قراءة في رواية: أرض و سماء

أحمد العربي

سحر خليفة: روائية فلسطينية تكتب عن الشعب الفلسطيني والثورة منذ السبعينات، بدء من روايتها لم  نعد جواري لكم، وبعدها الصبار وعباد الشمس مرورا بالميراث وباب الساحة وايقونة وصوره ، ربيع حار، وصولا الى رواية حبي الأول، ثم الرواية التي بين يدينا. سحر خليفة تكاد تكون سجل لتاريخ الثورة والشعب وتطور الحالة الفلسطينية اول باول على كل الصعد ، وبشكل روائي طبعا. هي مع غيرها تشكل ذاكرة الثورة والشعب وضميرهم ايضا.
تبدأ الرواية من “نضال” ابنة القدس التي وصلت إلى سن الكهولة، والتي تعيد قراءة حياتها الماضية، تعيش واقعها المباشر في نابلس، نضال التي كانت في سن المراهقه عندما كان خالها امين وحبيبها ربيع صديقه من الثوار الذين شاركوا القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني في ثورة 1936 في فلسطين، حيث استشهد الحسيني في معركة القسطل، وكيف حملا جرح فلسطين التي بدأ من الانتداب الانكليزي عليها ، الذي سمح بمجيء  المهاجرين الصهاينة ليصنعوا دولتهم التي وعدهم بها بلفور الوزير البريطاني عام ١٩١٧م، خرج أمين وربيع الى لبنان للالتحاق بأنطون سعادة في لبنان، الذي كان قد ذاع صيته وما يريد ويطرح في كل المشرق العربي، سعادة الذي نشأ في بيئة علم، والده الطبيب المتنور الذي زرع به حب الوطن والإيمان بالعلم وبحق الناس كل الناس في حياة أفضل، متجاوزا لكل الفروق الاجتماعية والدينية والطائفية ،  لبنان الذي عانى من التخلف و الحرب و نتائجها المأساوية، خاصة أن سعادة عاش ظروف الحرب العالمية الاولى في لبنان، الجوع والفاقه والمجاعة و حرب السفر برلك ، حياة سعادة في الميتم وعدم تواصله مع والده بالمهجر. حمل سعاده في داخله كل معاناته، وعندما ذهب للمهجر فكر بان واقع بلاده يحتاج لحل جذري، خاصة ان زوال الخلافة العثمانية لم يعطي تحررا ووحدة بل اعطى احتلالا اوربيا، وتقسيم للبلاد حسب اتفاقية سايكس بيكو، ووعد اليهود بفلسطين . أدرك أننا في المنطقة سلعة للبيع، وارض للتقسيم، و شعب مهان وحقوق مسلوبة، فكر في صناعة حزب؛ اعتمد على فكرة أن الأمة السورية تتواجد في بلاد الشام، وأن عقيدة الكل يجب ان تكون  الامة السورية ومصلحتها . فكر ان  الدين او المذهب عند الناس هي جزء من البنية الاجتماعية،  امّا الولاء للأمة السورية هو الاساس، وان المستعمر الخارجي وتابعيه من أهل الحكم و الإقطاعيين والتجار ووجهاء الدين مجرد ادوات له وتستفيد بمصالحها الخاصة على حساب الشعب كله. شكل الحزب السوري القومي الاجتماعي للتحرير من الانتداب و إخراج اليهود من فلسطين ، وتوحيد سوريا التاريخية، عمل بدأب حامل رسالة، كتب الوثائق الفكرية الكاملة لحزبه، عمل  على بنائه التنظيمي ، شكل كثير من خلاياه في أغلب أقاليم سوريا، وفي بلاد الاغتراب التي ذهب إليها ليصنع امتدادا له ومصدرا للدعم المادي الذي يحتاجه مشروعه الكبير. عاد الى لبنان لكي يبدأ بتنفيذ مشروعه، كان ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، في هذا الوقت كان التحاق ربيع وأمين به في لبنان ، امين “ناموسه” يعني مرافق سعادة الشخصي وامين سره، اما ربيع فهو سائقه وحمايته الشخصية، سنتعرف على سعادة عن قرب من خلال ربيع وأمين، وعبر شهاده تاريخيه لربيع الذي اغترب وعاد في خريف العمر ليروي ما عنده لحبيبته نضال الذي تركها يوما مضى وهرب الى بلاد الغربة، ومن خلال ابنة أمين التي جاءت الى لقاء نضال أيضا، تتابع قصة والدها عبر رسالة ماجستير حول الموضوع ذاته، سيكون ربيع وأمين بالتتالي نافذتنا التي تطل على سعادة ومشروعه وعصره، وعلى سعادة الإنسان، سنتعرف على ليزا المقدسية التي أحبت سعادة الانسان والمشروع، والتي تعاهدت معه على الارتباط والتي انتظرته في اغترابه، ليعود متزوجا ولديه طفلتين ؟!. سنتعرف على زوجته جولييت التي تعاملت مع سعادة (كنبي) من جهة رسالته، وكأم حيث احتضنته انسانيا، سنتعرف على سعادة يوصل الليل بالنهار يوطد الفكر، يؤسس البنية الحزبية، يصنع مشروعه الوطني المتجاوز الطائفية والمذهبية والمنادي بالتوحيد السوري، الممارس للحياة على قاعدة التكامل والعلمية والتضامن ، عمل لاستصلاح الأرض حيث يقيم، أسس لسوق شعبي، سعى لبناء المدارس، ومراكز العلاج ، قدم للناس حوله نموذجا لحياة افضل في لبنان الثلاثينات والاربعينات الذي كان مغرقا بالتخلف والامتيازات والصراعات الطائفية والدينية، التي كان يستثمرها كل الأطراف. استطاع سعادة وعصبته أن يقدم نموذجا حياتيا ناجحا، وهذا ما اخاف أصحاب المصلحة والنفوذ بدء من الانتداب الفرنسي وممثلي الطوائف والأسر الإقطاعية المتنفذه، وأخذوا يحيكون حوله التهم العقائدية لاسقاطه معنويا قبل إسقاطه بالقوة واقعيا. اتهم انه ماسوني ولم ينكر، قال انه كان ولكن عندما كشف حقيقتهم غادرهم ، اتهم انه ضد الأديان، وقال انه يقرأ الاديان كخير وعلاقة شخصية مع الخالق، وان هناك من يستغل الاديان والطوائف من اجل تجزئة المجتمع واستغلال الخلاف واستثماره. وطرح مقولته الشهيرة :الدين لله والوطن للجميع. وقيل انه يتعامل مع اليهود، ومن ثم مع اسرائيل بعد إعلان تشكيلها، رغم انه يعتبرها عدوا استراتيجيا للسوريين بسبب احتلالهم لفلسطين وطرد شعبها منها، وظهر ان الانتداب ومعه القوى الدولية المتحكمة تراه قوة صاعدة ضارة يجب ان تزول، ولو بعمل عنيف مباشر، وهذا ما سيحصل، حيث يحاصر سعادة وعصبته في واديهم السعيد، ويدمر كل انجازهم ويودع السجن كل من وصلت يد السلطة اليهم ، مما يضطر سعاده للهروب الى سوريا ومعه امين وربيع، سوريا التي كانت قريبة العهد بانقلاب حسني الزعيم، الذي سيستقبل سعادة استقبال الأبطال و يعامله على انه قائد المستقبل، ويشجعه للاستمرار في مشروعه باسقاط الانظمة وصناعة التوحيد، والبداية من لبنان، سيكتشف سعادة وبجواره أمين وربيع ان وعود الزعيم كاذبة، وان امكانيات سعادة العسكرية والمالية والتنظيمية للقيام بثورة معدومة، لكنه سيقع ضحية اصرار بعض ضباط الجيش حوله وبعض المتحمسين للثورة في لبنان ، وهو مدرك انه عاجز عن النصر او حتى البداية الموفقة، لكنه يتجاوب مع ارادة المتحمسين رافضا ان يخذلهم ، ويقع ضحية تسرعه، فالثورة لم تتجاوز محاولات فردية عقيمة يتيمه للوصول لبعض المخافر، لم تنجح وكانت كل تحركاته مكشوفة سلفا، وتبين ان حسني الزعيم قد باعه للسلطة اللبنانية ووراءها (اسرائيل) والغرب الذي يدعم السلطة في لبنان ، وتسقط محاولة الثورة، يتم اعتقال التنظيم كله تقريبا، ويصبح سعاده خائن ومطلوب دوليا،  ويحاول الهرب للاردن، لكنه يغير رأيه في آخر لحظة ويقرر العودة الى الزعيم، يستنجد باتفاقه معه وعهوده له بالمساعدة والحماية، وليصنع نموذجا رساليا بانه لا يغادر ساحة المعركة ولو كان شهيد قضيته، وهكذا كان . فيعود إلى حسني الزعيم الذي يسلمه غنيمة الى السلطات اللبنانية هو و امين ، اما ربيع فقد هرب الى كندا ، ثم يحاكم سعادة صوريا في لبنان وليقدم مرافعة للتاريخ ، يشرح بها مشروعه عن المواطنة ورفض الاصطفاف الطائفي، ورفض التجزئة، ورفض الكيان الصهيوني في فلسطين، وليتم التعامل مع أفكاره كاعتراف في جرم موصوف، ويحكم بالإعدام، ونفذ به حكم الإعدام في ليل بهيم. وتطوى صفحته الشخصية، لكن لم تطوى حركته وأفكاره وتفاعلاتها للان. يسجن امين فترة ويتنقل بين البلاد حاملا جمرة انتمائه وحلم سعادة، ويغترب ايضا ربيع وهو يحمل جريمة خذلان قائده، وأنه آثر السلامة وترك قائده وقضيته وحبيبته نضال وغادر للغياب والغربة، سيعود أمين بعد عمر مديد وعمل دؤوب عبر ابنته لارا التي تريد اكمال قصة سعادة ، من خلال رسالتها للماجستير، وعبر ربيع الذي عاد بعد غياب دام عشرات السنين، عاد لحبه الاول نضال في فلسطين ليذكرها بما كان وبما يجب أن يكون وما اقرب البارحة باليوم.

وفي تحليل الرواية نقول:
* الرواية تغفل عن قصد مسارات الحزب القومي الاجتماعي من اعدام سعاده، حتى ايام الربيع العربي، وكأنها نأت بنفسها عن تحويل الرواية من قراءة لفرد فذ في التاريخ و فرادته، إلى بحث سياسي حول حزب مر عليه كما على الدعوات الفكرية في القرن الماضي كثير من التحولات والانقسامات والتقاطعات والموت او الموات ايضا.
* الرواية تحدد مسارها عبر استحضار تاريخ سعادة الإنساني والحزبي ورفاقه، وعبر استحضار واقع الفلسطينيين في نابلس، التي تقع تحت الاحتلال الفلسطيني، هذا الفلسطيني الذي مازال يتجرع مر الحياة اليومية، فاغلب الناس بين مهجر ومشرد ومعتقل ، وحياة التنكيل المستمر للفلسطينيين في اماكن تواجدهم في فلسطين المحتلة، فما زال الصهاينة يتوسعون في الاستيطان والمصادرة للأرض، وقطعوا أوصال البلدات الفلسطينية بالحواجز والاعتقال وتضييق العيش والعمل الدؤوب لنزع أسباب الحياة منهم،  فهم أمام معركة الماء حيث تؤخذ المياه من الجوف وتسرق علنا الينابيع ، ويصبح الناس ضحايا حياة مستحيله، ليصبح قمة النضال بالنسبة لهم ان يستعيدوا الماء، وان يهاجموا مضخات الصهاينة، وان يتحول الشباب الفلسطيني إلى ملاحقين ويخسرون مستقبلهم العلمي ، ويكون نموذجهم الشاب سعد المطلوب من الصهاينة لكونه خطط ونفذ ضرب مضخات الصهاينة، ليصبح ملاحقا والهدف أن لا يقبض عليه ويعيش فلاحا و متنكرا ، وان يحاولوا تهريبه للخارج ليصل لكندا ليتعلم ويعود اجنبيا لوطنه لعله يفعل شيئا، وإن لم يستطع، فيكون أنقذ نفسه ذاتيا. هذا اقصى ما يطمح له الفلسطيني تحت الاحتلال الان للاسف..؟!!.
* في الرواية حب يهيمن على البشر، فحيث البشر فهناك حب هو روح الحياة ووقودها، حب ليزا وسعادة، حب جولييت زوجة سعادة وسعادة، حب نضال وربيع، حب لارا وسعد ، وكأن كل أمور الحياة تتغير والحب هو الخالد الوحيد، الحب هنا انتصار لإنسانية الإنسان، لحقه الفردي والجماعي بالاحتضان، واخذ موقعه بالوجود، حياته السعيدة واستمرارها ايضا.
* في الرواية مرور على الربيع العربي، و تلميح غير مباشر بأن هذه الخيبات التاريخية أنتجت عند الجيل العربي الجديد هذا الربيع الذي ننتظر منه الكثير.
* في حدث الرواية سيلتقي ابطال الرواية عند سرير أمين في المشفى وهو يودع الحياة كشاهد على تجربة سعادة، رفاقه بجواره ابنته لارا وابنة اخته نضال ورفيقه في النضال ربيع بعد عشرات السنين من التباعد، وكأنهم يؤكدون نهاية مرحلة، ويؤسسون لبداية مرحلة جديدة.
* في الرواية قول غير مباشر عن ان انساننا لم يتوقف يوما عن بحثه عن حقه بالحرية والعدالة والكرامة الانسانية والديمقراطية والحياة الأفضل. في نص الرواية كان سعادة وتجربته، وفي الخلفية حضرت كل الأفكار والمصلحين والثوار الذين مروا على أمتنا في قرن من الزمن والعمل مستمر. وفي النص أعداء خارجيين لهم مصلحة دائمة بدوام التخلف العربي والاستغلال،  هم الغرب والانظمة التابعة المستبدة ، وما تمثل كدولة مستبدة ظالمة، ومصالح فئويه على حساب الناس و لكل بلد خصوصيته، لكن بذات المضمون. استبداد وقهر وقمع واستغلال وتبعية للغرب، تكامل مع مصلحة الكيان الصهيوني في بلادنا؛ وجودا وسيطرة ونفوذا مطلقا. بالسر والعلن.
* لم يتغير جوهر المشهد العربي عبر قرن تقريبا.
* ما زالت حقوقنا بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والدولة الديمقراطية وتحرير فلسطين  وتجاوز البنى المتخلفه والتجديد الديني وبناء دولة المواطنة والعلم على سلم أولوياتنا منذ قرن للان.

6.9 .2014…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “أرض و سماء” للروائية الفلسطينية “سحر خليفة” قراءة جميلة وتعقيب مهم للمبدع “احمد العربي” ، الرواية سجل لتاريخ الثورة والشعب وتطور الحالة الفلسطينية اول بأول على كل الصعد ، وبشكل روائي لتشكل ذاكرة الثورة والشعب وضميرهم أيضا .

زر الذهاب إلى الأعلى