تواصل الحكومة التركية، منذ حزيران/ يونيو 2023، حملة أمنيّة مشددة ضدّ “الهجرة غير الشرعية”، هدفها ملاحقة المهرّبين والمهاجرين غير الشرعيين على حد سواء، وتركّز الحملة على مدينة إسطنبول التي تستقطب العدد الأكبر من الأجانب في عموم تركيا.
وعلى الرغم من أن هذه الحملة تستهدف المهاجرين غير الشرعيين، من عموم الجنسيات التي دخلت تركيا بطريقة غير شرعية أو التي دخلت بطريقة شرعية وتجاوزت المدة المسموح بها ولم تستخرج أي نوع من الإقامات المتاحة، فإنّ التركيز الإعلامي التركي كان بشكل أساسي على السوريين الذين يبلغ عددهم نحو 3 ملايين 308 آلاف، ممن يقيمون تحت بند “الحماية المؤقتة”، وفق تصريح لوزير الداخلية علي يرلي كايا، في 22 آب/ أغسطس 2023[1].
وبينما نشرت وسائل إعلام سورية وعربية[2] شهادات لسوريين تم ترحيلهم إلى شمال سورية، مع أن إقامتهم نظامية في البلاد، أعلنت الداخلية التركية أنها منحت السوريين “المخالفين” في إسطنبول بشكل خاص مهلة زمنية تنتهي في 24 أيلول/ سبتمبر 2023، للعودة إلى الولايات التي مُنحوا فيها بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك)، وإلا فسيُعاملون كمهاجرين غير شرعيين ويتم ترحيلهم، حيث إن هناك تقييدًا على إقامة السوريين الحاصلين على الحماية المؤقتة، وعلى سفرهم داخل تركيا أو خارجها.
في خضمّ حالة التخوف من المستقبل لدى عموم السوريين في تركيا، التي خلقتها الحملة المستمرة، يمكن القول إن خطاب العنصرية ازداد حدّةً ورواجًا بشكل غير مسبوق، ليشمل العرب إلى جانب السوريين، سواء من خلال الخطاب الذي تقوده أحزاب سياسية، أو المنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، أو الممارسات الفعلية على الأرض ضدّ السوريين والسيّاح العرب، مما عقّد الوضعَ وزاده خطورة، وذلك في ظلّ صمت من الحكومة، وعدم اتخاذ إجراءات عمليّة تحدّ من أثر الخطاب في بداية الحملة، قبل أن تتخذ وزارة الداخلية عدة إجراءات بحق من وصفتهم بـ “المحرّضين على الكراهية والعداوة”[3].
ونتيجة لذلك، بات من الملاحظ ارتفاع وتيرة بحث السوريين عن مقصد هجرة آخر خارج تركيا، خوفًا من الترحيل أو ضيقًا بالخطاب العنصري بحد ذاته، إلى جانب ارتفاع صوت الانتقادات العربية ضد ذلك الخطاب، مما أثر سلبًا في قطاعي السياحة والاستثمار في تركيا، في ظلّ مطالبات برفع سقف الرد القانوني ضد الخطاب العنصري وممثليه. وقد ذكر ياسين أقطاي (نائب رئيس حزب العدالة سابقًا) في مقال له، أن العنصرية ضد العرب كلّفت تركيا 5 مليار دولار هذا الصيف، وأصبحت تركيا تُعدّ دولة عنصرية[4].
ونظرًا للإطار الزمني والظرفي للحملة، نجد أولًا أنها تأتي بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية جديدة حتى 2028، وقبيل الانتخابات المحلية/ البلديات، في آذار/ مارس العام المقبل 2024؛ وثانيًا تأتي في ظل أزمة اقتصادية فاقمها التضخّم المرتفع باستمرار، والزيادات على أسعار الوقود بشكل خاص وإيجارات المنازل وأسعار العقارات، مما يجعل الملف الاقتصادي على رأس أجندة المواطن التركي.
بناءً على ذلك، تناقش هذه المادة البحثية ثلاث مسائل: آلية وأهداف الحملة الأمنية والترحيل التي تقودها الحكومة التركية؛ تأثيرات الحملة على السوريين الموجودين في تركيا؛ تأثيرات انتعاش الخطاب العنصري على السوريين والعرب في تركيا، وموقف الحكومة التركية من ذلك.
1: آلية وأهداف الحملة الأمنية والترحيل التي تقودها الحكومة التركية
– خلفية الحملة: بحكم موقع تركيا الجغرافي وربطها بين قارتي آسيا وأوروبا، وتطورها في السنوات الماضية؛ تحولت إلى دولة جاذبة للهجرة، إلى جانب كونها نقطة عبور نحو أوروبا، ومنذ سنوات يمكن لمن يقيم في تركيا ملاحظة وجود عدد كبير من الأفغان والآسيويين والأفارقة منتشرين في عموم المدن التركية، ولا سيما إسطنبول، بسبب النشاط الصناعي وحاجتها لليد العاملة، حيث يعمل معظم هؤلاء بشكل غير شرعي، وإذا أضفنا إلى ذلك هجرة ملايين السوريين بسبب الحرب الدائرة في سورية منذ 12 عامًا، وغيرهم من العراقيين، وسواهم من بلدان الصراع في العالم العربي والشرق الأوسط؛ فإن الأرقام تجعل تركيا في صدارة الدول التي تستقطب المهاجرين، حيث يوجد في تركيا 4 ملايين و888 ألفًا و286 مهاجرًا، من ضمنهم السوريون الذين يبلغ عددهم 3.3 مليون، وفق الإحصائيات الرسمية[5]. في حين يقول أوميت أوزداغ رئيس حزب “النصر” اليميني المتطرف أن عدد المهاجرين في تركيا يصل إلى 13 مليونًا[6]. ويُلاحظ هنا أن تركيا كانت ولا تزال جاذبة لهجرة السوريين، باعتبارها دولة تحدّ سورية، كما حال لبنان والأردن، وعلى الرغم من أن تركيا أغلقت الحدود بشكل رسمي منذ 2015، وبنت جدرانًا عازلة وزادت التشديدات والقيود عبر الحدود مع سورية، فإن العديد من المهاجرين السوريين يحاولون الدخول إلى تركيا عبر طرق غير شرعية، في حين يفرض القانون الدولي الإنساني على دول الحدود استقبال المهاجرين، في حالة الكوارث الطبيعية أو الصراعات المسلحة.
وبسبب حاجة البلاد إلى الأيدي العاملة مع نهضة قطاعها الصناعي وزيادة صادراتها بشكل غير مسبوق في تاريخ الجمهورية، كانت الحكومة تتعامل مع وجود المهاجرين غير الشرعيين بتساهل، باستثناء بعض الحالات التي تشكل خطرًا على أمنها القومي، قبل أن يتغير الوضع في أواخر 2019.
– هدف الحملة: بدأت أول حملة أمنية مشددة ضد المهاجرين غير الشرعيين منتصف تموز/ يوليو 2019، في عهد وزير الداخلية السابق سليمان صويلو، وركزت بالدرجة الأولى على وجود السوريين بإسطنبول، وكان من الملاحظ حين النظر لتوقيت تلك الحملة أنها جاءت عقب خسارة حزب العدالة والتنمية بلدية إسطنبول في انتخابات الإعادة في حزيران/ يونيو 2019، مما خلق تصورًا بأن الكثافة السكانية للسوريين والأجانب في هذه المدينة المهمّة كانت أحد أسباب خسارة الحزب لها، مما دفع أردوغان إلى توجيه تعليمات باتخاذ خطوات جديدة بحق السوريين، تشمل تشجيعهم على العودة الطوعية وترحيل المخالفين منهم.
وطوال السنوات الأربع الماضية، استمرت الحملة إلا أنها كانت بنطاق أخف من بدايتها عام 2019، وهي تعود اليوم بزخم أكبر وغير مسبوق لتشمل جميع الجنسيات من المهاجرين، في إطار الهدف ذاته، وهو الاستجابة لردة الفعل الشعبية المتضايقة من استمرار وجود السوريين دون وجود حلّ لأزمتهم الأساسية في بلدهم، ورضوخًا كذلك للخطاب المناهض لوجودهم، من قبل الأحزاب السياسية المعارضة التي طالما استخدمت ورقة المهاجرين والسوريين في الحملات الانتخابية.
ومما يؤكد ذلك أن استخدام ورقة السوريين بشكل خاص بلغت ذروتها في حملة الإعادة للانتخابات الرئاسية بين 14 و28 أيار/ مايو الماضي، حيث عُلّقت لافتات ضخمة في الشوارع من قبل مرشح المعارضة الرئاسي كمال كليجدار أوغلو، تعِدُ بترحيل السوريين وضبط الحدود، فضلًا عن الخطاب المتطرف الذي يقوده أوميت أوزداغ، زعيم حزب النصر المعارض، هذا على الرغم من أن ملف السوريين هو ملفّ إنساني ويدفع ثمن استغلال هذه الورقة الأبرياء.
إن توقيت بدء الحملة الأمنية ضدّ المهاجرين في وقت مبكر، قبل انتخابات البلديات في آذار/ مارس 2024، مع التركيز على مدينة إسطنبول بشكل خاص، يُعطي انطباعًا بأن البعد السياسي الداخلي والحرص على عدم التفريط باستحقاق انتخابي كبير في الانتخابات المحلية المقبلة أو أي مواجهات انتخابية قادمة هو أحد أهمّ أهداف هذه الحملة.
وهناك جانب آخر من أهداف هذه الحملة، لا يتعلق بالاستجابة لضغوط المعارضة والشارع التركي، بل بالحليف الرئيسي لحزب العدالة والتنمية، وهو حزب الحركة القومية، وهو معروف بمعارضته لبقاء السوريين في تركيا وتجنيسهم وتوزّعهم بشكل كثيف في الولايات الجنوبية، مثل غازي عنتاب وكليس وغيرهما. وإضافة إلى ذلك، هناك بعد أمني بحت مصدره الخوف من وجود آلاف المهاجرين الأجانب غير المسجلين بشكل رسمي لدى السلطات، وهو ما يشدد عليه مسؤولو العدالة والتنمية، فضلًا عن المعارضة.
– آلية الحملة: يقول وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، في تصريحات له في بدايات الحملة مطلع تموز/ يوليو الماضي، إن السلطات تستهدف الأجانب الذين يقيمون أو يعملون في البلاد بطريقة غير شرعية، سواء من دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية، أو من دخلوا بطريقة شرعية لكنهم تجاوزوا مدة بقائهم المحددة لهم بحسب فيزا الدخول.
وبناءً على ذلك، فإن الحملة تشمل السوريين الذين لا يملكون بطاقة حماية مؤقتة، وعلى الرغم من أنهم قدموا من بلد حرب، فإن القانون التركي لا يعدّهم “لاجئين”، ولذلك لا يمنحهم حقوق هذه الصفة، حيث إن أنقرة وقعت على اتفاقية جنيف 1951 للاجئين، شريطة أن تقبل اللاجئين القادمين من دول المجلس الأوروبي فقط، وهذا يعني أن أي أجنبي يدخل تركيا بطريقة غير شرعية، ولو جاء من بلد حرب، لا يُعامل بصفة “لاجئ”.
هناك جدل آخر يتعلق بشهادات لسوريين يمتلكون أوراقًا رسمية، ومع ذلك تم ترحيلهم إلى سورية، وهذا بدوره يتقاطع مع حالات عديدة تتعلق بتوقيف قيد الحماية المؤقتة لسبب معلوم أو مجهول، أو ضبط الشخص بولاية خارج ولايته التي استصدر منها بطاقة الحماية المؤقتة، وما شابه من حالات تحتاج إلى دراسة كل منها على حدة.
بالعودة إلى الآلية، نجد أن الانتشار الأمني المكثف في الطرقات والميادين ومداخل المناطق، لا سيما في إسطنبول، يوضح مدى اهتمام السلطات بملاحقة وضبط المخالفين وترحيلهم إلى البلدان التي قدموا منها. وبينما يقول وزير الداخلية يرلي كايا إن الحملة من المتوقع أن تستمر 4 إلى 5 شهور، فمن المتوقع أن تأخذ وضع الديمومة، بهدف الحفاظ على نتائجها، وسيكون التركيز على مدينة إسطنبول بشكل أكبر من غيرها، وهذا يعني أن الحملة ربما تتواصل حتى بعد انعقاد الانتخابات المحلية، لأن الانتخابات ليست الهدف الوحيد للحملة.
2- تأثيرات الحملة على السوريين الموجودين في تركيا
زادت الحملة الأمنية التي جاءت عقب الانتخابات الأخيرة من هاجس السوريين، الذين وجدوا أنفسهم على رأس أجندة تلك الانتخابات، وبينما كانت هناك توقعات لدى البعض بحدوث انفراجة بعد الانتخابات، وجدوا السوريون أنفسهم ملاحقين في الطرقات وورشات العمل لإبراز هوايتهم، فضلًا عن خطاب عنصري متفاقم يتهمهم بنشر الفوضى والجريمة، ويتذمّر من وجودهم، ويطالب بترحيلهم بشكل جماعي، وإن كان ذلك قسرًا إن اقتضت الضرورة.
يقود أوميت أوزداغ رأس الحربة لهذا الخطاب، وينشط حزبه على معاداة السوريين والعرب والأجانب عامة، ويبث حالة من الرعب في الشعب التركي، من تهديد الأجانب على مستقبل البلاد وأبنائها وشبابها وأمنها ونسيجها الاجتماعي والديموغرافي، مصحوبًا في كثير من الأحيان بسيل من المعلومات المغلوطة بحق السوريين، مثل عددهم والمساعدات المقدّمة لهم وعملهم وتعليمهم، والأسوأ من ذلك هو توجيه أصابع الاتهام لهم بشكل جماعي، عند ارتكاب أحد السوريين لجنحة أو جناية ما، مما يولد بدوره موجة غاضبة في المجتمع المضيف، تصل أحيانًا إلى وقوع جرائم قتل يذهب ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم.
ولعل الصورة التي انتشرت أخيرًا على أنها منشورة في موقع غير رسمي بالويب المظلم (دارك ويب)[7] لجوائز ومكافآت مالية مقابل قتل السوريين، وما رافقها من تعليقات مخيفة عبر مواقع التواصل، تعطي دليلًا واضحًا على أي مدى يمكن أن يصل خطاب الكراهية دون وجود رادع قانوني قوي، بغض النظر عن حقيقة وجود هذا الموقع أو حتى حقيقة تلك التعليقات التي قد يكون جلها من حسابات “بوت” وهمية.
نتيجة لهذا الوضع، بات البحث عن مقصد هجرة آخر غير تركيا هو الشغل الشاغل لكثير من السوريين الموجودين في هذا البلد، رغم أخطار سلوك طرق الهجرة البرية أو البحرية إلى اليونان أو بلغاريا عبر تركيا. وزاد بحث السوريين، وخاصة من يمتلكون قدرًا من المال، عن السفر إلى دول أخرى، مثل مصر على سبيل المثال، سواء لنقل مشاريعهم ورؤوس أموالهم إلى هناك، أو للإقامة والعمل فيها وبدء حياة هجرة جديدة على حساب الابتعاد عن الشعور بالإقصاء وخطاب الكراهية الموجه نحوهم. ومن المؤكد أن مثل هذه الحالات، أي البحث عن بلد جديد للإقامة والاستثمار به، آخذة في الزيادة مع مرور الوقت واستمرار الحملة الأمنية ومشروع العودة الطوعية إلى سورية، في ظل عدم وجود حل جذري لأصل المشكلة التي تعوق عودة الغالبية العظمى من السوريين المقيمين في الخارج.
في ما يتعلّق بالسوريين المرحّلين أصلًا، هناك أزمة إنسانية تكمن في أن عددًا كبيرًا منهم يجد نفسه في مناطق الشمال السوري التي لا ينحدر منها أصلًا، وليس لديه فيها أهل أو قريب أو صديق، فضلًا عن أن بعض حالات الترحيل قسمت عوائل وفرقتها إلى نصفين: نصف في تركيا ونصف في سورية. ومما يفاقم الأزمة عدم وجود آلية علنية توجب على عناصر الأمن والشرطة التثبّت من حالة الشخص، وعدم التسرع بترحيله، أو تشكيل لجنة تدرس وضعه الإنساني، وما يمكن أن يترتب على ترحيله من أزمة له أو لعائلته، والتفكير في مصيره إذا قررت ترحيله في نهاية المطاف: أين يمكن أن يقيم في الداخل السوري؟ وهل له سكن هناك أو أقارب؟ وما شابه من أبعاد إنسانية.
يبدو أن الحملة الأمنية ستزيد من معاناة السوريين وهواجسهم بمستقبلهم في تركيا، ولا شك في أن صعوبة وقلة الخيارات الأخرى المتاحة ستزيد من هذا الوضع الذي يفاقمه كذلك الأزمة الاقتصادية الموجودة في تركيا، وبشكل أخص ارتفاع إيجارات المنازل، حيث يعتبر حجر العثرة الأكبر لعموم السوريين نظرًا لعدم إمكانية تنقلهم بين الولايات أو حتى انتقالهم للعيش في بعض الأحياء والمناطق التي أعلنت السلطات منع إقامة الأجانب فيها.
3- تأثيرات انتعاش الخطاب العنصري على السوريين والعرب وتركيا، وموقف الحكومة التركية من ذلك
جاءت الحملة بعد موجة من الخطاب العنصري في انتخابات أيار/ مايو الماضي، ورافقتها كذلك حملة عنصرية ضد السوريين، وشملت معهم عموم العرب، من قبل سياسيين معارضين وإعلاميين مرموقين محسوبين على المعارضة التركية، الأمر الذي لفت انتباه محيط تركيا العربي، لا سيما دول الخليج التي باتت تتمتع بعلاقات جيدة في الآونة الأخيرة مع أنقرة.
وصل الحديث عن الحملة العنصرية ضد السوريين والعرب إلى الخليجيين أنفسهم، لا سيّما مع حدوث مواقف فردية عدة ضدّ بعض السياح العرب في إسطنبول وغيرها من المدن التركية، سواء بسبب اللباس التقليدي أو حتى الديني أو اللغة، مما ولّد شعورًا معاكسًا لبعض الجاليات العربية إزاء السفر إلى تركيا والتنقل فيها.
ولا شكّ في أنّ الحملة الأمنية الأخيرة ضدّ المهاجرين استُغلّت بطريقة ما، من رعاة خطاب العنصرية والكراهية، حيث رأوا أن الملاحقات الأمنية ضد المهاجرين في الشوارع انتصارٌ لهم، فزادوا جرعة التحريض والتعميم، وهو ما أغفلته الحكومة في البداية، وينعكس ذلك على حالة التساهل مع المحرّضين أو الذين يقومون بأعمال عدوانية ضد الأجانب والسياح، وعدم تطبيق عقوبات رادعة تنعكس آثارها على الرأي العام عبر وسائل الإعلام.
ومع أن عملية ضبط وجود الأجانب هي حقٌ لأيّ حكومة على أراضيها، فإن من واجبها كذلك ضمان عدم استغلال ذلك، من حيث الخطاب العنصري، بل إن عليها مكافحة ذلك بمختلف السبل القانونية، وإن اقتضى الأمر سنّ قوانين خاصة لدرء المخاطر المتزايدة من هذا الخطاب مستقبلًا.
ولأجل ذلك، فإن استمرار هذه الوتيرة من خطاب الكراهية ونشر المعلومات المغلوطة واستهداف الناس على أساس عرقهم ولونهم، من دون ردع قوي، سيزيد من تلك الحوادث، وسينعكس بآثار سلبية على تركيا وعلى قطاعي السياحة والاستثمار بشكل أساسي، كما قد ينعكس سلبًا على تطوّر العلاقات الاقتصادية الجارية بين أنقرة ودول الخليج.
استنتاجات وتوصيات
1- الحملة الأمنية ضد المهاجرين غير الشرعيين في تركيا نابعة من وجود قدر كبير من المهاجرين بالفعل في هذا البلد، لكن هناك بعدًا سياسيًا كذلك يقف وراءها، يتعلّق بالاستجابة لضغوطات الشارع التركي وخطاب المعارضة، فضلًا عن البعد الأمني الرافض لوجود أجانب غير مسجلين بشكل رسمي لدى السلطات.
2- من حق أي دولة أن تضبط حدودها وأراضيها ضد الوجود غير القانوني لمواطنين أجانب، لكن هذا لا يمنع من مراعاة البعد الإنساني ومكافحة خطاب العنصرية والكراهية الذي قد يعدّ الحملةَ رضوخًا له، لا سيما عند التعامل مع أشخاص قادمين من دولة حرب مثل السوريين.
3- من المتوقع أن تزيد هذه الحملة نسبة هجرة السوريين من تركيا نحو مقصد آخر، سواء عبر الطرق الشرعية أو غيرها، وأن تزيد الشعور بالخوف والقلق وعدم الاستقرار على صعيد المستقبل، عند السوريين في تركيا.
5- مع انتهاء المهلة الزمنية الممنوحة للسوريين المخالفين في إسطنبول، يوم 24 أيلول/ سبتمبر، من المتوقع أن تنشأ أزمة اقتصادية لهؤلاء المخالفين الذين سيضطرون إلى العودة إلى ولاياتهم الأصلية، في ظل صعوبة البحث عن مسكن ومصدر رزق، بعد سنوات من التأقلم ضمن وضع مغاير.
6- هناك أزمة يواجهها السوريون الذين تمّت عملية ترحيلهم إلى الشمال السوري، من حيث العثور على مسكن وعمل، ولا سيما الذين ليس لديهم أي قريب أو صديق في المنطقة، في ظل ندرة فرص العمل في تلك المنطقة، وهذا يستوجب تحرّك المعارضة السورية السياسية ومنظمات المجتمع المدني للنظر في أحوالهم.
7- خطاب العنصرية في تركيا يزداد خطورة، وعلى الحكومة ضبطه، وسنّ قوانين رادعة إن اقتضى الأمر، ومن الضروري أن تتخذ الحكومة إجراءاتها ضد المحرّضين وأصحاب خطاب الكراهية على العلن، وتنشر مجريات ذلك عبر وسائل الإعلام، بهدف توعية وخلق آلية ردع قوية.
8- زادت مواقف وحوادث الاعتداء ضد السوريين والعرب بالتزامن مع الحملة الأمنية، مقارنة بالمرحلة السابقة، لكنها تبقى في نطاق الحوادث الفردية، ومع ذلك فإن الوضع يُنذر بخطورة يجب تداركها.
9- يجب أن لا تتسبب هذه الحملات والحوادث بخلق حالة احتقان بين المجتمعين التركي والسوري/ العربي، لأن لذلك مخاطر كبيرة على المدَيين القريب والبعيد، نظرًا لعلاقات الجوار، وحاجة كل طرف إلى الآخر، وتقاطع المصالح في العديد من الملفات.
10- يُتوقع أن تنتهي الحملة على اللاجئين المخالفين أو المهاجرين غير الشرعيين، بعد انتخابات آذار 2024، وإذا استمرّت، فستكون بوتيرة أقل مما نشهده الآن، وذلك بهدف ضمان عدم استمرارية الوجود الأجنبي غير الشرعي في البلاد.
ومما يعضد ذلك أن تغييب قبضة التشديد على الانتشار الأجنبي في البلاد سيخلق مخاوف لدى الحكومة من عودة الأمور إلى السابق، واستغلال ذلك في أي منافسة انتخابية قادمة مع المعارضة، لا سيّما في مدينتي إسطنبول وأنقرة.
11- بعد الانتخابات البلدية، يتوقع أن تتخذ السلطات الرسمية التركية إجراءات أشدّ ضد حملة التحريض على الكراهية وأعمال التمييز العنصري، وأن تشارك وسائل الإعلام التركية في مواجهة حملات العنصرية. وبينما تخشى تركيا من التأثيرات السلبية التي تسببت بها الحملة على قطاعي السياحة والاستثمار، فإنه لا يمكن مواصلة قبضة التشديد القائمة حاليًا بالوتيرة ذاتها، بل ستكون محدودة في غضون 4 أو 5 أشهر، كما صرح وزير الداخلية، إلا أن مخاوف الحكومة من مواصلة استغلال المعارضة لقضية دخول اللاجئين وانتشارهم في المدن التركية، ستتطلب منها مواصلة الحملة الأمنية لكن “بصورة أقل حدة”، مما يضمن لها في المستقبل القريب، لا سيما قبيل انتخابات 2028، عدم الاضطرار إلى شنّ حملة مشددة أخرى والتصادم مع انعكاسات سلبية لها كما يجري الآن.
[1] وزير الداخلية التركي يكشف عدد السوريين في تركيا – جمهوريّت في 22.08.2023 – شوهد في 25.09.2023 – في https://bit.ly/3ZBXSSE
[2] ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا: شهادات عن الطرد والمعاناة – العربي الجديد، 06.08.2023 – شوهد في 25.09.2023 – في https://bit.ly/3ERYDxh
منظمات سورية: الانتهاكات متواصلة في سوريا وإعادة اللاجئين من تركيا خطر جدي – تلفزيون سوريا، 27.07.2023 – شوهد في 25.09.2023 – في https://bit.ly/3rrswRW
[3] تركيا تشنّ حملة اعتقالات ضد محرّضين على الكراهية – عربي بوست، 20.09.2023 – شوهد في 25.09.2023 – في
https://bit.ly/48sGfsb
[4] تكلفة عداء الأجانب على تركيا – يني شفق، 16.09.2023 – شوهد في 25.09.2023 – في
https://bit.ly/48vZxx9
[5] عدد الأجانب في تركيا – جمعية اللاجئين التركية، 14.09.2023 – شوهد في 25.09.2023 – في
[6] تغريدة من حساب أوميت اوزداغ على منصة “إكس” – 16.07.2023 – شوهد في 25.09.203 – في
https://bit.ly/453c34g
[7] تحقيق لمنصة إيكاد حول الموقع ومن يقف وراءه، يمكن الاطلاع عليه من هنا.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة