداث الراهنة.
لا يمكننا الحديث عن المستقبل أيضًا من دون الحديث عن أطفال غزة. لقد أثّر هذا الصراع على الأطفال بشكل أكبر ربما من أي صراع آخر في العالم خلال نصف القرن الماضي. أيّ مستقبلٍ ينتظر أطفال غزة، بعد أن تعرّض عشرات الآلاف منهم للقتل أو التشويه الجسدي أو أصيبوا بصدمات نفسية جرّاء هذه الحملة العسكرية؟ سيكون أطفال غزة الأكثر تضرّرًا لسنوات كثيرة نتيجة الدمار الذي لحق بالمرافق الضرورية لتأمين الحدّ الأدنى من المستوى المعيشي الأساسي، بدءًا من الحدائق والمدارس ووصولًا إلى المستشفيات والأسواق، حتى إن متحدثًا باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة وصف حملة إسرائيل بأنها “حرب على الأطفال”.
على المستوى السياسي، لا يمكن في نهاية المطاف الفصل بين مستقبل غزة والقضية الفلسطينية الأوسع. ونظرًا إلى مستويات الغضب والاستنكار غير المسبوقة حول العالم، يُرجَّح أن تتجدّد المساعي الرامية للتوصل إلى حلّ سياسي خلال الأشهر والسنوات المقبلة. إن الأمر المؤكّد في هذا الصدد هو التالي: في حال اقتصرت هذه المبادرة في الغالب على محاولة البناء على إخفاقات اتفاقيات أوسلو، فسوف تولد ميتة. وحتى إذا تمكّنت الولايات المتحدة وإسرائيل من دفع قيادة السلطة الفلسطينية المأزومة والفاقدة للصدقية إلى المشاركة فيها، يدرك الشعب الفلسطيني أن هذه العملية لم تؤدِّ سوى إلى سرقة المزيد من أراضيهم، والإفقار التنموي لمجتمعهم، وترسيخ الاحتلال، وبالتالي لن تملك أي حظوظ بالنجاح في أوساطهم.
سيتمثّل الخيار الأفضل في الاستغناء عن عملية سلام فاقدة للصدقية ومتمحورة حول مفاهيم زائفة عن قيام دولة فلسطينية، لم تفضِ سوى إلى ترسيخ واقع الدولة الواحدة التي تحكم راهنًا الإسرائيليين والفلسطينيين. بدلًا من ذلك، يتعيّن على أي حلّ أن ينطلق من الاعتراف بأن الدولة الاستعمارية الاستيطانية التي تحكم شعبَين وفقًا لمجموعات مختلفة من القوانين والسياسات والممارسات – وهذا النظام أطلقت عليه الأمم المتحدة وعدد متزايد من منظمات حقوق الإنسان الدولية تسمية “الأبرتهايد” (الفصل العنصري) – قد أدّت إلى إقدام مجموعة على قمع مجموعة أخرى وسلبها ممتلكاتها. لا يمكن بناء مستقبل قائم على العدالة والمساواة إلّا بعد تفكيك هذه الهياكل العنصرية والتمييزية، والتخلّص من المشروع الإثني-القومي الذي يربط في ما بينها. لكن المأساة هي أن ما من إرادة سياسية لتحقيق ذلك لا في الولايات المتحدة، ولا في إسرائيل حتمًا.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط
حوار موضوعي مع الدكتور عبد الله العريان وذو أبعاد تاريخية ومستقبلية لوضع غزة وخطط الكيان الصهيوني لليوم التالي لغزة ، وسعي الصهاينة لجعل غزة غير مؤهلة وقابلة للسكن وأمام احتلال عسكري طويل بعد تجزئتها واختصار مساحتها ولتجعل حل الدولتين بعيد التحقيق أمام دولة واحدة استعمارية استيطانية تحكم شعبَين وفقًا لمجموعات مختلفة من القوانين والسياسات والممارسات “الأبرتهايد” .