أوجد الغرب الاستعماري حلّاً للمسألة اليهودية في بلاده عبر ترحيلها إلى فلسطين، وأحدث بذلك مشكلة للعرب، اسمها الكيان الصهيوني الاستيطاني في المنطقة العربية. فَعَلَ ذلك عبر استعماره فلسطين؛ فشُكِّل الكيان الاستيطاني هذا، ولا يزال. وكان، كلما، واجه حرباً، أو مشكلة حقيقية مع الدول العربية أو المقاومات العربية تلقّى دعماً غير محدود، عسكرياً، ومالياً. وهذه أميركا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى أرسلت حاملات الطائرات والمسيّرات المتطورة إلى البحر المتوسط لإعلان الانحياز المطلق لإسرائيل، وكرسالةٍ واضحة ودقيقة: سنقاتل أيّة قوى، أو دول، ستقف مع الشعب الفلسطيني في غزّة، والذي يتعرّض لأسوأ أشكال العدوان الإسرائيلي منذ أكثر من عشرة أيام، وجديدها مجزرة مستشفى المعمداني، والتي راح فيها أكثر من 500 فلسطيني.
بدت القشرة الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان للغرب، التي يَدّعي الانطلاق منها في سياساته الخارجية أنّها لم تكن يوماً إلّا أداة لإخفاء طبيعته الطبقية والعنصرية إزاء العالم. ففي داخل ذلك الغرب، تمّ التشدّد ضد أيّة مظاهرات للتنديد بالعدوان الإسرائيلي وللوقوف مع الحقّ الفلسطيني بأرضه، وبغض النظر عن الوسيلة التي أستعين بها، وتبيّن كذبها، وهي أن مقاتلي حركة حماس قطعوا رؤوس الأطفال واغتصبوا النساء، فقد استمرّ التشدّد ذاته، وهذا ما يعبّر عن تلك العنصرية؛ وبتجاهل المظاهرات التي تتوسّع يومياً في أوروبا وأميركا وأستراليا وسواها، فإن الحكومات الغربية تظهر عارية بأنّها لحماية مصالح رأس المال أولًا، وللحفاظ على إسرائيل، ككيانٍ متقدّم لها في المنطقة، وفي العالم. ولهذا لم تتوانَ عن تمزيق تلك القشرة، وتجاهلت كل تاريخ هذا الكيان الإجرامي من ناحية، وكل القرارات الدولية، المُنصفة للشعب الفلسطيني، وكل مبادرات السلام من أجل الوصول إلى الأرض مقابل السلام، و”دمج” إسرائيل فعلياً في المنطقة. لم تقبل ذلك إسرائيل، ولهذا لم تطبق اتفاقيات أوسلو ورَفضت المبادرة العربية للسلام 2002. ولم يضغط الغرب على إسرائيل لِتغيّر من طبيعتها الاستعمارية والعنصرية. للدقة نقول: لا مصلحة لذلك الغرب بأن تغيّر إسرائيل من طبيعتها الكولونيالية بالأصل، ولهذا دعمها ويدعمها الآن.
يخطئ ذلك الغرب كثيراً بتجاهل الحقوق العربية، وربما هذا ما دفع دولا عربية كثيرة إلى الاتجاه نحو الصين أو روسيا. الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم هو أوّل شرطٍ في تعزيز العلاقات العربية والغربية، وهذا لن يتحقّق قبل تفكيك الكيان الصهيوني، وتشكيل دولةٍ واحدة، اسمها فلسطين، ويعيش فيها العرب واليهود على قدم المساواة في الحقوق. من دون هذا الشرط، والانحياز لدولة الكيان لا يمكن للعرب وليس للفلسطينيين فقط، ومهما تغيّرت الأنظمة، أن يتقبلوا هذا الكيان، أو يقيموا صلاتٍ حقيقية مع الغرب. المقصد، هنا، أن من يعيق إقامة علاقات مستقرّة ومستمرّة مع الغرب ليسوا العرب، بل تلك السياسات الاستعمارية التي ينتهجها الغرب إزاء فلسطين أولاً، وإزاء العرب ثانياً.
جاءت عملية طوفان الأقصى، لتَقضي على استقرار الكيان، ولتهزّه من “شروره”، وقد بدا أنّه تأبد، وهيمن على العرب عبر الاتفاقيات الإبراهيمية. بل لقد توضّحَ أن تلك الاتفاقيات عديمة القيمة والوزن، فالكيان الذي كان سيحَمي تلك الدول، هَشّمته عملية طوفان الأقصى، وتداعت البوارج الغربية لحماية الكيان، وبالتالي، عاد كيانا استيطانياً غربياً، وزال الوهم أنّه دولة ديمقراطية وساعية للاندماج بالمنطقة، ومستقرّة، وكان يخطّط لمزيد من التطبيع، مع السعودية مثلاً، بل وظهرت الطبيعة العنصرية للغرب كذلك.
أوضحت تلك العملية أن القليل من التنظيم، يمكنه هزم الكيان، فكيف لو كان التنظيم أكثر دقّة، وليس بقطاع غزّة المحاصر منذ 2005، والمعزول عن العالم كسجنٍ مفتوحٍ لأكثر من مليونين وثلاثمائة ألف إنسان. أوضحت عملية طوفان الأقصى أن تفكيك هذا الكيان ممكن، وعبر تشكيل الدول العربية جيوشا متقدّمة وإجراء التحوّل الديموقراطي؛ وهذا ما أرعب الكيان ذاته، وتهمّشت كلية أساطيره والمحدّدة بأن: جيشه لا يقهر، ومهيمن على العرب، والأكثر استقراراً لأنّه ديمقراطي وصناعي.
الآن، العدوان الهمجي يُدمر غزة، ويقتل آلاف الفلسطينيين، ويتلقى دعماً أميركياً وأوروبياً ودون شروط. ضد ذلك، رفضت أغلبية الدول العربية تهجير أهل غزّة إلى مصر وسواها، ورفض أهلها ذلك بشكلٍ لا عودة عنه، ومهما حدث لهم، واتّجهت “الدول” نحو عقد مؤتمر لمناقشة القضية الفلسطينية وليس فقط قضية غزّة في مصر. وزار وسيزور وزراء خارجية أميركا وأوربيون إسرائيل والمنطقة، وكان مقررا أن يعقد الرئيس الأميركي بايدن، أمس الأربعاء، لقاءً في عمّان مع ملك الأردن والرئيسين المصري والفلسطيني؛ قبل إلغائه بعد مجزرة مستشفى المعمداني المرعبة.
هناك حركة دبلوماسية واسعة، عربية وغربية، وإذا كانت الغربية منها تتكلم عن دعم إسرائيل، والتحذير من الحرب الإقليمية، ومنع حدوثها، فإن الدول العربية، تطالب بإيقاف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات إلى غزّة، ويؤكد مسؤولو الأمم المتحدة الانهيار الكامل للأوضاع الإنسانية، وضرورة إدخال المساعدات الطبية والغذائية والمحروقات. شجبت روسيا ودول عديدة العدوان الإسرائيلي، وطالبوا، عبر تصويتٍ في مجلس الأمن، بإيقاف إطلاق النار، وإدخال المساعدات، وهو ما رفضته بريطانيا وأميركا وفرنسا، وأغلبية الدول الاستعمارية.
يؤشّر “طوفان الأقصى” إلى أن الحصار على غزّة كان خاطئاً، وتفشيل اتفاقيات أوسلو كان أمراً غبيّاً للغاية، وكذلك عدم إجبار إسرائيل على توقيع المبادرة العربية 2002، وأن كل السياسات الإسرائيلية اليمينية والأكثر فاشية وصهيونية في السنوات الأخيرة أزّمت الوضع الفلسطيني بصورة أنتجت، مواجهات كثيرة في الأعوام الأخيرة، وبالنهاية الطوفان.
لا يوجد حل فعليّ وجذريّ إلّا الدولة الواحدة وللجميع. أمّا الاستمرار بتأييد العدوان، وتهجير أهل قطاع غزّة من شماله إلى جنوبه أو إلى الخارج، والتفكير بتهجير أهل الضفة الغربية وترانسفير لعرب الـ 48، فهو وصفة فعلية لإنتاج مقاومات مستمرّة. وربما تكون “حماس” الأكثر عقلانية وتوازناً؛ لم يعد لهذا الكيان من مستقبل بعد عملية الطوفان ومجازر غزّة، وصار تفكيكه الحل الوحيد للتصالح مع الغرب؛ فهل يغيّر الأخير من سياساته الاستعمارية؟ وهل يعي العرب ما أنتجه “طوفان الأقصى” من متغيّرات لصالح امتلاك أسباب ذاتية للنهوض والتطوّر العام وحل المشكلة الفلسطينية بشكل جذري وإسدال الستار على اتفاقيات الذل، الإبراهيمية وسواها؟
استطاعت كتائب عز الدين القسام وبقية الكتائب، المعزولة عن العالم، هزّ إسرائيل وجوديّاً، والتفكير بالعودة إلى الغرب الاستعماري. والسؤال: أليس ذلك تحصيل حاصل من الدول، إن هي سعت؛ إنها الإرادة؟
المصدر: العربي الجديد