بعيداً عن التبرير أو التجميل، أقدم رأيي بمعايير منهجية تقوم على:
١- حرية الوجود شرط لحرية التطور.
٢– من الممكن الى ما يجب ان يكون.
٣- (الكلّ) يحتوي (الجزء) ولا يلغيه. و (العام) لا يلغي (الخاص)، والعلاقة بينهما جدلية أخذ وعطاء.
٤- أهمية تحديد المنطلقات والغايات والاسلوب.
فلنبدأ بالقاعدة الأولى :
١- حرية الوجود شرط لحرية التطور
ومنه: حين يحترق البيت فأًول المهام انقاذ الأرواح .. كبشر ، بغض النظر عن انتماءاتهم مهما كانت .
و إعلان الوطنية السورية يهتم بأنه إذا لم ننقذ أنفسنا وأهلنا ووحدة شعبنا وارضنا وعموم السوريين فسنذهب كلنا ضحية التعنت المذهبي او القومي او الإسلامي أو الطائفي ، كون الواقع الحالي ونتائج السنوات التسع التي مضت خلفت تشظي وتشرذم وتفتت بين السوريين ، حيث وبمساندة حلفاء كل ( فريق ) تم قتل السوريين لبعضهم البعض ، وأصبح جمع كلمتهم من جديد يحتاج الى خطاب مرن مدور الزوايا علّ وعسى يُخرجهم ذلك مما وصلو إليه ليستردوا وجودهم ويحموا ما تبقى من أسباب حياتهم ، وليخرجوا من قاع الهوة ، الى سطح التفاعل الإنساني بحثاً عن مقومات وجودهم الذي شطبته سنوات الحرب فضلاً عن سنوات القهر.
القاعدة الثانية:
٢- من الممكن إلى ما يجب أن يكون:
خلال سنوات الثورة تم طرح العديد من المبادرات التي طرحت نفسها بسقفها العالي ، إما إنطلاقاً من أيديولوجيتها (اسلامية،
أو قومية عامة أو خاصة ، أو يسارية ، أو ليبرالية ، أو مذهبية ، أو طائفية ، .. الخ .. ) وكل هذه المشاريع باءت بالفشل لأنها كانت تطلب كلّ الممكن ، المستحيل واقعياً ، أو أنها كانت تكتفي بأقل من المبادئ التي يقبلها الشعب السوري ، وبالتالي فإن إعلان الوطنية السورية جاء طرحه في إطار الممكن ( شريطة أن ينجح بتحقيق شروط نجاحه الذاتية والموضوعية ) فقد طلب الحد الممكن الذي يجمع السوريين لأجل سورية حرة كريمة أرضا وشعباً ، هذا الممكن جاء منسجماً مع متطلبات الثورة في شعاراتها العامة ، ورسم ملامح سورية المستقبل كبلد ديمقراطي تتحقق فيه العدالة والمواطنة ، فطلب الإعلان ان يحتمي السوريين الآن بسوريتهم التي ترادف وطنيتهم ، وهنا وفي هذا الإطار وفي هذه الظروف نجد أن مفهوم الوطنية السورية ينسجم انسجاماً كاملاً مع المرحلة ،لأنه يعني إنقاذ البيت وأهله من قلب الحريق ، ويكفي أن ننجح في تحقيق هذا الممكن لنتطلع ( مجتمعين وبوعي وطني متقدم ) إلى ما يجب أن يكون .
القاعدة الثالثة :
٣- الكل يحتوي الأجزاء ولا يلغيها. والعام لا يلغي الخاص ، والعلاقة بينهما جدلية ، اخذ وعطاء.
هنا يبدأ تحقيق ما بعد الممكن أي ما يجب أن يكون ؟ وطنياً ، أو قومياً ، أو إسلامياً جاء في الإعلان:
(( بيئة حّرة للتنّوع؛ سورية المستقبل وطٌن تتاح فيه الحرية لجميع القوميات والأديان والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيات )).
بهذا يصبح الباب مفتوحاً لجميع السوريين الوطنيين ، وخاصة أصحاب المشاريع التي تتجاوز سورية ( كدائرة وطنية ) الى ( الدائرة العربية ) أو ( الدائرة الإسلامية ) ، والذين كانوا قلقين على مصير مشاريعهم الأيديولوجية .. وبعض هذا القلق مشروع تماماً إذا كان يتعلق بالحقائق التاريخية الحضارية والثقافية وعلاقتها بالدائرة الأولى … فهذه الحقائق التاريخية لا يمكن لأية وقائع على الارض او وقائع تاريخية ترتبت أو تترتب ، لا يمكنها إخراج سوريا من البئر الغائصة فيه سياسياً واجتماعياً ، ولا يمكنها أن تنسف تلك الحقائق التاريخية أو الحضارية أو الثقافية ، وعليه فسيبقى العالم بالرغم منه ، وبالرغم منا ، يعامل سورية أو ينظر لها ، على أنها جزء من الجغرافيا والديموغرافيا العربية ، بل والإسلامية أيضاً ..
وإن أحدا في العالم لا يستطيع أن يسلخ سورية مثلاً أو اليمن … عن محيطها العربي الجغرافي والحضاري مهما حاول .. ومثله الاسلامي ..
وعليه فيجب أن لا يقلق القوميين ( وأنا منهم ) ولا الاسلاميين ، إذا كان كل من زاويته يؤمن بصحة الحقائق التاريخية والعمق الحضاري والثقافي الذي نرتبط به ، او يرتبطون به .
من هنا فإن بناء وعي وطني سوري – ان نضج – فإنه سيدرك كل ابعاده المصيرية والصيرورية عربياً أو إسلامياً في إطار تحقيق الإنتقال ( بما تحقق من وعي وطني وديمقراطي ) إلى الروابط الحضارية والتاريخية والثقافية .
حيث الكل ( الوطن العربي ) سيبدأ ( مجازاً ) بمخاطبة الأجزاء التي أصلاً بقي محتويها(منتمياً لها ومنتمية إليه موضوعياً ) منتظرا نضوجها ليبدأ تفاعل وتجاذب ينتقل بالأجزاء نحو علاقة تسترد عناصرها الحضارية والثقافية بطرق معاصرة ، لتؤكد روابط جامعة تتناغم مع ماضٍ حضاري ومستقبل واعد.
إن فكرة العام الذي يحتوي الخاص ويحدده ولا يلغيه (وطنيا) لا يختلف بمفهومه وتطبيقه (قوميا ) ،ويصبح ( الوطنيون السوريون ، والوطنيون المصريون ، والوطنيون المراكشيون ، … الخ متاح لهم التفاعل والحوار والجدل الاجتماعي للإنتقال إلى روابط وحدوية تصنع مستقبلا وطنياً شاملاً ، على فرض تعميم التجربة الوطنية في الأوطان العربية التي رسمت وفق سايكس بيكو ، وفي ذلك حينها فليتنافس المتنافسون .
ومثل الإسلاميين كمثل العروبيين، ولكن ضمن دائرة اسلامية اوسع واعقد وأصعب ، ولكن ايضاً الاعلان يقول : أنه في تحقيق ( الأيديولوجيا ) لا يمنع أن يتنافس المتنافسون في إطار وطني مدني ديمقراطي ، وهنا لا نناقش صحة أية أيديولوجيا ( ما بعد وطنية ) أو خطأها ،
إنما نؤكد على الفرصة الديمقراطية للتفاعل والجدل الإجتماعي المتاح في دولة سورية الجديدة كما طرحها الإعلان.
- وهذا ما أكده ( إعلان الوطنية السورية ) حيث جاء فيه :(( الوطنيةالسورية ليست
- نقيضاً أوبديلا للانتماء القومي أوالديني أوالطائفي، وتنبع جوهريتها من كونها الاربطة
- التي تبني الدولة، وتحقق المشترك بين المواطنين، وتوفر المظلة التي تضمن حماية
- التنوع الديني والمذهبي والإثني. الوطنية بهذا المعنى، منظومة أفكار ومبادئ وأسس
- وقوانين، تحررنا من منطق الانتماء الجبري والانتماء الاسمي والانتماء اللغوي، ومن
- هنا تبرز الأهمية الشديدة لإحياء وإعادة بناء قيمة المواطنة، في ارتباطها العضوي
- بالوطنية السورية من جهة، وفي كونها الحل الأمثل للحفاظ على تنوع المجتمع السوري ثانيا، وتعني المواطنة العضوية الكاملة في الدولة الوطنية، وتتجسد بأركانها الثلاثة
- المتلازمة؛ المساواة الحقوقية، والحرية الفردية، والمشاركة في الشأن العام وحياة الدولة )
بعد ذلك ، بعد تحقيق ذلك ، فليلتفت كل إلى مشاريعه السياسية وليعمل – في رأيي عليهافمن يريد أن يسعى ويناضل مرتفعاً بمعايير الوطنية لتكون ( الوطنية العربية او القومية )
فليفعل في إطار التعددية الديمقراطية وليوحد الوطن العربي كما توحد الاتحاد الأوربي بل وأعمق .. لن يستطيع أحد من أن يمنع الفاعلون من اكتساح الشارع العربي وتحقيق حلم الوحدة العربية إذا تمكنوا من ذلك ..
وكذلك الحالمون بدولة اسلامية تضم العالم الاسلامي ، فالميدان أمامهم ، لن يستطيع أحداً أن يمنعهم من أن يحلموا أو يفعلوا أو يكسبوا الأكثرية في إطار قوانين الدولة الوطنية الديمقراطية السورية ..
ما نريد أن نؤكد عليه أن هذه المرحلة بعيدة كل البعد عن القفز الى المشاريع الأيديولوجية التي تحولت الى انغلاق وطني وعزلة وانعزال، وفشل الجميع في تحقيق احلامهم لأنهم قفزوا فوق حقائق وطنهم ووطنيتهم المشتعلة تحت أعينهم ، يبردون قلوبهم بجليد احلامهم ، فلا هُم هناك ، ولا هُم هنا ..
القاعدة الرابعة :
٤- تحديد المنطلقات والغايات والاسلوب.
المنطلق:
جاء في ( اعلان الوطنية السورية ) ما يلي :
(( • حرَمة الّدماء والممتلكات؛ ينبغي التأكيد، اليوم وغدا، على حرمة الدماء والممتلكات الوطنية العامة والخاصة خارج إطار الدفاع المباشر عن النفس، ونبذ العنف بصوره وأشكاله كلها،و إدانته الصريحة القاطعة، وتجريمه وطنًّيا، وإدانة التحريض على العنف، أو تسويغه أو تبريره، أو الترويج له، أو الدفاع عنه، وإدانة الإرهاب بأشكاله ووجوهه ومصادره كافة، والتأكيد على التزام الوسائل السياسية السلمية في العمل الوطني العام، وحماية النسيج الوطني من الفتن الطائفية المصنعة والحقيقية، ومن الدعوات العنصرية، ومن كل ما يهدد سلامة الوطن، وتضامن أبنائه، ووحدة ترابه )) .
و نرى في هذه الفقرة أفضل منطلق تم طرحه كمجمل لضوابط الجدل الإجتماعيي والذي يحميه ويجعله آمناً من أن يتحول التفاعل الاجتماعي والسياسي والفكري الى صراع إجتماعي ، فيعود بنا الى تهديد حرية الوجود ونسف حرية التطور.
الغايات :
لقد طرح الإعلان العديد من الغايات او الأهداف التي تعهد بتحقيقها وتطويرها :
منها:
- العدالة الإنتقالية ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب ، والكشف عن المفقودين وإطلاق سراح المعتقلين.
- النظام الديمقراطي • الحريات والسلم الأهلي • حقوق القوميات والجماعات الإثنية •
- وحقوق المرأة • والنظام الاقتصادي للدولة • والموقف من الجيش والأجهزة الأمنية •
- ونظام الحكم الحالي الاستبدادي • والسياسة الخارجية للدولة الجديدة • وتحدث الإعلان عن الموقف وتقييم علاقات القوى وتحالفاتها • وعن تخوين الإرتهان للخارج • وعن قوى المستقبل ومزايا خطابها الوطني والخارجي …
- وغيره الكثير من التفاصيل التي تجعل قراءة الإعلان ضرورة لا غنى عنها .
الأسلوب :
من الطبيعي أن الإعلان لا يتحدث عن الأسلوب او آلية تطبيقه كونه لا زال إعلاناً قابلاً للحوار ومفتوحاً للحذف والتعديل .
ولابد هنا من طرح سؤالين مترابطين كَلَفْتِ نظر:
الاول : ما هي آلية تنفيذ هذا الإعلان ومداها وأشكالها خصوصاً ان الإعلان طرح تحريرأراضي محتلة قديماً ؟ وطرح طرد قوى محتلة حديثة ؟ من خلال تأكيد الإعلان على سورية كاملة غير منقوصة أرضاً وشعباً ؟
الثاني: هل هذا الاعلان مقدمة لإشهار ( أداة منظمة ) تتبنى العمل على تحقيق أهداف الإعلان المطروحة وهو مانراه ضرورة ملحة ومكملة ، ولو بدأ بتشكيل ورشات عمل تعمل على تطوير هذا الإعلان ليكون برنامج عمل ؟
في الختام:
لقد قرأت (اعلان الوطنية السورية) ولاحظت فكرة تدوير الزوايا ، ولكن وجدتها ضرورية للنهوض بما تبقى ، وهذا الاعلان استجاب بعموميته الى الحاجة الملحة لجمع الكلمة،وارى انه لو غاص اكثر في التفاصيل لتحول من دعوة وطنية الى دعوة حزبية مغلقة ..
وقد استجاب الطرح في عموميته او تدوير زواياه لكل الأهداف السورية الوطنية للثورة ..من ناحية أخرى فإن سورية تملك حقاً ذلك البعد الحضاري الممتد في عمق التاريخ ، ولو ان حدوده كانت اوسع بكثير من الجغرافية السورية الحالية دون شك.
ختاماً أرى ان الورقة أو الاعلان هو مقدمة لتخطي مرحلة التفتت وذلك بلملمة الشمل الوطني وإخراجه من عمق التشظي الى السطح الذي يجعلنا نقوم بالخطوة التغييرية الأولى .