اتسم المشهد السوري بعد الانقلاب البعثي في العام 1963 بانغلاقٍ شديد، لا يُتيح للعالم معرفة ما يجري في داخله بسهولة، وهو الأمر الذي سوّقه النظام الحاكم ميزة نسبية تحت مسمّى “الاستقرار”. وفي الواقع، هذه البنية “المستقرّة” كانت ركيزة أساسية في ذهن حافظ الأسد، المهندس الذي خطّط وأشرف على تنفيذ بناء هيكل الدولة السورية الحالية، مستوحياً بذلك نماذج الحكم الشمولي التي جرى تطبيقها في دول شيوعية كثيرة إبّان الحرب الباردة. ومن سخرية قدر السوريين اليوم أنّ مخطط الأسد سيفرض عليهم معايشة أسوأ انهيار اقتصادي شهدته دولةٌ شرق أوسطية منذ بدايات القرن العشرين، إذ كان معدل دخل المواطن السوري منذ الانهيار الاقتصادي عام 1984 حتى وفاة الأسد الأب لا يتجاوز ستين دولاراً شهرياً، وكل زيادة في الدخل تتبعها زيادة في المواد الرئيسة وفي الوقود، فيزداد الفقير فقراً، والغني غنى! الملفت أنّ النفط كان يتفجّر بكميات ضخمة في حقول المنطقة الشرقية، والنظام متوقفة بياناته على بيانات حقول الجبسة ورميلان بتسعة آلاف برميل يومياً! أرقام هائلة كانت تقدّمها شركات التنقيب عن النفط، ليصل معدل الإنتاج السنوي لنحو أربع مئة ألف برميل يومياً، لكنها لم تدخل ميزانية الدولة، بل وضعت بحسابات خاصة وسرّية في بنوك سويسرا باسم أولاد حافظ الأسد. وعليه، ليس من الغريب أن تتصدّر العاصمة السورية قائمة “أسوأ مدن العالم للعيش” لعام 2022، وفقاً لتصنيف قائمة “إيكونوميست إنتليجينس” التابع لشركة “ذا إيكونوميست” البريطانية، فالحقيقة الجلية تماماً أن واقع (وليس مقولة) “سورية الأسد” تمثل الدليل القاطع على غياب “سورية الدولة”. في المقابل، تكون الحقيقة الأخرى الواضحة، أن الثورة السورية ما قامت إلا لأجل تغيير “المعادلة الأسدية”، أي لتكون سورية دولةً لكلّ مواطنيها، وليست إقطاعية عائلة، تعامل السوريين باعتبارهم أقناناً وعبيداً يحقّ لمالكهم التصرّف حتّى بأرواحهم! بعبارة أوضح.. جرى تدمير “سورية الدولة” معنوياً إبّان حكم الأسدين، قبل أن يتمّ سحقها مادياً بعد انتفاضة عام 2011 لأجل بقاء عرش الأسد. ويكون من البدهي القول، بناء على ذلك، إن استعادة “الدولة السورية” الحقيقية لا تكون إلا برحيل الأسد، شرطاً أول لإعادة بناء مؤسّساتها الراسخة الفاعلة على أساس “وطني” فعلي، وليس على أساس الولاء لفرد أو عائلة.
انطلاقاً من ذلك، ليس الانهيار الاقتصادي السوري الحالي وليد الثورة السورية بالتأكيد، بل هو انهيار ثنائي المصدر، إذ إنه من جهة نابعٌ من فلسفة اقتصادية سفسطائية سادت نصف قرن، ولا تُفهم حيثيّاته النظرية والتطبيقية إلا من منظور بناء مصالح فئات مؤطّرة ومحدّدة، سِمَتها الواضحة الولاء المطلق للسلطة السياسية. ومن جهةٍ أخرى، نجم الانهيار عن منهجيةٍ واضحةٍ لتدمير البنى التحتية من الأطراف المتصارعة، إذ تبيّن، بعد عقد على الحرب السورية، أنّ العدوّ الأول للمتنازعين لم يكن سوى سورية البلد والصناعة والزراعة والنمو، لأن حجم الدمار لا يمكن أن يُفسّر إلا عندما نضع في حساباتنا نواتج سقوط البراميل من طرف، وتفكيك المصانع أو حرقها من طرفٍ آخر.
بالطبع، شيء لا يصدّق أن تستحيل دمشق إلى أسوأ مدن العالم معيشة، بعدما كان الاقتصاد السوري كلمة السرّ في أيّ نزاع يحصل في المنطقة، فقد كان إنذار غورو الشهير للحكومة العربية في دمشق عام 1920، مثلاً، يحمل في بنوده السيطرة على الاقتصاد السوري من خلال التعامل مع العملات الورقية التي يُصدرها المصرف السوري اللبناني، وكذلك تسليم مقدّرات الدولة للاحتلال الفرنسي. وإبّان الحرب العالمية الثانية، ربطت فرنسا الاقتصاد السوري باقتصادها المنهك في الحرب! لنكن واقعيين ونسلّم بأنّ بداية الانهيار كانت عندما استخدم حافظ الأسد أسلوب “المشاركة في الجريمة” في شراء الولاءات والصمت عن نهب المال السوري العام، وجعل ذلك ديدن المسؤولين فأغرقهم في الفساد، ما جعل كثيرين متورّطين من حيث لا يعلمون، وشركاء معه في الدفاع عن نظامه! عندها أصبح الفساد أصلاً، والصواب استثناء، ما منح الأسد الابن إحساساً عارماً بأنّ بمقدروه الاعتماد على إرث والده، والتمتّع بعوائد السيطرة على الاقتصاد، وذلك باعتباره مصدراً للإثراء في المقام الأول.
بعد عام 2011 دشَّنت الثورة السورية مرحلة تطوّر “المنظومة الأسدية” التي اكتسبت فيها هوامش عدم القانونية والإفلات من العقاب مزيداً من الاستقلالية، وعندما رأى بشّار سلطته أمام التحدّي قرّر الانفتاح على الجزء الأشرس من نظامه والرد حصرياً بالوسائل العسكرية المرتكزة على أجهزته القمعية، وفتَح الباب أمام عملية انزياحٍ للمركز ونمو سريع للهوامش، الأمر الذي استنزف المركز على نحوٍ متزايد. وكانت هذه الهوامش المُبهَمة تُشكِّل مصدر الرَّيع الذي اعتاش عليه ضباط المخابرات، إلى جانب السلسلة الكبيرة من الأفراد العاملين في المنظومة. تدريجياً، أصبح توزيع هذا الريع بمثابة العنصر الرئيسي الذي يدعم استقرار المنظومة، كما أنَّ إزالة تلك الهوامش كانت ستؤدي إلى انهيارها، وكان أي ضابطٍ ممن لديهم نيَّة ساذجة لمعالجة الفساد يُعتَبَر عدواً وتهديداً وجودياً للمنظومة بأسرها، وسُرعان ما يُزاح سلمياً أو بغير ذلك، فصفةُ الدولة غدَت بمثابة واجهةٍ تعمل خلفها شبكة من المفترسين المستفيدة من الأسد الابن الذي برّر الفقر الذي وصل إليه السوريون اليوم بعبارةٍ أقرب ما تكون إلى اللؤم والتشفّي منها إلى السذاجة السياسية: إن “انهيار العملة السورية معركةٌ تدار من الخارج، وتستلزم وقوف المواطنين مع الدولة!”.
بطبيعة الحال، لم يقتصر الضعف الذي انتاب البنية السياسية للنظام السوري على التنازلات الداخلية التي قدّمها، بل امتدّ إلى فتح المجال أمام داعميه لنهب البلاد عبر استثماراتٍ طويلة الأمد، فأصبح هؤلاء الداعمون، خصوصا الروس والإيرانيين، الأكثر تأثيراً في صناعة القرار، بينما تحوّل نظام الأسد إلى لاعبٍ محليٍّ ضعيف، يصارع على حصته من الكعكة السورية. وعليه، ظهر نظام ذو رأسين مكان الوحش الذي آلت إليه الدولة السورية تحت حكم الأسد، وهي النتيجة الطبيعية للسياسات الاقتصادية في مرحلة ما قبل الحرب إلى جانب انهيار المنظومة الأخلاقية في ظلّ الحرب التي أوجدت حالة مأساوية، توسّعت دائرتها فشملت الأداء التنموي اقتصادياً وبشرياً، من خلال تدميرهما بصورةٍ مباشرة، ليتدهور الوضع إلى الدرك الأسفل ببلوغ الخسائر أرقاماً فلكية، ينتهي معها كلّ أملٍ ببناء سورية الوطن في الأمد المنظور. إذ تصدُر إشاراتٌ تبيّن حاجة الاقتصاد السوري إلى تريليون دولار للعودة إلى الوضع الذي كان قبيل الحرب مباشرةً. في المقابل، ثمّة أرقام مهولة تخصّ رجالاتٍ يحيطون برأس النظام، أموال تودَع في بنوك سويسرا والإمارات وروسيا، والشعب السوري لا يجد لقمة تسدّ رمقه، ومن يموت لأجل الأسد يُكافأ بعنزة أو صندوق تفاح أو ساعة حائط! ورغم الصدمة، سنجزم، باطمئنان، أنّ دمشق ستكون، حكماً، أسوأ مدن العالم معيشةً بعدما غدت السجن المظلم الذي ابتلع الحلم السوري الكبير، بدلالة أن المستشار الاستراتيجي في وزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قال حرفياً: “سورية انتهت. سورية تموت. وسيعلَن موعد الجنازة في الوقت المناسب. بشار الأسد هذا ستذكُره كتب التاريخ على أنه الرجل الذي أضاع سورية”.
المصدر: العربي الجديد