علاقات تركيا وإسرائيل أمام مسارين: حاجة الاستمرار وضغط المواقف

إبراهيم مصطفى

على رغم تصاعد خطاب أردوغان ضد تل أبيب بعد اندلاع حرب القطاع فإن أنقرة تواصل علاقاتها التجارية معها.

بعد يوم من إدلاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريحات حادة تجاه إسرائيل من العاصمة الألمانية برلين، قال إن أنقرة ليست مديونة لتل أبيب كي تحاسبها، خرج رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو ليتساءل عن سبب استمرار شحنات البترول من جيهان إلى إسرائيل.

وعلى رغم الخصومة السياسية بين الحليفين السابقين، إلا أن سؤال أوغلو يبدو منطقياً لمن يتابع مسار العلاقات التركية- الإسرائيلية خلال العقدين الأخيرين، إذ لم ينزلق البلدان أبداً إلى قطع العلاقات نهائياً على رغم اتباعهما سياسة السير على الحافة، وحافظا على علاقات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية متميزة على رغم التقلبات السياسية.

ومنذ اندلاع الحرب الحالية في غزة، تصاعد خطاب أردوغان من دعوة الطرفين إلى ضبط النفس لوصف إسرائيل بالمنظمة الإرهابية التي ترتكب إبادة جماعية مع المطالبة بمحاسبتها دولياً، بينما رفض اعتبار حركة “حماس” منظمة إرهابية ووصف ما يجري في غزة بأنه أشبه بالحروب الصليبية، وفي مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استدعت أنقرة سفيرها لدى تل أبيب، لكن أردوغان أكد أن بلاده لن تقطع علاقاتها نهائياً بإسرائيل.

وأعلن الرئيس التركي أنه لن يتواصل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وألغى خططه لزيارة إسرائيل، في تحول درامي أعقب لقاء الزعيمين في نيويورك في سبتمبر (أيلول) الماضي، والذي جاء كمؤشر إضافي على تحسن العلاقات الثنائية التي دخلت في موجات من التوتر منذ عام 2010، حين قتلت إسرائيل 10 أتراك كانوا على متن سفينة لدعم أهالي قطاع غزة، إذ طردت أنقرة السفير الإسرائيلي وأعادته عام 2016 فيما طردت تل أبيب السفير التركي بعد ذلك بعامين على خلفية العلاقات التركية مع “حماس”.

لكن مراقبين أكدوا أن العلاقات التركية- الإسرائيلية لم تنقطع أبداً على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية، مما يتفق مع إقرار أردوغان بأن رئيس استخباراته إبراهيم كالين يتواصل مع تل أبيب و”حماس” على حد سواء.

الشريك الأول

أول دولة ذات غالبية مسلمة اعترفت بإسرائيل تعد الشريك التجاري الأول لها في الشرق الأوسط، بحسب بنك إسرائيل (المصرف المركزي) الذي ذكر في تقرير نشر في مارس (آذار) الماضي أن الاقتصاد الإسرائيلي احتفظ طوال عقود بنوعية “اقتصاد الجزيرة”، المنقطع عن دول الشرق الأوسط باستثناء تركيا، مشيراً إلى أن اتفاقات السلام مع الأردن ومصر “لم تنتج علاقات اقتصادية ذات أهمية على مستوى الاقتصاد الكلي”.

وخلال عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية، نمت التجارة بين تركيا وإسرائيل بنسبة 475 في المئة، على رغم الانتقادات السياسية العلنية، وفق صحيفة “زمان” التركية، وذكر معهد الإحصاء التركي أن صادرات أنقرة إلى تل أبيب ارتفعت من 0.86 مليار دولار عام 2002 إلى 6.14 مليار دولار في 2021، بينما بلغ حجم التجارة المتبادلة العام الماضي نحو 8 مليارات دولار.

وفي سبتمبر الماضي، صرح أردوغان بأن إجمالي حجم التبادل التجاري بين الجانبين يبلغ 9.5 مليار دولار وأنه توصل إلى اتفاق مع نتنياهو لزيادته إلى 15 مليار دولار في الأقل.

وعام 2020 احتلت إسرائيل المركز التاسع في قائمة الدول الأكثر استيراداً من تركيا، وبحسب البيانات الرسمية التركية، فإن المنتج الأكثر تصديراً من تركيا إلى إسرائيل عام 2020 هو “الحديد والصلب”.

وكانت أنقرة تخطط لتعزيز التعاون في مجال الطاقة مع إسرائيل عبر التنقيب المشترك عن الغاز في شرق المتوسط، بعدما تم استبعادها من المنتدى الإقليمي للطاقة “منتدى غاز شرق المتوسط”، لكنها أعلنت وقف تلك الخطط بعد اندلاع حرب غزة.

وعلى الصعيد السياحي، ازداد عدد السياح الإسرائيليين إلى تركيا من أقل من 200 ألف سائح عام 2013 إلى نحو 800 ألف العام الماضي، وفق البنك المركزي الإسرائيلي، لتتفوق تركيا بذلك على دول الإقليم كافة، بما فيها مصر التي تملك منتجعات سياحية شهيرة قريبة من الحدود الإسرائيلية.

توزيع الأدوار

وأثرت الحرب على غزة في علاقات أنقرة وتل أبيب الاقتصادية، فأعلن وزير التجارة التركي عمر بولات أن “التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل انخفض بنحو 50 في المئة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2022” بسبب “ضعف إقبال رجال الأعمال الأتراك والتجار على طلب المنتجات الإسرائيلية بعد العدوان على قطاع غزة”.

وعلى رغم انتشار دعوات شعبية إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، لم يترجم ذلك إلى إجراءات رسمية تحد من تصدير المنتجات التركية إلى إسرائيل، وأسقط نواب حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية مشروع قرار طرحته المعارضة لتحديد محتوى وكمية البضائع المرسلة من تركيا إلى إسرائيل والبحث في تأثيراتها في الوضع داخل غزة، مما طرح تساؤلات حول أسباب عدم قطع حكومة أردوغان علاقاتها التجارية مع تل أبيب، بينما تشدد خطابها تجاه هذه الأخيرة.

ويرى الخبير في الشأن التركي بشير عبدالفتاح أن أنقرة كثيراً ما مارست سياسة توزيع الأدوار، فيصعّد أردوغان والإعلام من لهجته، في حين تستمر العلاقات الاقتصادية والعسكرية والاستخبارية من دون أن تتأثر، مشيراً إلى أن سحب السفير إجراء دبلوماسي للتشاور من دون قطع العلاقات.

“من سيدير غزة؟” سؤال قد يعرقل إنهاء الحرب

وأضاف أن إسرائيل لا يهمها سوى استمرار العلاقات العسكرية والاستخبارية مهما صعد أردوغان من خطابه، موضحاً أن الولايات المتحدة هي الضامن لعلاقات أنقرة وتل أبيب، مما يمنحها قوة وطابعاً خاصاً لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة ومشيراً إلى اشتراط واشنطن صيانة الأسلحة الأميركية المصدرة إلى تركيا في إسرائيل وأردوغان لن يسمح بتعكير العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب تعكر علاقاته مع تل أبيب.

دور إقليمي أكبر

وأكد عبدالفتاح أن تركيا دولة إقليمية مهمة وأردوغان يريد الاستفادة من علاقته مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية و”حماس” والأطراف كافة، ويريد ترجمة ذلك إلى دور أكبر ونفوذ يمكن أن يستخدمه مثل ورقة ضغط على الولايات المتحدة و”ناتو” والدول العربية، شارحاً أن هناك “فراغاً في القضية الفلسطينية” يمكن أن تملأه تركيا بسبب تشتت العمل الفلسطيني وتبعيته لأطراف مختلفة.

وعرض الرئيس التركي مشاركة قوات بلاده في “الهيكل الأمني الجديد” الذي سيتم إطلاقه في غزة بعد الحرب، وهو أول زعيم من دول المنطقة يتحدث عن مستقبل القطاع بعد الحرب، كما أبدى في بداية الأزمة استعداد بلاده للتوسط لتبادل الرهائن، إلا أن مصر وقطر اضطلعا بذلك الدور لاحقاً.

وقال الباحث التركي في العلاقات الدولية محمود علوش إن تركيا على غرار دول المنطقة الأخرى تسعى إلى إظهار إدانتها الشديدة للحرب، ومع ذلك فإن أردوغان يحاول الموازنة بين هذا الأمر وتجنب انهيار كامل في العلاقات الجديدة مع إسرائيل.

وأضاف أن الدرس الذي يحاول أردوغان الاستفادة منه من تجربة العقد الماضي في العلاقة مع إسرائيل هو أن تركيا لن يكون بمقدورها القيام بدور محوري في جهود إنهاء الحرب واستعراض قوتها الدبلوماسية في مجال الوساطة الدولية إذا لم تستطِع الحفاظ على علاقتها مع جميع أطراف الصراع بما في ذلك تل أبيب، كما أن طموحها في الاضطلاع بدور كبير في ترتيبات غزة ما بعد الحرب، وفي أي عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مرهون بقدرتها على تقديم نفسها كوسيط سلام.

وأشار علوش إلى أنه على رغم أن المواقف التركية المناهضة بشدة لإسرائيل تُعقد ظاهرياً من قدرتها على القيام بدور وسيط للسلام بين تل أبيب و”حماس”، إلا أن النهج الحذر لأردوغان يساعده في جذب مزيد من الاهتمام من قبل الحركة وإسرائيل والولايات المتحدة ويوفر له مميزات تجعل دوره لإنهاء الصراع لا غنى عنه.

وأكد أن أي انهيار جديد في العلاقات مع إسرائيل سيقوض طموحات أنقرة بتعزيز مكانتها الجديدة في الشرق الأوسط كوسيط للسلام، كما يجلب عقبات إضافية على جهودها لإصلاح علاقاتها المتوترة مع الغرب وهذا آخر ما يحتاج إليه أردوغان في الوقت الحالي.

مستقبل العلاقات

واعتبر علوش أن فكرة قطع العلاقات مع إسرائيل مستبعدة في حسابات تركيا لأنها بالكاد استطاعت خلال الأعوام الأخيرة الخروج من العزلة الإقليمية، وتسببت بإضعاف موقفها في الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط، ويحاول أردوغان التعويض عن هذا الأمر بإعلان أنه لن يقبل بمحاورة نتنياهو بعد الآن لأنه يدرك أن مستقبل هذا الأخير السياسي اقترب من نهايته.

ورهن علوش مستقبل العلاقات التركية- الإسرائيلية بالطريقة والمدة التي ستستغرقها هذه الحرب، فكلما انتهت بصورة أسرع وبتسوية سياسية تؤدي إلى إطلاق عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان من السهل على أنقرة وتل أبيب احتواء تداعيات الحرب على علاقاتهما مع افتراض أن نتنياهو سيُحال إلى التقاعد السياسي.

وأسفرت النزاعات العسكرية في غزة خلال الأعوام الـ15 الماضية عن موجات من التوتر بين أنقرة وتل أبيب، بداية من حرب 2008-2009 حين انتقدت أنقرة إسرائيل، وأعقب ذلك الخلاف الشهير بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز في منتدى “دافوس” بسويسرا.

وعام 2010 قتل جنود إسرائيليون 10 مواطنين أتراك كانوا على متن سفينة لتوصيل المساعدات إلى غزة الذي اعتذرت منه تل أبيب عام 2013، وفي 2017 هاجمت تركيا إسرائيل بعد اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لها، وفي العام التالي تبادل البلدان استدعاء السفراء.

خطاب دعائي

وبحسب تقدير الباحث في الشأن التركي كرم سعيد فإن موقف أردوغان من الحرب مر بمرحلتين، الأولى لهجة هادئة للدعوة إلى وقف التصعيد، ثم مع تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية زادت حدة لهجته بسبب رغبته في الظهور بمظهر زعيم العالم الإسلامي الذي كثيراً ما عمل على تسويقه لنفسه، كما صعد من لهجته رغبة في عدم سحب المعارضة البساط من تحته مع تواصل التظاهرات المنددة بالحرب في مدن تركية عدة.

وقال سعيد إن هذه اللهجة خطابية دعائية لن تترجم إلى خطوات فعلية، نظراً إلى حرص أنقرة على الإبقاء على علاقاتها الاقتصادية مع تل أبيب في ظل الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي منذ أعوام، معتبراً أن الطرفين يعملان على إدارة الأزمة وعدم انفلات التصريحات إلى خط اللارجعة، وأشار إلى أن سحب تركيا سفيرها هو بغرض التشاور وليس تجميد العلاقات.

المصدر: اندبندنت

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. للأسف الرئيس أردوغان أصبحت تصريحاته مهزلة القرن لهجة خطابية دعائية لا تترجم لخطوات عملية من يوم بيعه لدم الخاشقجي ومحمد مرسي والخطوط الحمر بحماه وحلب بسورية وكونه الضامن لمناطق خفض التصعيد بشمال سورية وكان تساءل رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو على تصريحاته حول غزة لماذا تستمر شحنات البترول من ميناء جيهان التركي لإSرائيل ،

زر الذهاب إلى الأعلى