يبدو من ظاهر وخلفية ما يجري تدبيجه من وثائق تأسيسية ومؤتمرات تجمع كلها على تعددية الدولة قوميا وإثنيا ومذهبيا وطائفيا من ناحية، وتضم في صفوفها عناصر تابعة لقسد أو موالية لها أن هناك مشروعا لتدمير سوريا بصيغ متعدد جوهرها منح حقوق دستورية للقوميات والإثنيات والطوائف ما يجعل منها دستوريا مجموعات وأطراف مساوية للوطن السوري أو الدولة السورية أو فوقهما، بدلا من منح الحقوق الدستورية للمواطنين السوريين، والحال فإن هذه الوثائق التأسيسية توجه طعنة نجلاء لمفهوم المواطنة الذي اشتغل عليه عدد من المفكرين والحقوقيين السوريين أخص بالذكر منهم طيب الذكر إحسان عباس.
فمن غير المفهوم أن يمتلك أي سوري حقوقه وحرياته كمواطن بوجود دستور يمنح الشرعية للطوائف والإثنيات والقبائل، ويمنحها بالتالي لرؤسائها (عملياً لرؤساء ميليشياتها) إذ سيبقى المواطن أسيرا لسلطة ونفوذ رئيس أو زعيم أو تابعا للمرجع الأعلى للطائفة التي ينتمي إليها بالولادة، هذا الزعيم الذي يقر الدستور له بامتلاك سلطة على الدولة أو سلطة داخل الدولة أو يتقاسم مع آخرين سلطة الدولة أو هو السلطة الأعلى في دولة الطوائف والقوميات هذه..
الانتساب السياسي إلى جماعة إلغاء لفاعلية الفردية والوطنية:
عندما ينسب سياسي سوري معارض نفسه بكليتها إلى عشيرة أو طائفة أو جماعة عرقية فهو كأنما يتعهد بتحمل كل ثقل تاريخها في ممارساتها وأفعالها، وبالتالي فهو يلتزم بتحمل نتائج أفعالها، ومن هنا جاء مفهوم الثأر بين القبائل الذي لا يفرق بين شخص وآخر في القبيلة، ومن هنا يأتي أيضا الثأر بين الطوائف والجماعات العرقية. فمفهوم النحن وانتفاء الذات الأنا أو الفرد إذاً هو مفهوم قبلي يوقع على عاتق الأنا، وِزر النحن، الآن وكل آن..
ولأن تاريخ “النحن” يضجّ بالنزاعات والصراعات والكراهية فهو لم يورثنا سوى الخوف والتوتر.. فشخصية النحن سواء أكانت قبلية أم طائفية أم قومية هي شخصية متوترة منجذبة إلى النحن ومتمركزة فيها، فهي شخصية نافية للذات الفردية، لا “أنا” فيها، إذ تستولي النحن الجماعية على شخصية الفرد وتستولي على الأنا لتسحقها فيصبح الفرد هو جماعته بالفعل ناطقا باسمها حاملا وزرها مستعدا لدفع ثمن ما ارتكبته، وهو أمر أقل ما يقال فيه أنه موقف مضاد للشرائع السماوية ومخالف لجوهر الأديان ومضاد للقوانين الوضعية أيضا.
لم تبن الحداثة السياسية على مفهوم النحن بل بنيت على مفهوم الأنا الفرد الكامل الأهلية المسؤول عن أفعاله فحسب الذي لا ينسب نفسه لأحد إلا لأفعاله وإمكانياته ومواهبه.
فعندما تعلن وثيقة سياسية أو تيار سياسي عن الإيمان بالعلمانية والديمقراطية والليبرالية، وفي ذات الوقت تنظر إلى المجتمع السوري على أنه مكونات وقوميات واثنيات وطوائف فنحن أمام مغالطة معرفية كبيرة.
لامركزية إدارية مناطقية موسعة:
إذاً بحجة المظلوميات يذهب بعض الأفرقاء السوريين والغربيين بسوريا شعبا وجغرافيا إلى التقسيم أو الفيدرالية، مانحين الانتماءات الجماعية الفطرية والإثنيات والقوميات والطوائف والقبائل هويات سياسية تنازع هوية الوطن، وحدودا إدارية سياسية تقزم الجغرافيا السياسية السورية. والسبب الأصلي في هذا المذهب هو كما أسلفنا هي المظلومية أو المظلوميات السورية التي تسبب بها نظام الأسد طوال نصف قرن، فبزعم هؤلاء الفرقاء إذا كانت “جماعة” سورية ما، حكمت سوريا بالنار والحديد، فمن “الواجب” إذا أن نعيد تقسيم السلطة في سوريا بين القوميات والإثنيات والطوائف والمذاهب والقبائل… فتحكم كل واحدة من هذه التشكيلات الاجتماعية ما قبل الوطنية أو ما فوق الوطنية، البلاد، نصف قرن، أقل أو أكثر.. وهم بحجة عدم تكرار نموذج النظام الأسدي يختارون نموذج بريمر في العراق، أو نموذج الطائف في لبنان، الذي أوصلنا إلى جمهورية ولي الفقيه اللبنانية كنسخة من جمهورية ولي الفقيه الإيرانية.
إن مشكلة السوريين كانت ومازالت هي ديكتاتورية الأسد واحتلال عائلته للساحل والمجازر التي ارتكبها جيشه العقائدي منذ حماة حتى مجازر الكيماوي في الغوطة، مشكلة السوريين الأساسية هي الديكتاتورية وليست المركزية، على ما في هذه الأخيرة من إساءة وضعف تنمية وتهميش للأطراف لصالح المركز العاصمة..
والحل الأمثل في اعتقادي هو في لامركزية إدارية موسعة تمنح المدن والمناطق صلاحيات إدارية تجاوزا للبيروقراطية وتخففا من الفساد.. وليس الحل في حقوق دستورية للطوائف والأعراق والقوميات.
ثم ما هي القوميات؟ إنها مشاريع إيديولوجية لتحويل الجماعة العرقية أو اللغوية إلى أمة، ومنح الأمة دولتها. فالقومية مشروع سياسي وليست مسألة أصلية في تكوين الشعوب والجماعات. والقومية نهج سياسي وثقافي أوروبي ولد قبل قرنين لا أكثر، ضمن السياق الاجتماعي السياسي الأوروبي، فكانت تعبيراً عن مصالح وتحالفات ونزاعات الإقطاعيات الأوروبية.. ولم يوجد أبدا هذا السياق الاجتماعي الثقافي عربيا أو كرديا لينتج عنه هذا النزوع القومي.. فاستيراد النظريات وإلباسها بالقوة للمجتمع العربي والكردي هي المشكلة التي لايزال يرتكبها المثقفون العرب والكرد، الأمر الذي يغذّي ويشعل صراعات ويفتعل خلافات وينبش تمايزات يتم تظهيرها كتناقضات جوهرية، ليتعيش عليها هؤلاء المثقفون الذين سرعان ما يتحولون إلى سياسيين ومديري مراكز أبحاث يقبضون بالدولار من عدو شعوبهم المتقنع بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لخدمة هدف واحد وحيد هو تأبيد الصراع والحروب والتخلف والنهب والفقر والهجرة.. فهي العملات الوحيدة التي بإمكان الغرب العولمي أن يصرفها لنا..
الخلاصة: إن السوريين، وبسبب إدارة النظام الأسدي أصبحوا ضحايا انتماءاتهم الفطرية (العرقية والطائفية والمذهبية) الذين هم غير مسؤولين عنها، كما أن جهة ورؤية في المعارضة بعينها مهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي تصنف السوريين طائفيا أعادتهم بالفعل إلى جماعات وطوائف، والحقيقة الثابتة في أي مجتمع ونظام سياسي حديث أنه لا تجوز أن تكون الانتماءات الفطرية محلا لأي تكوين أو تمثيل أو تمظهر سياسي لا سيما إن تسببت هذه الانتماءات في حروب أو نزاعات سابقة أو راهنة.. لابد عندها من القفز فوقها إلى ما يجمع، أي، إلى الإنسان- المواطن السوري..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
لم تقم ثورتنا من أجل مظلومية مجموعات بروابطها ما قبل الوطنية ، ثورتنا قامت ضد نظام طاغية مستبد ديكتاتوري ، إن المظلومية هي مظلومية شعبنا السوري بكافة أطيافه من هذا النظام ، والدعوات لمظلوميات مؤدلجة لغايات انفصالية ولتقسيم سورية مرفوضة بالكامل إن اللامركزية الإدارية الموسعة ودولة المواطنة تحقق العدالة لكامل شعبنا بسورية .