
خلال حملته الانتخابية، كانت جلّ تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تفيد بأن عهدته (ولايته) ستكون عهدة سلام، وأنه حريص على وضع حدّ للحروب التي اندلعت في أكثر من منطقة، ولعلّ من أهمها الحرب الروسية الأوكرانية، علاوة على الحرب الإسرائيلية التي شنّتها دولة الاحتلال على قطاع غزّة. بل إنه توسّط لإيقاف حربٍ خاطفةٍ كادت أن تشعل نيران الفتك في جنوب آسيا بين الجارين الهند وباكستان. ومع ذلك، لم تمضِ من عهدة الرئيس ترامب سوى بضعة أشهر، حتى اشتعلت الحرب مجدّداً، فكانت الحرب التي شنّها الكيان الإسرائيلي على إيران. الموجات الهائجة والملتهبة من الحروب دليل عبثيتها وأنها بلا رادع أخلاقي.
لن يتذكّر معظم من هم أحياء من البشر الحرب العالمية الأولى، أمّا من ولدوا قبيل الحرب العالمية الثانية، فيحتمل أنهم عاشوا ويلاتها أطفالاً، أو ولجوا حينها سنواتهم الأولى من مرحلة الشباب، ولا يزال بعض من شهدوها جنوداً في قيد الحياة. مئات المذكّرات والقصص الحقيقية، والشهادات الحيّة، ما زالت تتوالى فاضحةً بشاعة ما جرى، فضلاً عن جبالٍ من الوثائق المكتوبة والسمعية، التي تحكي هول ما عاشته البشرية من فظائع مؤلمة. هل فعلاً كان المتحاربون بشراً أسوياء؟… تتهاوى المقولات عن وحدة الجنس البشري والإخاء الإنساني وتتبدّد. تشكّل لنا الحروب لوحةً أخرى مغايرةً لا تسفّه من البشرية ما يمجّد من خصال نبيلة فحسب، بل تنزل بنا إلى مرتبةٍ أدنى من مرتبة الوحوش. إنها تبرهن أننا إذا خضنا حرباً، غدوْنا أكثر إرعاباً من الوحوش التي لم ترتكب ما ارتكبه البشر.
كلّ ما تعيشه البشرية حالياً من حروب تفضح نفاق البشرية وصلف الأقوياء. ومع ذلك، لن تذهب هدراً معاناة الضحايا
ستبدو مقولات الفيلسوف توماس هوبز لطيفةً لا تخلو من كياسة وظرافة وهو يصف البشر في أثناء الحروب. لا تتفنّن الوحوش وهي تخوض صراعاتها القاتلة من أجل الحياة في قتل خصمها. يكفي أن يتخلّص الذئب مثلاً من منافسه، سواء من بني جنسه أو من جنس آخر، حتى يكفّ عن القتل، وما إن يشبع الحيوان حتى إن كان وحشاً (صفة أطلقها البشر على الحيوانات العنيفة والقاتلة)، حتى يكفّ عن الصراع والقتل. هي معارك مؤقتة تنتفي بانتفاء سببها المُبرِّر لها؛ الأكل والتناسل أو التهديد المباشر.
المجال الحيوي الذي ترسمه الحيوانات متحرّك، ولا يحتمل تحايلاً أو هيمنة، أمّا البشر وهم يخوضون حروباً، فلا يرسمون لها عادة خطوطاً حمراء. كلّ شيء مباحٌ لا تردّه سوى قدرتهم على ثني بعضهم بعضاً، بما يختزنه المتحاربون مع وسائل تهديد لا تستبعد الإبادة والمحو. في كثير من خُطب الحروب الحالية، نسمع تعابير غاية في التوحّش، مفادها المحو من الخريطة، أو الإعادة إلى عصر حجري… إلخ. يرتهن ذلك كلّه لزرٍّ يضغط عليه قائد أو زعيم، أو أيضاً بجرّة قلم يمضيها. لم نرَ في معارك الوحوش الضارية أن ذئباً أو نمراً، مهما تجبّر وتكبّر، يهدّد جنساً آخر من الحيوانات بالمحو أو الإبادة. لا تعاقب الحيوانات بعضها بمثل هذه العقوبات، إنها على خلاف ذلك، تدير اقتصاد الحرب بكثيرٍ من المروءة، فلن يقتل الأسد مثلاً الغزلان كلّها بضربة واحدة، لأنه سيحتاجها في مقبل السنين. حين يشتم البشر بعضهم بعضاً، يصفون خصومهم بأنهم تدحرجوا إلى مرتبة الغريزة، وإن ما يصدر من سلوك عنهم هو في مرتبة دون البشرية. والحقيقة أن الغريزة كالساعة المحكمة، تُدار في انضباط تامّ إلى الحدّ الأدنى من حفظ الجنس، إنها لا تفيض على نحوٍ يجرف المتعارف عليه. والحال أن البشرية إذا حاربت، فلا رادّ لعنفها سوى مزيد من العنف، وإن تعقّلت، فلكي تتجنّب الأسوأ، وليس طلباً للفضيلة أو الرقي.
إذا حاربت البشرية، فلا رادّ لعنفها سوى مزيد من العنف
بعيد الحرب العالمية الثانية، ابتكرت البشرية حيلاً وآليات من أجل تجنّب إعادة إنتاج حروب عالمية جديدة، فصاغت “قوانين الحرب”، وهي جزءٌ أصيل من القانون الدولي، التي أجازت شنّ الحروب، لكنّها (في مفارقة غريبة) نصّت على جملة من الجرائم صنّفت ضمن جرائم الحرب أو جريمة الإبادة… إلخ. كما شكّلت البشرية أيضاً محاكم يمكن أن تلاحق مجرمي الحرب. وكان لمنظمة الأمم المتحدّة، وهيئاتها التي أُسّست لإحلال السلام (خصوصاً مجلس الأمن) وتفادي نكوص البشرية إلى حرب عالمية أخرى واتفاقيات اللجوء لحماية الفارّين من ويلات الحروب والمدنيين عموماً، دور في تفادي مزيد من الحروب. مع ذلك، فإن الحروب التي اندلعت، سواء في الثلث الأخير من القرن الماضي أو التي تجري حالياً، تبرهن على أن أدبيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومؤسّساتها، ظلّت عاجزةً عن حماية البشر. مرّة أخرى، أثبتت الحرب التي شنّتها إسرائيل على غزّة، أو الحرب التي شنّتها على إيران، أن البشرية أخفقت إخفاقاً ذريعاً في ردع المعتدي، وأنها بذلك قد تدحّرجت إلى مرتبة التوحّش الغريزي، أو حتى أفظع من ذلك.
كيف يمكن للبشرية أن تستخلص الدروس وتضع حدّاً لهذا العبث والشيزوفرنيا التي تصيب قادتها وزعماءها؟… يحتاج الأمر تجديد الأدبيات والمؤسّسات الأممية التي غدت متهالكةً. كلّ ما تعيشه البشرية حالياً من حروب تفضح نفاق البشرية وصلف الأقوياء. ومع ذلك، لن تذهب هدراً معاناة الضعفاء، والضحايا خصوصاً. ستظلّ ذاكرة المسحوقين حيّةً تتحيّن فرصةَ الثأر إثباتاً لقيمة الإنصاف، باعتباره مطلباً وحقّاً في آن، حتى إن تأخر وقتاً طويلاً.
يظلّ محمود درويش نداءً يزعج المتحاربين، حين وخز ضميرنا جميعاً، حين توجّع فقال: “وأَنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ/ لا تَنْسَ مَنْ يطلبون السلامْ”.
المصدر: العربي الجديد