تقدم إدارة بايدن، بعد تردد، على مبادرة دبلوماسية كبيرة في الشرق الأوسط. وهي لا ترمي إلى إحياء عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية المنصرمة، بل إلى مد جسور بين بلدين تربط كل منهما صداقة بالولايات المتحدة هما إسرائيل والسعودية.
وعلى هذا، زار مستشار مجلس الأمن الوطني، جايك سوليفان، السعودية، خلال يوليو (تموز) مرتين. ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن واشنطن والرياض اتفقتا على خطوط الإجراء العريضة، على رغم بقاء معوقات أساسية لا تزال عالقة.
ومن النادر في سجل عمليات السلام في الشرق الأوسط أن تتولى ثلاث حكومات السعي في سبيل غاية مشتركة علناً وعلى رؤوس الأشهاد. ولا شك في أن توقيع اتفاق إسرائيلي – سعودي على إقامة علاقات دبلوماسية إنجاز كبير. ولكن شريكي واشنطن في الاتفاق المحتمل هما دولة سعودية يبدو أنها تنتهج سياسة تخالف السياسة الأميركية، وتحالف حكومي إسرائيلي مؤلف من أحزاب وسياسيين لم يعرف تاريخ الدولة العبرية تطرفاً يمينياً يضاهي تطرفهما. وعلى إدارة بايدن السهر على ألا تطالب الرياض بما يتجاوز ما تطلبه من إسرائيل، وعلى الخصوص في شأن الفلسطينيين.
صفقة جيدة ومتعاقدون سيئون
في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كان تطبيع العلاقات السعودية والإسرائيلية لا يقدر بثمن. إلا أن الأوقات والظروف تغيرت. وفي ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أسهمت الدبلوماسية الأميركية في حلحلة العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج، وأضفت اتفاقيات أبراهام صفة رسمية على تبادل التمثيل بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين.
وتتبادل دول الخليج وإسرائيل، اليوم، المعلومات الأمنية، علناً أو سراً. وأجازت السعودية لشركات الطيران المدني الإسرائيلي التحليق في أجوائها. ووقعت مع مصر اتفاقاً ترد بموجبه مصر جزيرتين صغيرتين، في البحر الأحمر، إلى المملكة، ولم يصادق بعد على اتفاق يسمح للحجاج المسلمين من إسرائيل التوجه في رحلات مباشرة إلى السعودية.
وفي دورة كأس العالم لكرة القدم في قطر، أظهرت الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين إمكان توسيع التعاون. ويسهم التحدي الإيراني المتعاظم، وتهديد الجماعات الإرهابية، في التقريب بين الطرفين.
ولكن تعقد العلاقات الأميركية- السعودية يحول دون انخراط الولايات المتحدة في عملية تطبيع كامل يقتضي إبرامه التزامات أمنية أميركية قوية. وفي أعقاب عقود من العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، من المبالغة القول إن البلدين حليفان. وهما لا يتشاركان معايير كثيرة، وتتباين مصالحهما في مسائل مثل سعر النفط والعلاقة بالصين وروسيا.
وبرز السعوديون فاعلين سياسيين واستراتيجيين مستقلين، ينتهجون سياسات تمليها مصالحهم فوق ما تمليها مصالح الولايات المتحدة، طبعاً. وعلى هذا، للتقارب بين الرياض وتل أبيب قيمة لا شك فيها، شرط أن يكون الثمن معقولاً وعادلاً. وعلى واشنطن أن تقرر قيمة الثمن الذي في وسعها تسديده إلى الطرفين، وإلى الفلسطينيين (من الجهة الإسرائيلية).
وعلى إدارة بايدن الحرص على ألا تتنازل كثيراً، وألا ترضى بالقليل. فالرياض تطالب واشنطن ببناء برنامج نووي مدني، وهذا يفترض حق السعودية في تخصيب اليورانيوم. ويشترط تصدير التكنولوجيا الذرية الأميركية إلى المملكة التزام هذه أمور ثلاثة: توقيع اتفاق تعاون ينص على قيود قاسية في ما يتعلق بعدم الانتشار، وتوقيع البروتوكول الإضافي لمعاودة حظر الانتشار النووي وإجراءات التحقق التي يتولاها الاتحاد الدولي والوكالة الدولية وإبرام البروتوكول هذا. وينص الشرط الأخير على تولي الأميركيين المراقبة الإلكترونية على المنشآت.
على الولايات المتحدة الاضطلاع بدورها
قبول الرياض بهذه الإجراءات لا يخول واشنطن إعطاء السعودية الحق في تخصيب اليورانيوم، وفي السيطرة على دورة الوقود النووي. ونقل موقع “سيمافور” خبراً عن اقتراح المسؤولين السعوديين إنشاء “أرامكو نووية”- وهو مشروع مشترك، أميركي- سعودي، يمكن الولايات المتحدة من مراقبة البرنامج النووي المدني السعودي. ومآل المشروع إجازة تخصيب اليورانيوم في المملكة. وهذا ما عارضته واشنطن في السابق ولا ينبغي لها أن تجيزه نظراً لإلحاح هاجس الانتشار ولما ليس في الحسبان. وعلى واشنطن تغليب شاغل حظر الانتشار على غيره من الشواغل، على جاري المحال إلى اليوم.
ويقتضي عقد اتفاق جيد مع المملكة العربية السعودية الحرص على المبادلة بالمثل. وعلى الولايات المتحدة التمسك بضرورة معالجة المملكة بعض المسائل مثل المعايير الإنسانية العالمية، واستقرار اليمن، وتثبيت سعر النفط في ضوء المشاغل الأميركية. وعليها، من ناحية أخرى، دعوة الرياض إلى التصريح بشفافية تامة عن علاقاتها الناشئة ببكين، وإلى التزام أقصى الضمانات الأمنية للسلاح أو التكنولوجيا اللذين تستوردهما السعودية من الولايات المتحدة.
والأرجح أن يطلب السعوديون التزاماً أميركياً قاطعاً بالدفاع عن المملكة. ومصدر التهديد المحتمل ليس غزواً برياً، بل هو ضربات جوية وصواريخ وأعمال تخريبية. وفي وسع البلدين، من غير شك، مباشرة تنسيق أمني وثيق بينهما.
يتناول التنسيق إجراءات دفاع جوي ومضاد للصواريخ، من غير أن يقتضي تدخلاً أميركياً مباشراً. ويفترض التنسيق استشارة المملكة في أفضل السبل الآيلة إلى مساعدتها على صد تهديد خارجي. وفي مستطاع واشنطن أن تقترح على الرياض حلفاً من خارج “الناتو”، ومثل هذا الحلف قرينة على علاقة دفاعية وشراكة قويتين.
وقد يشترط السعوديون، كذلك، استجابة لرغبتهم في شراء نظم أسلحة أميركية متطورة، ومن الصنف الأول. ولا بأس بتلبية هذه الرغبة، وإرفاقها بضمانات مناسبة على أن يتولى الكونغرس الأميركي المراقبة والتأطير. ومن الأهداف التي يرمي إليها التقريب بين إسرائيل ودول المنطقة تقليص الحاجة إلى القوات الأميركية وليس زيادتها أو تعظيمها.
لا تقل لا
ولا ريب في استقبال إسرائيل تطبيع علاقاتها بدول المنطقة بالترحاب. وعليها، لقاء ذلك، الإسهام في نجاح الأمر. وعلى إدارة بايدن الطلب إلى الحكومة الإسرائيلية تعليق تعديلاتها على النظام القضائي بينما يفاوض على إرساء العلاقات الدبلوماسية. فالحكومة الإسرائيلية، وهي الأشد تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، عازمة على الانقلاب على نظام الدولة السياسية وعلى ضم الضفة الغربية، وموافقة الولايات المتحدة على الإنجاز الإقليمي تعني الإقرار بمشروعية هذه الحكومة الإسرائيلية، وتقوية حظوظ نتانياهو السياسية وخطوته. وقد يكون هذا الثمن الذي لا تحجم إدارة بايدن عن تسديده. لكن عليها استعمال نفوذها في الحؤول دون تآكل الدولة الإسرائيلية ومؤسساتها.
وعلى القدر نفسه من الخطورة، على الإدارة اشتراط إجراءات تستجيب لمشاغل الفلسطينيين، وتحافظ على إمكان قيام دولتين. وأعلن السعوديون، من غير تفصيل، ضرورة حماية المصلحة الفلسطينية. وهم قد يترددون في الإقدام على عقد اتفاق مع أشد حكومة إسرائيلية تطرفاً في تاريخ إسرائيل. ويتمسك الملك سلمان بن عبد العزيز بالموقف السعودي والعربي التقليدي واشتراط السيادة الفلسطينية على الحرم الشريف في القدس، أو جبل الهيكل، على ما يسميه اليهود.
ويخشى أن يتراخى الأميركيون في اشتراطاتهم الفلسطينية على الإسرائيليين، وأن يعمد الطرفان الإقليميان إلى تجنب الوساطة الأميركية، والامتناع من تسديد ثمنها. ويعلق الأمل على موقف الديمقراطيين في الكونغرس، وإصرارهم على تضمين الاتفاق الإقليمي بنداً فلسطينياً واضحاً ومقبولاً. والضمانات الأميركية شرط لا غنى عنه في أي اتفاق إقليمي. وآخر ما على إدارة بايدن أن ترضخ له هو ترك التحالف الذي يقوده نتانياهو ينجو من تبعات سياسته في الشأن الفلسطيني.
هذا يعني أن على الاشتراطات الأميركية والسعودية أن تكون متماسكة على نحو ينهي ضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها، ويحمل الفلسطينيين على قبول الاتفاق. وعلى الاشتراطات هذه أن تنص على تجميد أعمال الاستيطان خارج المستوطنات القائمة في الكتل المجازة، وأن يعلق العمل في المستوطنات الجديدة وتشييد الأبنية المعزولة، وتفكك الأبنية المعزولة والقائمة منذ 2001 (بحسب تعهد إسرائيلي حكومي في 2004) … وأن تلتزم الحكومة الإسرائيلية (وليس رئيسها وحده) حل الدولتين وتضمينه عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية.
ولا شك في أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لن تقبل هذه الشروط. ولكن اشتراطها يخير نتانياهو بين القبول بها وعقد السلام المرجح، وبين الرضوخ لوزرائه التوسعيين، ويحرجه. وقد يدعوه إلى اقتراح حكومة وحدة وطنية على المعارضة.
والأرجح كذلك ألا ترضى المعارضة، وعلى رأسها مرشحها إلى رئاسة الحكومة بيني غانتز، إنقاذ نتانياهو، وتداول رئاسة الحكومة، مع الاضطرابات السياسية الناجمة عن الصيغة المجربة تلك. وصيغة التداول تضعف المبادرة السلمية وتؤخرها.
وعلى الشطر الفلسطيني ألا يرفض المبادرة وأن يعد العدة لتوثيق التعاون الأمني مع إسرائيل، والتزام إجراء انتخابات ديمقراطية. ويسعه توقع انخراط مالي عربي طويل الأمد يتيح له إنشاء الأبنية التحتية وإرساء هيئات دولة وطنية مرجوة.
لا مغامرة إذاً لا جزاء
والحق أن على اتفاق سلام واعتراف ترعاه الولايات المتحدة، ويراعي التوازنات الضرورية، أن يعالج القلق الأميركي من نفوذ الصين في الشرق الأوسط، ويثبت القيادة الأميركية في المنطقة. وهو، إلى ذلك، إنجاز مهم وراجح في دائرة السياسة الخارجية قبل انتخابات 2024 الرئاسية. وهو يتوج عقوداً من الجهود الأميركية في سبيل حسم النزاع الإسرائيلي- العربي.
وعلى بايدن، إذا قرر المضي في المبادرة، السهر الدائب [الحثيث] على التوفيق بين المطالب السعودية وبين السعي في السلام الإسرائيلي- الفلسطيني. والتخلي عن اتفاق يرضخ لبعض الاشتراطات المتعسفة، ولا يلتزم المبادلة بالمثل ويماشي الحكومة الإسرائيلية الحالية من غير لجم إجراءات ضمها الضفة الغربية، خير من عقده في هذه الحال، وعلى هذه الشروط.
* دانييل سي كورتزير، سفير الولايات المتحدة سابقاً في مصر، وفي إسرائيل، وأستاذ دراسات سياسية في الشرق الأوسط في مدرسة الأعمال الحكومية، جامعة برينستون.
* آرون ديفيد ميللر باحث أول في كارنيغي للسلام الدولي ومحلل سابق في وزارة الخارجية، دائرة الشرق الأوسط، وهو مفاوض سابق في إدارات جمهورية وديمقراطية.
* مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب) 2023
المصدر: اندبندنت عربية