أفضت سيطرة العمل العسكري على المشهد السوري إلى طرد طيفٍ سياسيٍّ من هذا المشهد، هو بالتحديد الطيف الديمقراطي اللاديني الذي يرفض مبدئياً نظام الأسد، ويرفض أيضاً الإسلاميين الذين ظهروا عقب التحول العسكري في الثورة، على أنهم الجهة المقابلة لنظام الأسد. لم تكن عملية الطرد هذه سياسية فقط، بل وجغرافية أيضاً، أي إن عناصر هذا الطيف باتوا مطاردين من الجانبين المقتدرين في الصراع، يسجنون ويقتلون هنا وهناك، سواء بسواء، وبقدر ما يعبرون عن استقلاليتهم ومواقفهم النقدية. ذلك أنه لا يوجد ذراع عسكري يحمي حضور هذا الطيف، ويفرض وجوده السياسي في بيئة عسكرية كالتي صارت إليها البيئة السورية. الطيف السياسي المذكور، الذي يجسد، في رأي الكاتب، الخيار الممكن لخروج سورية من النفق الذي هي فيه، وجد نفسه خارج المشهد السياسي، وخارج البلد أيضاً.
يمكن، وينبغي، البحث في أثر خروج هذا الطيف السياسي من المعادلة السياسية على الصراع السوري ككل. ويمكن البحث في أسئلةٍ كثيرةٍ تتعلق بالموضوع، مثل: ألم تكن هناك خيارات أجدى؟ ألم يكن من الأجدى بقاء عناصر هذا الطيف السياسي في الداخل؟ وهل كان يمكنهم البقاء والفاعلية، أم كان بقاؤهم سيفرض عليهم الاختيار بين السكوت والتسكيت؟ وما قيمة طرح سياسي أعزل وتأثيره وسط صراع مسلح تقوده دول؟ لكن الواقع السوري يقول، بعد كل شيء، إن هذا الطيف تهمّش أو خرج، وإن الحضور السياسي الوحيد لهذا التيار السياسي يمكن تلمّسه اليوم في المؤسسات الهشّة التي صاغتها وتصوغها الدول المنخرطة في الشأن السوري، لكي تقوم بدور “المعارضة”. وهو حضورٌ فقير وتابع، ولا يملك من أمره شيئاً، حتى بات أشبه بالوظيفة الإدارية. والأهم أن هذا الحضور لا يحظى بتقدير الشعب السوري.
النتيجة التي انتهى إليها عناصر هذا الطيف اليوم هي أنه موزّع في ثلاث فئات: الأولى في الداخل، وهي تعيش، في كل المناطق السورية، في خوفٍ دائم وتحت سقف سياسي منخفض، فلا تستطيع أن تشكّل حضوراً سياسياً ملحوظاً، دع عنك الفاعلية السياسية. والثانية في مؤسسات المعارضة “الرسمية” الفاقدة للوزن والفاعلية في تبعيتها للجهات الدولية التي تسندها. والثالثة، هي الفئة التي خرجت من سورية إلى بلاد الشتات. هذه الفئة الأخيرة متحرّرة من سطوة القوى العسكرية المسيطرة في سورية، ومتحرّرة من الارتهان إلى دول داعمة، ولكنها مع ذلك بقيت خارج دائرة التأثير. وفي سعيهم إلى الفعل والتأثير، انتظم عناصر هذه الفئة في عشرات المجموعات السياسية، متلمسين الإجابة على السؤال: كيف يمكنهم التأثير في مصير بلادهم من الخارج ومن منطلق سياسي ديمقراطي، ولاديني، وهو المنطلق الذي تدفع كل القوى المسيطرة، بما في ذلك “الدول الديمقراطية” منها، إلى تهميشه؟ تشابهت هذه المجموعات السياسية في المنطلق وفي الغايات، وبقيت مع ذلك متعدّدة وضعيفة.
هذا هو الواقع الذي دفع هذه المجموعات إلى التفكير في صياغة شكلٍ ما من العلاقة فيما بينها تتجاوز به تشتتها وهامشيتها، وتقترب أكثر من متن الصراع. بعد عمل جماعي متردّد، أعقب اللقاء التشاوري الذي جرى في باريس في يوليو/ تموز 2018، وضم أكثر من عشرين من هذه المجموعات، من بينها جماعات سياسية مخضرمة، وصل من هذه الجماعات إلى مؤتمر باريس، الذي عقد يومي 25 و26 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) 14 مجموعة شكلت فيما بينها تحالفاً أطلقت عليه اسم “اللقاء السوري الديمقراطي”.
يُحسب لهذا اللقاء أنه اجتهاد سوري خالص، فقد بادرت ودعت إليه “حركة ضمير”، وهي تجمع ثقافي سوري تمثل في اللقاء التشاوري بالفنانين سميح شقير، وعبد الحكيم قطيفان. ويحسب لهذا اللقاء أيضاً أنه مستقل، ليس فقط عن الدول، بل وعن الممولين السوريين أيضاً، أي إنه لقاء ذاتي التمويل ومتحرّر بالتالي من أي ضغوط أو “منيات” ممكنة. وقد عقد، بغاية خفض التكاليف، في فندق بسيط في ضاحية تبعد أكثر من 60 كم عن باريس. وقامت مؤسسة نسوية سورية بتأمين وجبتي الغداء للمشاركين في مقابل مبالغ معقولة. كما يُحسب لهذا اللقاء غياب الزعامات السياسية المكرسة التي، وإن كانت تعطي وزناً إعلامياً، فإنها غالباً ما تثقل على “ديمقراطية” اللقاءات.
مع ذلك، أمام هذا اللقاء حواجز نفسية وسياسية عديدة، يتعين عليه تجاوزها، إذا كان يريد التحوّل إلى قوة فاعلة. هناك عقدة الاستبطان التي تكرست في الذهنية السياسية السورية، وأنتجت شكوكية مرضية ومحبطة، تمنع “ضحيتها” من تقييم أي فكرة سياسية جديدة، وتميل تلقائياً إلى إعدامها بالشكوك. وهناك الحساسيات السياسية “غير السياسية” القديمة والمتوارثة، سيما بين المكونات المخضرمة التي تبقى، للأسف، محكومةً لماضٍ تعيس، كما لو أن في هذا الاجترار إدمانا أو متعة ما. وهناك الميل إلى نسف فكرة الديمقراطية التنظيمية عن طريق “الكولسة” والترتيبات التحتية التآمرية بين ذوي العقليات المتقاربة. كما أن هناك عقلية تغليب ذات المجموعة السياسية على التحالف نفسه، مع الأخذ في الحسبان أن المجموعات متقاربة إلى حدٍّ يصعب أن تجد معه ما يدعم تعدّدها، وأن الخلافات فيما بينها لا تتجاوز الخلافات التي يمكن أن تكون ضمن أعضاء التنظيم الواحد. ويبقى التحدّي الأهم أمام اللقاء هو تقديم قراءةٍ حيةٍ للتعقيد السوري واجتراح تصورات وخطط عمل، مع توفير القدرة على وضعها موضع التنفيذ.
لن يشكل اللقاء إضافة جديدة إلى المشهد السياسي، إذا سار على نهج مؤسسات المعارضة الرسمية. المقصود بذلك التكيف مع موازين القوى الطارئة، ولو على حساب المطالب الأساسية للشعب السوري التي صارت جزءاً من الشرعية الدولية. من الناحية السياسية، يمتلك اللقاء فرصة أن يكون جسداً سورياً يتمسّك بما تمكّن الشعب السوري من فرضه على الشرعية الدولية، ويعتبره الحد الذي لا يمكن التنازل عنه، ويعمل على حماية هذا الحق، بكل الوسائل التي يمكن أن يمتلكها. يمكن القول في النهاية: صحيحٌ أن الاستقلال المالي للقاء يحرّره من الضغوط، غير أن ضعف الموارد يضعف من طاقته الحركية في الوقت نفسه. ولكن يمكن لجسدٍ سياسيٍّ متواضع القدرات أن يخدم الرؤية السياسية الآنفة الذكر، ويمكن لصيانة هذه الرؤية أن تنعكس قوةً شعبيةً للتنظيم مع الزمن، بذلك يقدّم اللقاء السوري الديمقراطي خدمة جيدة للقضية السورية.
المصدر: العربي الجديد