لا يعتبر موت حافظ الأسد مجرد نهاية طاغية أرسى دعائم حكمه المديد بالقوة والقهر، والبطش والقمع، أو نهاية حقبة لحاكم فاسد فتح الباب على مصراعيه للفساد، بأشكاله المختلفة، وهو ما لم تعرفه سورية من قبل، وحسب، فهو عدا عن كل ذلك، على فداحته، يعتبر عنواناً لمرحلة تاريخية ساهم في رسم ملامحها وتشكلها، باقتدار وجدارة، عبر أدواره الخارجية التي لم تكن إلا تدميراً للمنطقة وخرابها، توطئة إلى ما حل بها اليوم من إنكشاف كامل أمام المشاريع الطامعة بها والغازية لها، بدأ ذلك بضرب الحركة الوطنية اللبنانية وتصفيتها بأشكال مختلفة وعديدة، منذ دخوله إلى لبنان 1976، وصولاً إلى محاولة الإمساك بالقرار الفلسطيني الذي أدى في النهاية إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان ومنع عودة الشهيد ياسر عرفات/ أبو عمار إليها، كما افتعال الصراعات والمؤامرات معها وداخلها التي أنهكتها وقادتها فيما بعد إلى تنازلات مدمرة، بددت تضحياتها وقزمت نبل وطهر قضيتها، مروراً بالصراع الدائم مع العراق، الجناح الآخر من حزب البعث، ومن ثم الوقوف مع إيران في الحرب مع العراق التي كانت مقدمة مبكرة لاضعافه وتمكين الغزو الأميركي من زعزعة أمنه واستقراره وإسقاط نظامه، مافتح الباب لتغول المشروع الإيراني على المنطقة برمتها الذي تتوالى فصوله الكارثية حتى اليوم مهدداً حاضر ومستقبل المنطقة العربية.
الأدوار الإقليمية الوظيفية هي التي أعطت في المحصلة الأسد الأب مشروعيته في الحكم طوال ثلاثين سنة، هي مدة حكمه، بديلًا عن المشروعية الشعبية المغيبة والدستورية المنتهكة، وهي التي شكلت غطاءً إقليميًا ودوليًا له، لإحكام سيطرته على المجتمع السوري، وهو ما أعطاه “استقراراً” مزعوماً وهشاً مكنه في النهاية من توريث حكم سورية لابنه القاصر بشار.
في هذا السياق كان الأخطر في مافعله الأسد، هو الاعتماد على أسرته في سياسات القمع والسحق لتوطيد أركان حكمه، بدأ ذلك بالاعتماد على شقيقه رفعت وصولاً إلى توريث الحكم لابنه القاصر الذي سبقه في طغيانه ودمر سورية وشرد أهلها، مروراً بمحاولة (مركزة) كافة السلطات بيد ابنه باسل الذي قتل في ظروف تعتبر حتى الآن غامضة، ناهيك عن توزيع مفاصل السلطة على يد عائلته وأقربائه وطائفته، منذ البداية وحتى النهاية.
في هذه العجالة من الصعب اختزال كل المعالم السياسية لرجل كحافظ الأسد حكم سورية لمدة تزيد عن حكم تسع رؤساء حكموا سورية قبله، توجهًا بترتيب الأوضاع الداخلية والاقليمية والدولية لتحويل سورية إلى نظام جمهوري_ وراثي كان سيعم المنطقة، كنموذج، لولا ثورات الربيع العربي التي وأدت أحلامه وأحلام أشباهه في المنطقة، مصر، ليبيا واليمن.
كان من الصعب على حافظ الأسد أن يمرر كل مافعله بدءً من إعادة سورية إلى القرون الوسطى وصولًا إلى توريث الحكم، لولا الشعارات الكبرى التي تلطى خلفها، والتي كان الشعب السوري تواقاً لتحقيقها وتجسيدها، وكانت تجد صداها في المنطقة برمتها، كان طموح شعوبها في تجسيد مشروع نهضة عربية حضارية تحررية بلا حدود، وإذا كان من الصعب الوقوف عند ازدواجية خطابه وشعاراته مع ممارساته، وتفنيدها وتحليلها، في هذه العجالة، فإنه من المؤكد أنها خدعت الكثيرين على مستوى المنطقة ومكنته من الاستثمار في قضاياها الكبرى، وكانت نتيجتها تحول سورية إلى ساحة صراع إقليمي ودولي لاتعرف نهاياته، وبعد أن باتت عقدة تتكثف فيها كل الصراعات العالمية، وكل ذلك بدأ مبكراً ويمكن ملاحظته وتتبعه منذ أن كان وزيراً للدفاع ودوره في سقوط الجولان.
الأخطر في موت “الدكتاتور” عدم انتهاء تلك الحقبة السوداء من تاريخ سورية المعاصر، أو إسدال الستار عليها، فما يعيشه السوريون اليوم هو فصل جديد من مأساتهم، وماهو إلا امتداد طبيعي لسياسات الأمس التي رسمها مؤسس دولة العائلة ومهندس استراتيجاتها بالتعاون والتنسيق مع من أوصلوه لحكم سورية وباركوا توريث ابنه القاصر، وكل ذلك مرتبط بشكل وثيق، كما بات معلوماً للجميع، باسرائيل وأمنها التي احتفظت بكلمة السر في ماجرى ويجري.
اختلف كثيرًا على توصيف نظام الأسد وإعطائه الصفة الأكثر دقة وتعبيراً عن طبيعته وبنيته، نظام قروسطوي، شمولي، أوليغارشيي، عسكريتاري، استبدادي، إلا أن هذه النعوت بقيت في مجملها قاصرة عن توصيفه بشكل دقيق وعلمي، فهو مزيج من كل ما قيل وأكثر، وأعتقد أن فهم كنهه يحتاج، ربما، إلى اصكاك تعبيرات، أو توصيفات غير مسبوقة في علم الاجتماع السياسي، تستند إلى تحليل عميق على ضوء ما تكشف لنا في السنوات الأخيرة، وماتبين مما كنا نجهله، أو نتغافل عنه.
المصدر: اشراق