لماذا تفشل الحركات الجماهيرية‏

كريس هيدجز‏*     ترجمة: علاء الدين أبو زينة

تم إخماد موجة الاحتجاجات الشعبية العالمية التي اندلعت في العام 2010 واستمرت نحو عقد من الزمن، مما يعني أن هناك حاجة إلى تكتيكات واستراتيجيات جديدة، كما يشرح فنسنت بيفينس في كتابه ‏‏”إذا احترقنا‏”.‏

*   *   *

‏شهد العالم عقدًا من ‏‏الانتفاضات‏‏ الشعبية التي استمرت من العام 2010 حتى قدوم الوباء العالمي في العام 2020. وقد هزت هذه الانتفاضات أسس النظام العالمي، ونددت بهيمنة الشركات وتخفيضات التقشف، وطالبت بالعدالة الاقتصادية والحقوق المدنية. ‏

جرت احتجاجات على مستوى البلاد في الولايات المتحدة، تركزت حول مخيمات “احتلوا” (1) على مدى 59 يومًا. وكانت هناك انفجارات للاحتجاجات الشعبية في كل من اليونان، وإسبانيا، وتونس، ومصر، والبحرين، واليمن، وسورية، وليبيا، وتركيا، والبرازيل، وأوكرانيا، وهونغ كونغ، وتشيلي، وخلال “‏‏ثورة ضوء الشموع”‏‏ في كوريا الجنوبية.

وكان من النتائج طرد السياسيين الذين فقدوا مصداقيتهم من مناصبهم في كل من اليونان، وإسبانيا، وأوكرانيا، وكوريا الجنوبية، ومصر، وتشيلي وتونس. وسيطر الإصلاح، أو على الأقل الوعد به، على الخطاب العام. وبدا ذلك وكأنه يبشر بقدوم عصر جديد.‏

‏ثم جاء رد الفعل العنيف. تم سحق تطلعات الحركات الشعبية، وتوسعت سيطرة الدولة وعدم المساواة الاجتماعية. ولم يكن هناك تغيير يُعتد به. بل إن الأمور ساءت في معظم الحالات. وخرج اليمين المتطرف منتصرًا.

فما الذي حدث؟ ‏كيف تحول عقد كامل من الاحتجاجات الجماهيرية التي بدت وكأنها تبشر بالانفتاح الديمقراطي، ووضع حد لقمع الدولة، وإضعاف هيمنة الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية، وبقدوم عصر الحرية، إلى فشل مخزٍ وغير مجيد؟ ‏

‏ما الذي حدث خطأ؟ كيف حافظ المصرفيون والساسة المكروهون على السيطرة أو استعادوها؟ وما الأدوات الفعالة لتخليص أنفسنا من هيمنة الشركات متعددة الجنسيات؟‏

في ‏‏كتابه‏‏ الجديد “‏‏إذا احترقنا: عقد الاحتجاجات الجماهيرية والثورة المفقودة” If We Burn: The Mass Protest Decade and the Missing Revolution،‏‏ يروي فنسنت بيفينس Vincent Bevins كيف فشلت الجهود على عدة جبهات.‏

لم يتوقع “المتفائلون التقنيون” الذين بشروا بأن وسائل الإعلام الرقمية الجديدة شكلت قوة ثورية وديمقراطية، أن يكون بإمكان الحكومات الاستبدادية، والشركات، وأجهزة الأمن الداخلي، تسخير هذه المنصات الرقمية وتحويلها إلى محركات للمراقبة الشاملة، والرقابة على التعبير، ووسائل للدعاية والتضليل. ‏وهكذا، سرعان ما قُلبت منصات التواصل الاجتماعي التي جعلت الاحتجاجات الشعبية ممكنة ضدنا.‏

لأنها فشلت في إقامة هياكل تنظيمية هرمية ومنضبطة ومتماسكة، لم تكن العديد من الحركات الجماهيرية قادرة على الدفاع عن نفسها. وفي الحالات القليلة التي وصلت فيها الحركات المنظمة إلى السلطة، كما هو الحال في اليونان وهندوراس، تآمر الممولون والشركات الدولية لإعادة انتزاع السلطة بلا رحمة.‏

‏وفي معظم الحالات، ملأت الطبقة الحاكمة بسرعة فراغ السلطة الذي صنعته هذه الاحتجاجات. وعرضت علامات تجارية جديدة بعد إعادة حزم وتغليف النظام القديم. وكان هذا هو السبب في أن حملة باراك أوباما الرئاسية الأميركية للعام 2008 حصلت على ‏‏لقب “‏‏مسوِّق العام في عصر الإعلان”. وفازت بتصويت المئات من المسوِّقين ورؤساء الوكالات وبائعي خدمات التسويق الذين اجتمعوا في المؤتمر السنوي لـ”رابطة المعلنين الوطنيين”. ‏

وقد تغلبت على المعلنين الصاعدين “أبل” و”زابوس. كوم”، كما عرف المحترفون. كانت العلامة التجارية أوباما أشبه بحلم المسوِّق.‏

‏في كثير من الأحيان كانت الاحتجاجات تشبه “التجمعات البرقية” (2)، حيث يتدفق الناس إلى الأماكن العامة ويصنعون مشهدًا إعلاميًا بدلاً من الانخراط في تعطيل مستمر ومنظم وطويل الأمد للسلطة. ‏

‏يلتقط‏‏ غاي ديبورد Guy Debord عدم جدوى هذه المشاهد/ الاحتجاجات في كتابه “‏‏مجتمع المشهد‏‏” Society of the Spectacle، مشيرًا إلى أن عصر المشهد يعني أن أولئك الذين يُفتنون بصوره “يتم تشكيلهم وفقًا لقوانينه”.

وكثيرًا ما قام الفوضويون والمناهضون للفاشية، مثل أولئك في الكتلة السوداء، بتحطيم النوافذ وإلقاء الحجارة على الشرطة، وقلب السيارات أو حرقها. وتم تبرير هذه الأعمال من العنف العشوائي والنهب والتخريب بمصطلحات الحركة، باعتبارها مكونات “جامحة” أو “تمرد عفوي”. ‏

‏جلبت “إباحية الشغب” هذه السعادة لوسائل الإعلام، والكثير من المنخرطين فيها -وليس من قبيل الصدفة أيضًا، للطبقة الحاكمة التي استخدمتها لتبرير ممارسة المزيد من القمع وشيطنة الحركات الاحتجاجية.

أدى غياب نظرية سياسية بالنشطاء إلى استخدام الثقافة الشعبية، مثل فيلم “الثاء رمزًا للثأر” (3) V for Vendetta، كنقاط مرجعية. وغالبًا ما تم تجاهل أو تهميش الأدوات الأكثر فعالية وقدرة على التعطيل بكثير، مثل الحملات التثقيفية الشعبية، والإضرابات وحملات المقاطعة.‏ ‏وكما فهم ‏‏كارل ماركس‏‏، فإن “أولئك الذين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم سيمثَّلون”.‏

‏يقدم كتاب “إذا احترقنا: ‏‏عقد الاحتجاجات الجماهيرية والثورة المفقودة”‏‏، تشريحًا رائعًا وبارعًا لصعود الحركات الشعبية العالمية، والأخطاء الهازمة للذات التي ارتكبتها، والاستراتيجيات التي استخدمتها الشركات الدولية والنخب الحاكمة للاحتفاظ بالسلطة وسحق تطلعات السكان المحبطين، فضلاً عن استكشاف التكتيكات التي يجب على الحركات الشعبية استخدامها لكي تتمكن من المقاومة والرد بنجاح.‏

‏يكتب بيفينز: “في هذا العقد من الاحتجاجات الجماهيرية، صنعت انفجارات الشوارع أوضاعًا ثورية، غالبًا عن طريق الصدفة، لكن الاحتجاج كان سيئ التجهيز للغاية للاستفادة من الوضع الثوري، وهذا النوع من الاحتجاج سيئ في هذا بشكل خاص”.‏

‏يردد النشطاء المخضرمون الذين أجرى بيفينس مقابلات معهم من أجل الكتاب هذه النقطة.‏ ‏في الكتاب، يقول ‏‏حسام بهجت‏‏، الناشط المصري في مجال حقوق الإنسان، لبيفنز: “نَظِّم. أنشئ حركة منظمة. ولا تخف بشأن التمثيل. كنا نظن أن التمثيل هو النخبوية، لكنه في الحقيقة جوهر الديمقراطية”.‏

‏ويوافق اليساري الأوكراني، ‏‏أرتيم تيدفا،‏‏ على ذلك.‏ ويقول تيدفا في الكتاب: ‏”لقد اعتدت أن أكون فوضويًا أكثر. في ذلك الوقت أراد الجميع تكوين تجمع. كلما كان هناك احتجاج، دائمًا هناك تجمع. لكنني أعتقد أن أي ثورة من دون حزب عمالي منظم سوف تمنح المزيد من السلطة للنخب الاقتصادية، التي هي منظمة جيدًا مُسبقًا”.‏

‏في كتابه “تشريح الثورة”‏‏ The Anatomy of Revolution، يكتب المؤرخ كرين برينتون Crane Brinton أن للثورات شروطا مسبقة واضحة وقابلة للفهم. ويذكر السخط الذي يؤثر على جميع الطبقات الاجتماعية تقريبًا، والمشاعر واسعة النطاق بالوقوع في المصيدة واليأس، والتوقعات غير المحققة، والتضامن الموحد في المعارضة لنخبة سلطة صغيرة، ورفض العلماء والمفكرين الاستمرار في الدفاع عن تصرفات الطبقة الحاكمة، وعدم قدرة الحكومة على الاستجابة للاحتياجات الأساسية للمواطنين، وفقدان ثابت للإرادة داخل نخبة السلطة نفسها وانشقاقات من الدائرة الداخلية، وعزلة معوقة تترك نخبة السلطة من دون أي حلفاء أو دعم خارجي، وأخيرًا، أزمة مالية. ‏

‏ويكتب أيضًا أن الثورات تبدأ دائمًا بتقديم مطالب مستحيلة بحيث أنها ستعني، إذا أوفت بها الحكومة، نهاية التكوينات القديمة للسلطة.

لكن الأهم من ذلك هو أن الأنظمة الاستبدادية دائمًا تنهار أولاً من الداخل. بمجرد أن تتوقف قطاعات من الجهاز الحاكم -الشرطة والأجهزة الأمنية والقضاء ووسائل الإعلام والبيروقراطيين الحكوميين- عن مهاجمة المتظاهرين أو اعتقالهم أو سجنهم أو إطلاق النار عليهم؛ وبمجرد أن تتوقف هذه القطاعات عن إطاعة الأوامر، يصبح النظام القديم الذي فقد مصداقيته مشلولاً وفي نهاياته.‏

‏لكن هذه الأشكال من السيطرة الداخلية نادرًا ما تزعزت خلال عقد من الاحتجاجات. ربما تنقلب، كما كان الحال في مصر، على رموز النظام القديم، لكنها عملت أيضًا على تقويض الحركات الشعبية والقادة الشعبويين، وأجهضت الجهود الرامية إلى انتزاع السلطة من الشركات العالمية والأوليغارشية. وقد منعت، أو أزاحت الشعبويين من مناصبهم. ‏

على سبيل المثال، كان الذي أشرف على هندسة وإدارة‏ الحملة الشرسة التي شُنت ضد جيريمي كوربين وأنصاره عندما ترأس حزب العمال خلال الانتخابات العامة في المملكة المتحدة للعامين 2017 و2019، أعضاء من داخل ‏‏حزبه‏‏، ‏‏ومن الشركات‏‏، ‏‏والمعارضة المحافظة‏‏، والمعلقين المشاهير، ‏‏والصحافة السائدة‏‏ ‏‏التي‏‏ ‏‏ضخمت‏ جهود‏ ‏‏التشويه واغتيال الشخصية ضده، وأعضاء‏‏ ‏من ‏الجيش البريطاني‏‏ وأجهزة ‏‏الأمن‏‏ في البلاد. ‏وحذر‏‏ السير ريتشارد ديرلوف، الرئيس السابق لجهاز المخابرات السرية البريطاني MI6، علنًا من أن زعيم حزب العمال كان “خطرًا حاضرًا ومقيمًا على بلدنا”.‏

ليست التنظيمات السياسية منضبطة بذاتها وفي ذاتها، كما أثبتت تجربة الحكومة اليسارية لـ”سيريزا” (‏ائتلاف اليسار الراديكالي-التقدمي‏) في اليونان. إذا لم تكن قيادة الحزب المعني المناهض للمؤسسة على استعداد للتحرر والانعتاق من هياكل السلطة القائمة، فسوت يتم احتواؤها أو سحقها عندما ترفضها مراكز السلطة الحاكمة.‏

‏في العام 2016، لاحظ‏‏ كوستاس لابافيتساس، النائب السابق عن تحالف “سيريزا” وأستاذ الاقتصاد في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، أنه في العام 2015، “كانت قيادة سيريزا مقتنعة بأنها إذا رفضت الموافقة خطة إنقاذ جديدة، فإن المقرضين الأوروبيين سيتراجعون في مواجهة الاضطرابات المالية والسياسية المعممة”. ‏

‏وأوضح لابيفيستاس “أن النقاد ذوي النوايا الحسنة أشاروا مرارًا وتكرارًا إلى أن لليورو مجموعة متصلبة من المؤسسات التي لها منطقها الداخلي الخاص الذي سيرفض ببساطة مطالب التخلي عن التقشف وشطب الديون. وعلاوة على ذلك، كان البنك المركزي الأوروبي مستعدا لتقييد توفير السيولة للبنوك اليونانية، وخنق الاقتصاد -وحكومة سيريزا معه”. وكان هذا بالضبط هو ما حدث. ‏

‏كتب لابيفيستاس: “أصبحت الظروف في البلاد يائسة بشكل متزايد حيث استنزفت الحكومة احتياطيات السيولة، وجفت البنوك، وبالكاد تحركت ساعة الاقتصاد. وكان سيريزا هو المثال الأول لحكومة من اليسار لم تفشل ببساطة في الوفاء بوعودها فحسب، بل وتبنت أيضًا برنامج المعارضة، بالجملة”.‏

‏بعد فشله في الحصول على أي تنازلات من الترويكا -البنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، وصندوق النقد الدولي- تبنى سيريزا “سياسة قاسية قائمة على فوائض الميزانية، ورفَع الضرائب وباع البنوك اليونانية لصناديق المضاربة، وخصخص المطارات والموانئ، وهو على وشك خفض المعاشات التقاعدية. وقد حكمت خطة الإنقاذ الجديدة على اليونان الغارقة في الركود بانحدار على المدى الطويل، حيث آفاق النمو ضعيفة والشباب المتعلم يهاجر، والدَّين الوطني يلقي بثقله”.‏

‏وكما أشار لابافيتساس، فإن “سيريزا فشل ليس لأن التقشف عصي على القهر، ولا لأن التغيير الجذري مستحيل، ولكن لأنه كان غير راغب وغير مستعد، بطريقة كارثية، لطرح تحد مباشر لليورو. كان التغيير الجذري والتخلي عن التقشف في أوروبا يتطلب خوض مواجهة مباشرة مع الاتحاد النقدي نفسه”. ‏

يميز عالم الاجتماع الإيراني الأميركي، ‏‏آصف بيات‏‏، الذي يقول بيفينس إنه عايش الثورة الإيرانية في العام 1979 في طهران وانتفاضة العام 2011 في ‏‏مصر‏‏، بين الظروف الذاتية والموضوعية لانتفاضات الربيع العربي التي اندلعت في العام 2010. ربما عارض المتظاهرون السياسات النيوليبرالية، لكن الذي شكلهم هم أيضًا، كما يقول، كان “الذاتية” النيوليبرالية.‏

‏وكتب‏‏ بيات في كتابه ‏‏”ثورة بلا ثوار: فهم الربيع العربي‏‏” Revolution without Revolutionaries: Making Sense of the Arab Spring: ‏

‏”افتقرت الثورات العربية إلى نوع الراديكالية -في النظرة السياسية والاقتصادية- التي ميزت معظم الثورات الأخرى للقرن العشرين”.

‏على عكس ثورات سبعينيات القرن العشرين التي تبنت دافعًا اشتراكيًا قويًا ومناهضًا للإمبريالية والرأسمالية وساعياً إلى العدالة الاجتماعية، كان الثوار العرب منشغلين أكثر بالقضايا الأوسع لحقوق الإنسان، والمساءلة السياسية، والإصلاح القانوني. وقد أخذت الأصوات السائدة، العلمانية والإسلامية على حد سواء، مسائل السوق الحرة، وعلاقات الملكية، والعقلانية النيوليبرالية، كأمر مسلم به -وهي نظرة عالمية غير نقدية من شأنها أن تدفع فقط بخدمة كلامية للتطلعات الحقيقية للجماهير بشأن العدالة الاجتماعية والتوزيع.‏

وكما كتب بيفينز، فإن “جيلاً من الأفراد الذين نشأوا على رؤية كل شيء كما لو أنه مؤسسة تجارية، أصبحوا مجرّدين من التطرف، وأصبحوا ينظرون إلى هذا النظام العالمي على أنه “طبيعي”، وأصبحوا غير قادرين على تخيل ما يلزم لتنفيذ ثورة حقيقية”.‏

‏توفي ستيف جوبز، الرئيس التنفيذي لشركة “آبل” Apple، في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 أثناء اعتصام مخيم حركة “احتلوا” في متنزه زوكوتي. وكان مما أثار استيائي أن العديد من أولئك في المخيم أرادوا إقامة نصب تذكاري تخليدًا لذكراه.‏

‏كتب بيفينس أن الانتفاضات الشعبية “قامت بعمل جيد للغاية في تفجير الثقوب في الهياكل الاجتماعية وخلق فراغات سياسية”. لكن الجيش سرعان ما ملأ فراغ السلطة في مصر. وفي البحرين، ملأته قوى من المنطقة. وفي كييف، ملأته “مجموعة مختلفة من الأوليغارشية، والقوميين المتشددين المنظمين تنظيمًا جيدًا”. وفي تركيا، ملأه في نهاية المطاف رجب طيب أردوغان. وفي هونغ كونغ، كانت بكين.‏

‏يكتب بيفينز: ‏”إن الاحتجاج الجماهيري المنظم أفقيًا والمنسق رقميًا وبلا قيادة، هو شيء مستغلق، غير قابل للقراءة بشكل أساسي”.

‏إنه شيء “لا يمكنك التحديق فيه، أو طرح الأسئلة عليه، والتوصل إلى تفسير متماسك قائم على الأدلة. يمكنك تجميع الحقائق، بالتأكيد -الملايين منها. لكنك لن تكون قادرًا على استخدامها لبناء قراءة موثوقة. وهذا يعني أن أهمية هذه الأحداث سوف تُفرض عليها من الخارج. حتى تفهم ما قد يحدث بعد أي انفجار احتجاجي معين، لا يجب أن تولي انتباهك فقط إلى من ينتظر في الأجنحة لملء فراغ السلطة. عليك أن تنتبه إلى مَن لديه القوة لتعريف الانتفاضة نفسها”.‏

‏باختصار، يجب أن نضع قوةً منظمة في مواجهة قوةٍ منظمة. وهذه حقيقة فهمَها التكتيكيون الثوريون مثل فلاديمير لينين، الذي رأى ‏‏أن العنف الفوضوي‏‏ يأتي بنتائج عكسية. كان الافتقار إلى الهياكل الهرمية في الحركات الجماهيرية الأخيرة، التي قامت لمنع عبادة القيادة والتأكد من سماع جميع الأصوات، على الرغم من أنها نبيلة في تطلعاتها، قد جعل هذه الحركات فريسة سهلة. بحلول الوقت الذي كان فيه مئات الأشخاص يشاركون في التجمعات العامة في حديقة زوكوتي، على سبيل المثال، كان توزُّع الأصوات والآراء يعني الشلل. ‏

‏كتب لينين: “من دون نظرية ثورية، لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية”. ‏تتطلب الثورات منظمين ماهرين، وانضباطًا ذاتيًا، ورؤية أيديولوجية بديلة، وفنًا وتعليمًا ثوريين. إنها تتطلب اضطرابات مستمرة في السلطة، والأهم من كل شيء، قادة يمثلون الحركة.‏

الثورات هي مشاريع طويلة وصعبة تستغرق سنوات لإنجازها، والتي تنخر ببطء -وغالبًا بشكل غير محسوس- أسس السلطة. يجب أن تكون ثورات ‏‏الماضي الناجحة‏‏، إضافة إلى منظِّريها، دليلنا، وليس الصور سريعة الزوال التي تصيبنا بالنشوة على وسائل الإعلام الجماهيرية.

‏*كريس هيدجز Chris Hedges: صحفي حائز على جائزة بوليتزر. كان مراسلا صحفيا أجنبيا لمدة 15 عاما لصحيفة ‏”‏نيويورك تايمز”،‏‏ حيث شغل منصب مدير مكتب الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان للصحيفة. عمل سابقا في الخارج في “‏‏دالاس مورنينغ نيوز”‏‏ ‏‏و”كريستيان ساينس مونيتور”، و”الراديو الوطني”. وهو مضيف برنامج “تقرير كريس هيدجز”.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Chris Hedges: Why Mass Movements Fail

هوامش المترجم:

(1) حركة “احتلوا” هي حركة اجتماعية وسياسية شعبوية دولية، أعلنت عن معارضتها لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والافتقار الملحوظ إلى “ديمقراطية حقيقية” في جميع أنحاء العالم. كانت تهدف في المقام الأول إلى النهوض بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية ومختلف أشكال الديمقراطية. وكان للحركة العديد من المجالات المختلفة، نظرًا لأن المجموعات المحلية غالبا ما ركزت على محاور مختلفة، لكن مواضع اهتماماتها الرئيسية تضمنت كيفية سيطرة الشركات الكبيرة (والنظام المالي العالمي) على العالم بطريقة تفيد إحدى الأقليات بشكل غير متكافئ، وتقوض الديمقراطية وتسبب عدم الاستقرار.

بدأ أول احتجاج لحركة “احتلوا” يحظى باهتمام واسع النطاق، في حركة “احتلوا وول ستريت” في حديقة زوكوتي، مانهاتن السفلى، في 17 أيلول (سبتمبر) 2011. بحلول 9 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت احتجاجات حركة “احتلوا” ناشطة في أكثر من 951 مدينة في 82 دولة، وفي أكثر من 600 مجتمع في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الحركة كانت الأكثر نشاطا في الولايات المتحدة، إلا أن احتجاجات الحركة بدأت، بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2011، في عشرات البلدان الأخرى عبر كل القارات المأهولة. وفي الشهر الأول، كان قمع الشرطة العلني بأدنى حد ممكن، لكن ذلك بدأ يتغير بحلول 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، عندما حاولت الشرطة لأول مرة إبعاد حركة “احتلوا أوكلاند” بالقوة. وبحلول نهاية العام 2011، قامت السلطات بإزالة معظم المخيمات الرئيسية، مع إخلاء آخر المواقع المهمة المتبقية -في واشنطن العاصمة ولندن- بحلول شباط (فبراير) 2012. استلهمت حركة “احتلوا” جزئيا احتجاجات الربيع العربي، و”الحركة الخضراء” الإيرانية للعام 2009، و”حركة الغضب” الإسبانية، وكذلك الموجة العالمية الشاملة للاحتجاجات المناهضة للتقشف في العام 2010 وما تلاها. رفعت شعار: “نحن 99 %”.

(2) الحشد البرقي، أو التجمع الخاطف flash mob هو مجموعة من الأشخاص الذين يتجمعون فجأة في مكان عام، ويؤدون أو يقدمون عرضا غير اعتيادي لفترة وجيزة، ثم يتفرقون بسرعة كما تجمعوا، غالبا لأغراض الترفيه والسخرية والتعبير الفني. ويمكن تنظيم الحشد البرقي من خلال الاتصالات السلكية واللاسلكية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو رسائل البريد الإلكتروني الفيروسية، لكن هذا التجمع غالبا ما يكون قد تم الاتفاق عليه مسبقا.

(3) ما يترجمه البعض “الثاء رمزًا للثأر” وفي الإنجليزية V for Vendetta‏: فيلم ديستوبيا وحركة أميركي ظهر في العام 2006، وهو من إخراج جيمس ماكتيغ وسيناريو الأختين وتشاوسكي. الفيلم مقتبس من قصة مصورة صدرت بنفس الاسم من تأليف آلان مور، وتدور أحداث هذا الفيلم حول (في) الشخص الغامض المُقنع الذي يسعى إلى تغيير الواقع السياسي في الدولة، ويسعى في الوقت نفسه إلى الثأر.

عنوان الفيلم يعني “في رمزا للثأر”. حيث تبدأ كلمة Vendetta (الثأر) في الإنجليزية بحرف V، ويمكن أن يكون المعنى المقصود للحرف V هو الرقم خمسة في الأرقام الرومانية.

تقول قصة الفيلم إنه في العام 2038 تصبح بريطانيا دولة شمولية يحكمها حزب يميني متطرف، ويجعل الفيلم من تاريخ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) موعدا مهما، حيث يتم في بداية الفيلم تفجير المحكمة الجنائية المركزية. ويتم تعيين نفس التاريخ بعد سنة من الحدث الأول كموعد لتفجير قصر وستمنستر. ويستمد الفيلم رمزية هذا التاريخ من أحداث حقيقية لمحاولة الانقلاب على الملك جيمس الأول بواسطة مجموعة من المتمردين الذين كان أشهرهم جاي فوكس، الذي يرتدي بطل الفيلم قناعه معظم الوقت.

المصدر: الغد الأردنية/(شير بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى