نهاد سيريس روائي سوري متميز قرأت له أغلب رواياته. وكتبت عن بعضها.
اوراق برلين ل نهاد سيريس الرواية التي كتبت عام ٢٠١٨م. ونشرت عام ٢٠٢١م. تعتمد أسلوب السرد على لسان الشخصية المحورية وهو هنا الراوي ذاته. وكأننا أمام رواية سيرة ذاتية، رغم عدم تصريح الكاتب بذلك…
تبدأ الرواية من سرد الراوي عن حياته في برلين عاصمة ألمانيا في السنوات الأولى بعد الثورة السورية التي حصلت في ربيع عام ٢٠١١م. ورغم أن الراوي لم يذكر ذلك إلا عرضا في متابعته الروائية مرة اسماها ثورة وتارة الأزمة السورية. ومرة الحرب الأهلية.
لقد انتقل صاحبنا إلى ألمانيا ، السبب المباشر ما حصل في سوريا. هو كاتب وله روايات كثيرة. بعضها ترجم الى لغات عدّة. يظهر متابعا لدوره في الكتابة والتوثيق. يعطي انطباعا عن نفسه أنه يريد أن يعرف كل شيء عن ألمانيا منذ بداية القرن الماضي للآن. مرورا بالحربين العالميتين. الأولى والثانية. عبر التواصل مع شهود عيان مسنّين. او اولادهم واحفادهم. يتجول في برلين متابعا معالمها سواء التي تدمرت في الحربين والتي بقيت. يتحدث عن تدمير مدن بنتائج توازي إلقاء قنابل ذرية وعدد ضحايا كبيرة جدا تصل الى مئات الالاف. سواء بحرب المانيا ضد الحلفاء الإنكليز والفرنسيين. أو في مواجهة الروس الذين دخلوا برلين بعد هزيمة هتلر، برلين الخالية من الرجال، التي أصبحت مستباحة للروس قتل ونهب واغتصاب طال مئات آلاف النساء. كما أنه يحدثنا عن ألمانيا التي تجاوزت جراحها. وهدمت جدار برلين بين شرقها الذي كان يتبع الاتحاد السوفييتي وغربها الذي كان يتبع المعسكر الغربي. لقد تغلغل عميقا في واقع حياة الألمان الآن، لقد هيمنت عقلية الحياة الفردية والحرية الشخصية على كل الناس ، هذا النمط من الحياة محمي بالقانون. الأسرة مستمرة كنمط علاقة إجتماعية. لكن زاحمها الزواج المثلي. ذكورا وإناثا. أصبح لكل فرد هواه الشخصي وما يحب، ولا يمنعه أحد من ممارسة ما يريد. أصبح الجنس قضية شخصية وتمارس علنا بأي طريقة وفي أي مكان عام او خاص…
الانسان الألماني يقسم وقته بين عمله وقضاء أوقات فراغه في تأمين متعه على تنوعها. كما تنشط في ألمانيا جماعات تبشير ديني مسيحي صهيوني يدعم الكيان الصهيوني. يحاول استقطاب اللاجئين اليهم والى تجمعاتهم ونشاطاتهم. يقدمون لهم المساعدة في اللجوء وتأمين الأوراق والاستقرار القانوني في ألمانيا.
كذلك في المانيا ازمة خواء روحي يحاول كل طرف دفع الناس للتدين بجميع أنواع العقائد المسيحية بأنواعها وخاصة الصهيونية، وحتى الهندوسية الخ …
لا مشكلة حياتية عند صاحبنا يظهر أنه متمكن ماديا في عيشه وتأمين مستلزماته وهل كان معه المال اللازم للحياة عند مجيئه الى المانيا ام ان الدولة الالمانية تقدم له الرعاية والمسكن والمال كمعاش شهري وهذا هو الارجح…
لا يذكر صاحبنا عن نفسه إلا أنه من حلب وأنه كاتب في الخمسينات من عمره. متزوج وله ثلاثة أولاد، وأولاده متزوجون وموزعون في العالم. بقيت ابنته المتزوجة في حلب من أجل رعاية اهل زوجها المسنين…
وعندما أراد أن يحدثنا عن حلب وما حصل فيها بعد سنوات الثورة الأولى. اعتمد على الرجوع إلى أرشيفه من الصور…
كان سرده باردا وكأنه أراد أن يحرر نفسه من الحالة التي كوت كل السوريين وأراد التحدث عنها من خارجها. حلب التي قسمت الى شرقية تحت سلطة الجيش الحر او المجموعات المسلحة وحلب الغربية التي بقيت تحت سيطرة النظام. راجع ما لديه من صور لدمار حلب الشرقية نتيجة قصف النظام. حلب الشرقية حيث كان يسكن في طفولته. يذكر كل حي وشارع ، المسميات في ذاكرته ووجدانه. يقارن بين واقع الدمار وما ترسخ في ذاكرته، كما تحدث عن تقسيم حلب شرقية وغربية، وصعوبة التنقل والقصف والتدمير والقناصة بين الطرفين…
وعندما أراد التوسع في سرد ما حصل في سوريا او على الاقل حلب وجوارها. كان ذلك ما قاله صبري الضابط المجند المنشق الذي تعرف عليه في برلين. رجل مصاب بهوس الرقص وقد يكون مدمنا على الكحول والحشيش وحبوب المخدر. عندما علم ان صاحبنا كاتب ، اتفق معه على أن يلتقيان ليحدثه عن حكايته تفصيليا…
التقيا لأيام كثيرة وحدّثه عن كل ما عاشه. أنه ضابط مجند تخرج من الجامعة والتحق بالجيش خدمة اجبارية. من سوء حظه انها كانت ايام “الاحداث السورية” ، جاءه الأمر من قادته في الوحدة بالتوجه إلى احدى القرى المجاورة لوحدته لمحاصرة منزل والقضاء على من فيه من الارهابيين ذهبوا مجموعة عسكرية بصحبة دبابة. وصلوا الى القرية أغاروا على المنزل ودمروه على من فيه تبين أن من فيه نساء وأطفال قتلوا وتحولت جثثهم لأشلاء. تأثر الملازم صبري وعندما طلبوا منه الهجوم على قرية اخرى ليقوم بنفس الدور. قرر أن يهرب من الجيش. يعني ينشق. لكن دون ان يلتحق بالجيش الحر بل ان يهرب خارج سوريا. خرج من معسكره هاربا. طاردوه وأطلقوا النار عليه، أصيب في فخذه. هرب الى مقبرة قريبة ودخل في قبر مفتوح واستقر به أيام بجوار عظام الميت. جاءته امرأة أعطته غذاء وماء وجاءه كلب أصبح رفيق رحلته. المرأة تبين أنها من الجن واحبته وقررت مساعدته كل الوقت. عالجته من إصابته. ومارست الجنس معه. وساعدته في الخروج من المقبرة والهروب باتجاه الحدود مع دولة مجاورة. وفي طريق هروبه التقى بآخرين كثر هاربين من قتل يصيبهم في بلداتهم وقراهم. لقد أصبحت بلداتهم ساحة حرب بين جيش النظام والجماعات المسلحة. تابع مسيره مع آخرين وأصبح قائدا لمجموعة من النساء والأطفال والعجزة. وصل إلى الحدود. وهناك وجد سيلا من البشر كلهم هاربة من الموت. يريدون الخروج من البلاد التي تمطر عليهم القتل والتشريد. وحتى في الحدود المسورة لحقهم الجنود وأطلقوا عليهم القذائف ووقعوا ضحية القتل العشوائي… استطاع القفز من فوق السور بطاقة خارقة من الجن أهل الفتاة التي ساعدته. وهكذا وصل لألمانيا وها هو يعيش منغمسا في بار يشرب ويرقص ويعيش متعه الفردية بشكل دائم لعله ينسى ما حصل معه…
بالعودة إلى صاحبنا الذي يتوسع بالتحدث عن نفسه وانه يعيش علاقات مع شبكة من الأصدقاء والصديقات الألمان. الثنائي النسائي الممثليّتين اللتين تزوجتا واحضرتا رجل يجامع احداهما لتنجب طفلا لهما هما الاثنتان وهكذا حصل ، ولد الطفل ويعيش مع والدتيه الاثنتين. امّا صديقة صاحبنا التي احبته واحبها. أحبته بعدما تخلى عنها حبيبها لانها اصرّت ان تنجب طفلا سواء بزواج أو دونه وهو رفض، لقد كانت تعاني انها تعيش حياتها لا تعرف من اباها، لا تريد لطفلها ان يعيش ذلك الشعور مثلها. عاشت مع صاحبنا حياة كاملة بما فيها ممارسة الجنس. اخبرته ان حبيبها السابق طلب منها العودة له وأنه قبل أن يتزوجا وتنجب طفلا. رضي أن تعود لحبيبها لان صاحبنا لا يفكر بالزواج ولا إنجاب الأطفال. مارس الجنس معها قبل عودتها لحبيبها السابق بناء على إلحاح حبيبته، كوداع…
تزوجت وحملت وأنجبت طفلآ يشبه صاحبنا. كان زوجها الفنان الموسيقي المشهور سعيدا جدا لقد كان يحلم أن يكون ابنه بلون شعر اسود وعيون بنية ، وبشرة داكنة، ويتمناه أن يشبه صاحبنا، وهكذا كان. لقد قرر تسميته عمر…
هنا تنتهي الرواية…
في التعقيب على الرواية اقول:
لا اعلم الى اي درجة استطاعت الرواية أن تنصف واقع ألمانيا في السرد عنها في قرنها المنصرم. ولا في وصف البنية المجتمعية والحياة بكل تفاصيلها وتنوعها وغناها… لكنها أعطتنا صورة ما تجعلنا نعيش اجواء الحياة في برلين ونحن بعيدين عنها…
لكن اعتقد ان الرواية قد قصّرت في سرد الواقع السوري حتى ولو اطلالة متوازنة على ما حصل في سوريا وحتى في حلب في السنوات التالية على الثورة السورية…
يستحق الشعب السوري ان يقال انه ثار على الظلم بأي صيغة كان وإن استطرادا لرواية الكاتب “الصمت والصخب” أن الناس الذين كانوا عبيدا في دولة الدكتاتور الظالم المستبد الاب والابن قد ثاروا وطالبوا بحقوقهم وكرامتهم و بالعدالة والحرية والديمقراطية. نجحوا أو فشلوا هذا تحصيل حاصل. دخل على ثورتهم الاعداء كلهم يستغلونها هذا محتمل…
صحيح أن الحساب الختامي كان مزيد من المآسي للشعب السوري مئات الالاف الضحايا ومثلهم معتقلين ومغيبين ومصابين ومعاقين. ملايين من السوريين أصبحوا لاجئين ومشردين داخل سوريا وخارجها يستحقوا أن يرتفع الصوت باسمهم بأي شكل كان…
لكن هناك ثورة في سوريا حصلت تستحق ان توضع تحت الضوء وتكون عنوانا لمستقبل أفضل قادم، ولو تأخر قليلا او كثيرا…
ليس أغلى من دمنا نحن السوريين أي دم في العالم. وليس أحقّ من حقوقنا ان تُعرف وتوضح في كل مجال وكل مكان وبأي طريقة. تماما كما حاولت الرواية أن تحفر في طبقات الواقع الألماني. كنت انتظر ان تحفر عميقا في الواقع السوري لتكشف عار النظام المستبد المجرم وعار العالم الصامت عن ظلم السوريين وقتلهم وتشريدهم. ولا تكتفي بالمرور على حكايتنا السورية وكأنها سرد الجدات لاحفادهم عن الجن وعجائب أفعالهم…
نستحق نحن السوريين أكثر من ذلك بكثير…
رواية “أوراق برلين” للروائي السوري “نهاد سيريس” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الأخ “احمد العربي” الرواية كأنها سيرة ذاتية للكاتب بالرغم من عدم تصريحه بذلك ، لتبدأ من الأيام الأولى للثورة من خلال وجوده في برلين ، وتتضمن مجموعة من المقالات تنتقل من توصيف الثورة كثورة شعب الى ازمة ومن ثم حرب أهلية .