المِنْقَلَة

عبد الحفيظ الحافظ

يُعرِّف أبناءُ ” بيت يا شوط ” أنفسهم:

– نحن من قرية ” السنديانة ” أومن قرية ” المنقلة ” تتوسط ساحة ” بيت ياشوط ” أكبر سنديانة في الجبل الغربي ، شجرةٌ عجوزٌ لكنها منتصبة الظهر، فارعة الطول ، تظلل أغصانُها مقام الشيخ حسن وجامع القرية ، وبقعةً تكفي لالتئام شمل أبنائها في كل أصيل.

يتحدث أحد معمري القرية قائلاً:

كان جَدي يلعب مع أقرانه في أحضانها، ويحلف آخر ” والخضر” أن جَدَه كان يتبارك بها، ثم يَخْفت صوته متابعاً حديثه: كمْ لجأ إليها العشاق خوفاً من عيون الغرباء، غير آبهين للأفاعي التي كانت تحتمي بأغصانها من شمس حزيران.

أما ” المنقلة ” ذات العيون السبع ، المتناظرة في كل جانب ، تلك العسلية التي قُطعت من كبد شجرة توت عندما بلغ القمر سن الرشد ، مِنقلةٌ ليس لها أختٌ في الجبل الغربي ، أسيلٌ تحتضن عيونها حَصْبَاءَها السبع بحنو الأمهات .

عندما تسقط حبات الحَصَى في أحد ” جُوَنها ” تتراقص قبل أن تستقرَ بعد نوحٍ حزين ، لكنها تقفزُ مغردةً فرحةً عندما تسقط منفردةً في رحمِ ” الجونة ” .

فاخر أبناء بيت ياشوط القرى المجاورة بسنديانتهم ، التي لا يدركها الشيب ولا الوهن ، ومشوْا مرحاً أمام الآخرين بمنقلتهم ، فأشهر المعارك بين فرسان المنقلة في الجبل الغربي لا تتم ولا قيمة لها إلا إذا خاضها الفرسان تحت ظلال السنديانة العبلاء وبالمنقلة العسلية .

منذ سنين سرى بين أبناء الجبل الغربي أن منقلةَ بيت ياشوط لا تسكت على مَن يغش بحضرتها وفي رحابها ، ولم يستطع المذياع أن يأخذ محبيها ويبعدهم عن عشقها ، بل تسللت عسلية العيون إلى أحاديث العشاق والشباب ، فتسمعُ فتاةً تسأل على استحياءٍ من يبادلها النظراتِ والهمسات ، وهي تداري غيرتها من المنقلة :

– أتعرف مِنقلَتَنا ؟. فيجيب الفتى :

– نعم . لقد لعبت بالعسلية بالأمس ، ثم تتابع الفتاة بدلالٍ :

– مهري منقلةٌ تشبه العسلية ، ساحرة الرجال ستغري والدينا للسمر معاً ، فهي تقرب قلوب المحبين .

لكن ” وسوف درويش ” أشعل بيت ياشوط ، بل لبت النار بقرى الجبل الغربي كلها ، لقد ادعى أن المختار اغتصب قطعة أرضٍ له ، أرضٌ ورثها هو على تخوم قرية ” بشيلي ” ، فوقفت القرية على أقدامها ولم تقعد بعد ذلك .

وقفت ” بيت ياشوط ” برجالها ونسائها وأطفالها خلف المختار ، ألح الرجال على وسوف أن يذعن لمشيئة المختار ، طلبوا منه أن يتراجع عن ادعائه بملكية الأرض ، لاسيما أن الأشواك وشجيرات البطم والغار تنتصب بها ، ولا تسمح لأحد بالعبور بها ، وهي مهجورةٌ منذ عشرات السنين ، تسكنها الأفاعي .

رفض وسوف الذي عُرِفَ بالعناد كلَّ ما قيل ، غض الطرف عن بعض التهديدات المضمرة ، أصرَّ على حقه بالأرض ، فهي أمانة في عنقه ورثها عن أبيه وجده ، فكيف يفرط بها ؟. وعندما طُرحت فكرة التحكيم بينهما قبل بها ، بل خاطب محدثيه :

– ليسمِ المختار من يشاء من وجهاء الجبل ، فأنا أقبل بما يحكم به .

بعد مداولات طويلة وقع الاختيار على وجيه قرية ” بشراغي ” ، فذهب وفد القرية يتقدمهم المختار ، يسير خلفه ولداه ، الصغير يحمل المنقلة والكبير يتأبط ” الجفت ” ذا الفتحتين .

مشى وسوف خلف الناس حافياً يجر أطماره ، وكلما مرَّ بشجرة بلوط كان يأخذ بعضاً من حباتها ، يسحقها بين أضراسه ثم يمضغها مهرولاً ليلحق بالركب .

استقبل وفد ” بيت ياشوط ” بالترحاب من أهل ” بشراغي ” تقدم وجيهها وعانق الرجال ، وبعد استراحة تحت شجرة توت وإبريق من الزُّوفى ، دار حديث عن موسم الزيتون والدخان وقصص الدرك الذين يجوبون الجبل على خيلهم .

ثم وضعت المنقلة بين المختار والوجيه ، حدقت حصاها بالعيون المتعبة ، فالتحق أبناء كل قريةٍ بوجيهها ، ربطوا عيونهم بعيون المنقلة ، في تلك اللحظة غزلت الحَصْباء الملونة بألوان قوس قزح ، ودغدغت آذانَهم ترانيمُ تزاحمها بعيون المنقلة .

لكن وسوف وقف بعيداً ، وحيداً ، تابع اللعب بظمأ عابر صحراء يقتله العطش لقطرة ماء ، حتى فاز وجيه بشراغي ، فهنأه الرجال بالفوز ، شدوا على يديه .

أمر الوجيه الخصمين بالجلوس على يمينه وعلى يساره ، ثم جلس قاضياً بينهما ، فانتفض وسوف ملسوعاً ، يكاد أن ينفرَ دمعُه من عينيه ، سأل :

– مَنْ هو القاضي ؟.

أشار الرجال إلى وجيه ” بشراغي ” ، وانخرطوا بالضحك حتى أن بعضهم انقلب على قفاه .. خرج وسوف من حلقة الرجال ، صرخ بأعلى صوته أمام ذهول الجميع :

– أنا لا أقبل بهذا الرجل قاضياً بيننا ، فساد الصمت ، نظر الحاضرون في وجه المختار والوجيه ، ثم حدقوا جميعاً بوجه وسوف ، في عينيه ، فلم يرفْ له جفن .

سأله مختار ” بيت ياشسوط ” ، و ولداه يقفان خلفه :

– يا بن المقطوعة . لمَ لا تقبل بهذا القاضي وهو وجيه بشراغي المعروف ؟. فلم يجب وسوف .

نهض القاضي ، اقترب من وسوف ببطء ، وقف أمامه ، خاطبه بود :

– يا ولدي . أناشدك بالذي في السماء أجبني : لمَ لا تقبل بي قاضياً ؟.

تأمل وسوف وجه القاضي ، وبعد صمت طويلٍ ، ثقيل ، قال :

– يا عم منذ عامين كنتَ تلعب بهذه المنقلة في قرية ” بشيلي ” مع أبي أمين ، رأيتك بعيني هاتين تغشُّ باللعب ، فقد أسقطتَ حَصَبَة الفوز في حِجْرِكَ .. فأنا لا أقبل بكَ قاضياً .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى