اولا. للحديث عن التيار الديمقراطي العربي أهمية خاصة لأنه يمثل رافعة التقدم، ولمواجهة الانظمه الاستبداديه. والدعوات العصبوية الاقصائية؛ سواء من خلفية عقائدية قومية أو يسارية او علمانية او اسلامية، او عصبويات مجتمعية، طائفية، دينية، قبلية، ومناطقية وعشائرية، وعصبيات ضمن العصب نفسها، كصراع بيني تفتيتي للمجتمعات العربية، وجعلها ضحية صراع مستدام يضر بالبلاد والعباد، هذا الحديث مهم لمواجهة الانهزامات الكثيرة على الارض العربية…
ثانيا. كان الاحتكاك بالغرب الأوربي في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عبر ذهاب الافراد او البعثات العلمية إلى أوربا.، او عبر الاحتلالات التي تتالت على البلاد العربية كلها تقريبا، فأظهر وجهين متناقضين للغرب أولهما: التقدم العلمي والثقافي والاقتصادي والعسكري، وثانيهما: الدور الاستعماري للغرب الرأسمالي، الاول ايجابي على أوروبا والغرب عموما والعالم، والثاني سلبي على الشعوب المستعمرة؛ انعكس احتلال واستغلال وتبعية وخلق حكومات استبدادية تابعة للمستعمر بعد حين…
ثالثا. كانت استجابة النخبة العربية المثقفة متنوعة لهذا الاحتكاك والصراع مع الغرب كمحتل و ثقافة متنوعة؛ بين تمثل ثقافة الغرب نفسه عبر وجود تيار ليبرالي عربي يرى ضرورة تقليد الغرب بكل ما فعل لنستطيع صناعة مستقبل أفضل، وعجز هذا التيار أن يقنع الناس وبقية النخب المثقفة بكيفية الفصل بين عقل الغرب الليبرالي وسلوكه الاستعماري، واضمحل التيار وبقي متمثلا ببعض الرموز التنويريين في بداية القرن العشرين…
رابعا. وجاءت استجابات أخرى، تنهل من الغرب الفكرة او الطريقة وتطرح ماتريد طالبة التغيير بشكل جذري، فالبعض أخذ بالفكرة القومية: وتحدث عن الأمة، وفكر بالامة العربية وضرورة النهل من التقدم العلمي الغربي والتحرر من المستعمر الغربي نفسه، والدعوة للتوحيد العربي كحق قومي كأفضل وسيلة للتقدم. والبعض الاخر أخذ من الغرب ايضا التوجه الشيوعي بنسخته الماركسيه بتنوعاتها، او الاشتراكي؛ منطلقا من رؤية فكرية متكاملة تنطلق من التقدم العلمي ذاته لصناعة مجتمع لا استغلال فيه يتناقض مع الرأسمالية الغربية وصانعا دولة شيوعية الهيمنة فيها للطبقة العاملة، أو دولة اشتراكية تركز على العدالة الاجتماعية، وهذا ما برز بالتيار اليساري العربي الماركسي والاشتراكي. وللدقه لم يكن التيار القومي واليساري منفصلان فكريا وسلوكيا عن بعضهما، فالبعض تمثل في داخله توليفة فكرية قوميه يساريه ماركسيه بتنوعات مختلفه، فعبد الناصر كان قوميا واشتراكيا، وكذلك البعث العربي الاشتراكي، وكذلك الماركسيين العرب، وكذلك بعض الأحزاب الشيوعية التي طورت رؤاها الفكرية تربط القومي بالشيوعي بالاشتراكي؛ ومثاله الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي) جناح رياض الترك منذ السبعينات في سوريا كنموذج…
خامسا. وكان أحد أشكال الاستجابة للتحدي الغربي عربيا عبر فكرة العودة إلى الأصل وهو الإسلام، وأن قراءته (الصحيحة) تعني: إننا ان تمثلناه دينا ودولة فإننا سنتقدم ونتوحد اسلاميا؛ وسنواجه الغرب المتقدم عنا والمستعمر لنا؛ وكانت حركة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر في العشرينيات من القرن العشرين؛ والتي تطورت وامتدت في البلاد العربية والاسلامية كفكر ونموذج وجماعة، والتي طرحت نفسها كبديل جذريا عن التوجهات الفكرية السياسية للدول التابعة للغرب المستعمر والتي تتمثل توجها قوميا او اشتراكيا، وحيث ان بعض القوى القومية والاشتراكية وصلت للحكم (عبد الناصر والبعث..) وطرحت نفسها كنموذج حاكم اختلفت معه وعادته…
سادسا. كل ما ذكرناه عن التيارات والأحزاب بتنوعها القومي الاشتراكي والشيوعي والاسلامي، تعرض للتغيرات والتحولات الاستراتيجية عند أغلبها وذلك عبر الزمن والتجربة والصراع مع الأنظمة وفي مخاطبتها للناس وتمثلها لأفكارها في الواقع، القوميين الاشتراكيين: عبد الناصر والبعث ونسبيا ليبيا القذافي والسودان النميري و الحكم في الجزائر؛ وصلوا للحكم ولم يظهر من قوميتهم الا التشبث بالدول التي يحكموها. (باستثناء الوحده المصريه السوريه بقيادة عبد الناصر والتي تحتاج لحديث خاص)، انفردوا بحكم بلادهم بطريقة شمولية استبدادية أزاحت الآخرين واضطهدتهم و جعلت دولها مزارع لممثلي الحكم الجدد، ولم تلغي الاستغلال والاستبداد بل غيرت طريقته وابّدته وجعلته عنوان الحياة العامة؛ نموذجا للفقر والقهر والاستغلال والاستبداد والتبعية والتخلف، وكل مخالف – افراد واحزاب- مصيره القتل او السجن أو الطرد، وهناك -دائما- أسباب مدّعاة لمواجهة المختلف : العداء للدولة او الخيانة العظمى أو العداء للنظام الاشتراكي أو ضرب اللحمة المجتمعية والترويج للطائفية .. الخ…
سابعا. كانت بقية الحركات والأحزاب القومية والاشتراكية والشيوعية وحتى الاسلامية ضحية اولى لهذه الانظمة التي لم يبقى من قوميتها واشتراكيتها غير ادعائها هذا وواقع حال استبدادها وقهرها وشموليتها، ورغم ان بعض الاحزاب والحركات القومية والاشتراكية والشيوعية والاسلاميه تنهل من ذات التوجه الشمولي الذي ينطلق من اطلاقية توجههم العقائدي وحقهم بالحكم عبر الانقلاب او (الثورة) لينفذوا اجندتهم وبالتالي اصطدموا مع هذه الانظمة التي تعاملت معهم كخصم استراتيجي محتمل سيلغي حكمهم، وان كانوا واقعيا أعجز من يفعلون ذلك لغياب أسباب القوة من يد هذه الحركات والأحزاب طول الوقت (وهذا أيضا يحتاج لحديث تفصيلي آخر)، لكن ذلك لم يمنع الانظمة أن تنكل بهم وتجعلهم عبرة تاريخية، تلغي أي مختلف وتمنع تفكير اي فرد او حزب او جماعة بالسياسة المعارضة او المواجهة للسلطة، النتيجة آلاف القتلى والمعتقلين وبعضهم لعشرات السنين، والتضييق الحياتي، كلها وسائل أدت -أخيرا- الى تأبيد السلطات التي لم يبقى من عقائدها سوى استبداديتها ووحشيتها، والغت السياسة في المجتمع إلا بصفتها تبعية وخضوع القطيع الشعبي الى السلطة الحاكمة وبكل الوسائل…
ثامنا. بدأ في سبعينات القرن الماضي ظهور بوادر حراك سياسي ثقافي وبين نخبة المثقفين اقترن بمراجعات هامة حول المستقبل العربي، وخاصة بعد هزيمة 1967 امام (اسرائيل)؛ وان مشروعية الأنظمة وبرامجها قد وضعت على المحك، ولم تستطع حرب 1973 أن تعدل الميزان؛ فبقيت حرب (تحريك سياسي) دفعت مصر لتصالح العدو وما زالت الحقوق مغتصبه (وهذا حديث آخر ). وعاد السؤال مجددا: كيف نحقق التقدم والتحرر والتوحيد والعدالة، وكان المراجعين من (القوميين واليساريين والإسلاميين) متوافقين على ان ذلك لا يحصل دون اعادة الاعتبار للديمقراطية في الدولة المجتمع هي مقدمة أي تقدم مجتمعي وانساني، وان غير ذلك يعني استمرار الدول الاستبدادية تستغل وتقهر المجتمع وتنتهك الحرمات، و ستستمر تحصل على شرعيتها من القوى الخارجية وتبعيتها لها وتمثلها لمصالحها على حساب الشعب في كل بلادنا العربية دون استثناء…
تاسعا.ظهرت المراجعات على مستوى نخبه من المفكرين والسياسيين بعضها بشكل فردي (د برهان غليون كنموذج عبر سلسلة كتب استفتحها في كتابه بيان من أجل الديمقراطية وكذلك ياسين الحافظ وغيرهم كثير في سوريا وعربيا)، أو عبر مؤسسات بحثية كمركز دراسات الوحدة العربية؛ الذي توج نشاطه بندوة فكرية عقدت في قبرص في الثمانينات من القرن الماضي عن (أزمة الديمقراطية في الوطن العربي)، وكثير من البحوث والمجلات الدورية التي تتابع الشأن السياسي العربي عموما وقضية السلطة والحكم والديمقراطية على التخصيص، وكذلك حصلت مراجعات في موضوع الديمقراطية حزبيا و وسياسيا في أغلب القوى السياسية الشمولية السابقة، وان تحدثنا عن سوريا كنموذج سيتولد من تحالف القوى السياسية المعارضة للسلطة السورية (ناصريين وشيوعيين و اشتراكيين عرب وحزب العمال الثوري وبعض البعثيين المعارضين.. الخ) تحالف تحت تسمية التجمع الوطني الديمقراطي، يصنع قطيعة مع الفكر الشمولي في إدارة الدولة والمجتمع ويعمل للتغيير الديمقراطي في سوريا، وكذلك الحال في أغلب البلاد العربية…