قمح السوريين بعد الأسد.. ما الذي تغيّر؟

إياد الجعفري

مع تواصل عمليات تسليم القمح للمؤسسات المعنية، من المغري استكشاف ما الذي تغيّر في أول موسم في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد. فالاقتصاد المرتبط بهذه السلعة الاستراتيجية، حكمته أربع معادلات رئيسة في السنوات الأخيرة من عهد حكم بشار الأسد، لم يتغيّر أيٌ منها بصورة نوعية، باستثناء المعادلة الرابعة التي شهدت تغيّراً جذرياً.
أولى هذه المعادلات، هو أن سعر القمح المحلي أعلى من نظيره العالمي المستورد. وهي معادلة نجمت عن ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي عموماً، في السنوات الأخيرة من حكم بشار الأسد، كنتيجة لرفع الدعم الحكومي عن المحروقات. وهي نتيجة لطالما حذّر منها الخبراء منذ 2020، وظهرت جليّة منذ 2022، بصورة اضطرت سلطات حكومة الأسد السابقة إلى دفع سعر للقمح المحلي، أعلى من المستورد، لإنقاذ هذه الزراعة الاستراتيجية، التي أخذ المزارعون السوريون، يُدبرون عنها، سنة تلو الأخرى.

في موسم 2023، دفعت سلطات النظام السابق 10 دولارات زيادة لطن القمح المحلي مقارنة بالسعر العالمي. أما في موسم 2024 فدفعت نحو 130 دولاراً زيادة. والجديد في هذا الموسم، الأول منذ سقوط نظام الأسد، أن سلطات الحكومة بدمشق دفعت ما بين 170 إلى 190 دولاراً زيادة لطن القمح المحلي مقارنة بالسعر العالمي. فيما دفعت سلطات “قوات سورية الديمقراطية- قسد”، نحو 160 دولاراً زيادة لطن القمح المحلي.

وقد اختلط الأمر على الكثيرين، ممن يعتمدون على أسعار مبيع القمح الآجل عبر المنصات المتخصصة بعرض أسعار السلع العالمية، والتي تحدد أسعار طن القمح ما بين 520 إلى 540 دولاراً. بينما الأسعار على أرض الواقع أقل من ذلك بكثير. إذ نقلت رويترز أن مصر اشترت مئات آلاف الأطنان من القمح خلال الأسابيع القليلة الماضية، بأسعار تتراوح ما بين 250 و258 دولاراً للطن، شاملة تكاليف الشحن. وهو ما يجعل تعليق البعض، عبر وسائل التواصل، بأن القمح السوري قد يكون الأغلى عالمياً، ليس بعيداً جداً عن الصواب. كما أن التسعيرة المعلنة من جانب سلطات الحكومة بدمشق لشراء القمح المحلي، هي الأعلى في تاريخ سوريا. وهي تعبّر عن وعي مسؤولي هذه الحكومة بخطورة خسارة هذه الزراعة الاستراتيجية، ومحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها. وفيما تحدثت بعض المصادر الإعلامية قبل أسابيع عن اتجاه سلطات الحكومة في دمشق بعيداً عن دعم زراعة القمح، يظهر سعر الشراء المحدد من جانب هذه السلطات، كعملية دعم مباشر للمزارع، كي يستمر في زراعة هذه السلعة. لكنه يرتب عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة.

أما المعادلة الثانية التي لطالما حكمت اقتصاد القمح في سوريا، في السنوات الخمس الفائتة، فهي تلك المنافسة بين سلطات الأمر الواقع، على شراء أكبر قدر ممكن من القمح المحلي. في السنوات السابقة كانت المنافسة بين أربع سلطات (النظام السابق، قسد، الإنقاذ في إدلب، والمؤقتة بشمال حلب). أما في هذه السنة، فانحصرت المنافسة بين “قسد” وسلطات الحكومة بدمشق. وقد قدّمت الأخيرة سعراً أعلى، لتعزيز حظوظها في جذب قدر أكبر من قمح شمال شرق سوريا، الخاضع فعلياً لسيطرة “قسد”.

أما أسوأ المعادلات، فهو الجفاف والتغيرات المناخية. فقد وصفت “الفاو” هذا الموسم في سوريا، بأنه الأسوأ منذ 60 عاماً. وقد أدى إلى تضرر نحو 95% من القمح البعلي، ونحو 30 إلى 40% من القمح المروي.

أثر الجفاف على زارعة القمح بسوريا، ليس جديداً. ففي تموز 2024، قال مهندسون زراعيون إن مردودية دونم القمح لذاك العام، كانت الأقل منذ سنوات. وفي عام 2022 قالت دراسة استقصائية نشرها مركز “السياسات وبحوث العمليات”، إن تداعيات موجات الجفاف على صحة الأراضي الزراعية، قد تكون وصلت إلى نقطة اللاعودة. وحذّرت الدراسة حينها من أن الجفاف يتضافر مع عقودٍ من سوء إدارة القطاع الزراعي والموارد المائية في البلاد، ليضع السوريين على حافة أزمة زراعية هي الأسوأ في تاريخهم المعاصر.

وختاماً، نصل للمعادلة الرابعة التي كانت تحكم اقتصاد القمح في سوريا، في السنوات الأخيرة من حكم الأسد، والتي تغيّرت بصورة كبيرة، بعد سقوطه. وهي المتعلقة بالاستيراد. فقد كانت روسيا هي المصدر الرئيس للقمح المستورد، مع تسهيلات ائتمانية كبيرة. وقبل أيام نقلت رويترز خبراً عن رفع شركة روسية لتجارة الحبوب دعوى قضائية ضد مصرف سوريا المركزي ومؤسسة الحبوب، مطالبةً بمبلغ 71 مليون دولار. ومن المرجح أن هذه المبالغ هي ديون متراكمة منذ عهد الأسد. فقد كانت روسيا تمنح حكومة الأسد شحنات من القمح، بالدين. وكانت روسيا قد زودت سوريا، بآخر شحنة قمح، لمرة واحدة، بعد سقوط النظام السابق. ومن ثم توقفت إمدادات القمح الروسية، مع إشارة وكالة “تاس”، لوجود ديون متراكمة على النظام المخلوع، وفق خبر نشرته في نيسان الفائت. والملفت أن “تاس” نقلت هذا الخبر، حينها، عن الرئيس التنفيذي لشركة “إس تي جي” الروسية. والذي قال إن ديون الجانب السوري لشركته مقابل شحنات قمح ترجع لزمن الأسد، تصل إلى 116 مليون دولار. و”إس تي جي”، هي إحدى أذرع “ستروي ترانس غاز” الروسية في سوريا، رغم إنكار هذه الأخيرة الصلة التنظيمية والقانونية بينهما، تهرباً من العقوبات الغربية. وبعد سقوط نظام الأسد، خسرت “إس تي جي” مع ذراع آخر لـ”ستروي ترانس غاز”، كلاً من: استثمار مرفأ طرطوس، ومعامل الأسمدة الثلاثة التابعة للشركة العامة للأسمدة، ومناجم الفوسفات بتدمر.

وهكذا، خرجت روسيا من معادلة استيراد القمح إلى سوريا، خروجاً كاملاً على الأرجح. مما يفرض عبئاً في توفير موردين للقمح من مصادر أخرى، مع غياب التسهيلات الائتمانية التي كانت تتيحها روسيا، سابقاً. وقد يخفف من عبء هذا التطور، رفع العقوبات الغربية –بمعظمها- عن سوريا، مما يحسّن فرص شراء القمح من موردين عالميين. وأبرز المصادر البديلة لروسيا، أوكرانيا، الراغبة بشدة، في تطوير علاقاتها الإيجابية مع السلطات السورية الجديدة. وتظهر رومانيا أيضاً، في قائمة الموردين المحتملين.

يبقى أنه في معادلة الاستيراد، ازداد عبء التكلفة. فالفجوة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك، ستكون أكبر هذه السنة، مع تردي الإنتاج المحلي بفعل الجفاف. ومع استهلاك محلي يصل إلى نحو 2.5 مليون طن سنوياً، قد تصل الفجوة التي من المفترض سدها عبر الاستيراد إلى نحو 2 مليون طن. بتكلفة قد تصل إلى نحو نصف مليار دولار.

ملف استيراد القمح في سوريا، والذي يزداد ثقله على خزينة الدولة المرهقة، سنة تلو الأخرى، بالتوازي مع تأثير الجفاف وتردي مستويات المياه الجوفية بصورة مستمرة، يخلق صورة قاتمة لمستقبل هذه الزراعة الاستراتيجية في سوريا. بل ويهدد مستقبل الأمن الغذائي في البلاد، برمته. فتأمين رغيف الخبز في السنوات المقبلة سيصبح أكثر تكلفة وصعوبة، مما يتطلب حلولاً خلّاقة، ومعالجات استثنائية. وربما دعماً خارجياً، لإنقاذ زراعة القمح المحلية، وتحسين مردودها.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى