تمر اليوم الذكرى الثالثة والخمسون للفعل الانقلابي العسكري، الذي قام به وزير الدفاع الأسبق حافظ الأسد على رفاقه البعثيين صبيحة نهار ١٦ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٧٠، يوم أن انقض على السلطة ثم زج وأدخل (كل من يعتقد أنه من الممكن أن يشكل خطرًا عليه، وعلى سلطته التي خطفها منهم)، في غياهب السجون والمعتقلات الأمنية، ليطوي بذلك صفحة الانقلابات البينية داخل حزب البعث، وضمن مفاصل الجيش السوري المفترض.
هذا الجيش الذي أوهمونا جميعًا أنهم يعيدون بناءه وتمتين وجوده وتحديثه، من أجل تحرير هضبة الجولان السوري المُفرط به أصلًا من قبلهم، وكذلك ضمن سياق تفكير ديماغوجي آخر ادعوا أنه من أجل تحرير كل فلسسطين من البحر إلى النهر كما يقولون. ولقد كانت جل التركيبات العسكريتارية قبل حافظ الأسد وأيضًا معه تشتغل بدأب ومزاودة على هدي التمسك الشعاراتي بهدف وغاية، طالما ادعوها، وهي تحرير فلسطين والجولان، وإعادة بناء كذبة المقاومة والممانعة، كانت الانقلابات التي جرت في سورية ومنذ الاستقلال عام 1946جميعها، ومنها بالضرورة انقلاب ١٦ تشرين ثاني/ نوفمبر ١٩٧٠ تتسلق على تلك الغاية التحريرية لفلسطين، وتحتمي بها، وترفعها دائمًا لتبرير انقلابها على ما قبلها، وفي مواجهة كل من يقف من السوريين في طريقها، ومن ثم فهي التي كانت قد جهزت التهمة التخوينية لكل من تحرك يومًا ما في مواجهة سلطاتها الأمنية والنفعية، تحت ذريعة مفادها: أن هذا المعارض لها هو عميل بالضرورة للكيان الصهيوني، وأن قمعه وتصفيته هو عمل وواجب وطني بامتياز، من منطلق أن وجوده إنما يؤخر تحرير ساعة تحرير الجولان كما يضع العثرات الكبيرة المفترضة على طريق تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
لكن واقع الأمر في الممارسة السياسية والأمنية والعسكرية لهذه النظم، ومنذ أن اعتلى حافظ الأسد سدة الحكم والسلطة تقول: إن الدور الوظيفي المنوط به وبنظامه الأمني، يقتضي هو الآخر المزايدة عبر تلك الشعارات الخشبية، والاستمرار بها ورفعها دائمًا كي تكون سترًا وغطاءً لها ولفعلها الأهم وهو إلغاء السياسة من المجتمع السوري، وهيمنة الدولة الأمنية الفاسدة والمفسدة، التي تؤمن لسلطة الأسد البقاء في الحكم وخطف الوطن السوري إلى أجل طويل، حتى إن الإمساك برفع شعار (التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهويني) الذي زايد به حافظ الأسد الأب على الرئيس المصري الأسبق (محمد أنور السادات) .
وقد كانت شعارات وفكرة (هميونية) لم تكن واقعية ولاجدية، وهو ما جعل كل بناءات الجيش السوري مهيأة، ليس من أجل تحرير الجولان ولافلسطين، بل من أجل قمع السوريين، وكم أفواههم، والإطباق على أنفاسهم، وتنفيذ المقتلة الفاشيستية بحقهم، حتى جاوز عديد الشهداء السوريين على يد المجرم بشار الأسد وحده ومنذ أواسط شهر آذار/مارس ٢٠١١ أي منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة، أكثر من مليون ضحية سوري، بينما لم يصل عدد الشهداء السوريين والمصريين والأردنيين والفلسطينيين مع الإسرائيليين في حروبهم الأربعة أكثر من 54 ألفاً فقط، حسب إحصاءات وردت في أحد كتب الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل، كما قام نظام الأسد الابن بتهجير أكثر من ١٤ مليون سوري بين نازح إلى الشمال السوري، أومهجَّر قسري إلى دول العالم قاطبة، علاوة على تهديم البنية التحتية في سورية لأكثر من 65 بالمئة منها، حسب تقديرات أممية رسمية.
كان شعار التوازن الإستراتيجي المرفوع من قبل الأسد الأب شكلًا جديدًا للمزايدة والافتراء، وهو الذي لم ينجز واقعيًا فيه وعبره أي منجز، ولا كان بمقدور الأسد بناء جيش يوازي أو يتوازن مع جيش إسرائيل، وهو لا يريده كذلك، فليس الخطر على نظامه ودوره الوظيفي من إسرائيل، لأنه تعهد أساسًا بحماية (أمنها القومي)، عبر توقيعه لاتفاقيات (فض الاشتباك) عام ١٩٧٤ مع إسرائيل، أي بعد حرب تشرين (التحريكية) بأقل من سنة، وهي التي لم تكن إلا حربًا استعراضية أراد من خلالها حافظ الأسد الاتكاء إلى نصر وهمي مزعوم، يؤهله شكليًا لحكم سورية إلى الأبد، مع أسرته المتتابعة فيما لو استطاع ذلك، ويبدو أن الأهم بالنسبة لتوازناته الإستراتيجية العسكرية الوهمية، كان الإخلاص الكبير في الحفاظ على أمن إسرائيل، والبقاء من ثم متربعًا على قصر المهاجرين، بتوافق روسي أميركي معروف.
وليس مجيء وزيرة الخارجية الأميركية (مادلين أولبرايت) إلى دمشق إبان موت حافظ الأسد والاجتماع مع بشار الأسد وموافقتها عليه ومباركتها له في الحكم، إلا تعبيرًا واضحًا عن مدى ارتباط عائلة وسلطة الأسد الأمنية الطائفية بالغرب، تنفيذًا لمخططات غربية، وإستراتيجيات تريد بقاء الأسد في الحكم، مقابل التزامه بأمن (إسرائيل القومي) الأبدي، وهو ما نلحظه اليوم مع هذا التوازن، عبر سياسة الفرجة على ما يجري لأهل غزة، من قتل وذبح مستمرين، وتلقي الجغرافيا السورية المزيد من الصواريخ الإسرائيلية، بينما ما برح الأسد يَعِد باحتفاظه بحق الرد الذي لا يبدو أنه سوف يأتي أبدًا، وهو ما يشير أيضًا إلى أوهام طرح (وحدة الساحات) التي تحطمت مع أول معركة طالت أحد أطرافها الحمساوية في غزة، كما بقيت إيران مكتفية بشعاراتها وتصريحاتها العاقلة كما قالوا، وبقي الذي ينبح في الضاحية مكتفيًا بالنباح، بدون أن يعض، كما عبرت عن ذلك صحيفة إيطالية قبل أيام .
كل الشعارات التي طرحها نظام حافظ الأسد قبل بشار، وفي ظل حكمه أيضًا، بقيت مجرد شعارات جوفاء لم ترتق يومًا إلى الفعل، إلا تلك المتعلقة باستهداف إسرائيل ومقارعتها عبر قتل وضرب (عملائها) كما يقول بشار الأسد في إدلب والشمال السوري خارج سيطرته، حيث ينبري نظام العسكريتاريا الأسدي، ومع كل استهداف لمطاراته، أو نقاطه العسكرية من قبل طيران إسرائيل إلى الهجوم على إدلب والشمال السوري، من حيث ما كان يدعي أنه يقوم بقتل عملاء الصهيونية في عقر دارهم ، لتبقى شعارات ولوائح التوازن الإستراتيجي واهية خلبية، وغير قادرة ولا معنية بأي فعل نصرة لأهل غزة، من ثم حركة حماس التي يفترض أنها جزء لا يتجزأ من أهل الممانعة وحلفها.
المصدر: موقع أورينت